فِي
مِثل هَذَا الشَّهر وهَذِه الأيَّام مِنَ العَام 2011م، وفِي خِضَم أَحدَاثٍ مُزعِجَة
اجتاحَتْ العَالَم العَربِي، تَصَادَف وُجُودي فِي مَدِينة بريطانيَّة تُسمَّى بُورنمُوث،
وهي مَدِينة سَاحليَّة جَمِيلة، يغلُب عَليهَا الهُدُوء والسَّكِينة، يُفضِّلها كِبَار
السِّن، لِمَا تمتازُ بِه مِن جَمَال طبيعيٍّ، وطقسٍ مُنعِش، وتُسَاعد علَى الهَرَب
مِن زَحمَة وإزعَاج وصَخَب المُدن، ويعيشُ فِيهَا أيضًا جاليَات عربيَّة ومِن مُختلف
دُول العَالم؛ بهَدَف الدِّرَاسة والاستجِمَام والاستِرخَاء.
ذَاتَ
يَوْم ذَكَر لَنَا أحدُ الأصدِقَاء مِن المَملَكَة العربيَّة السُّعوديَّة عَن مَدِينة
زَارَها تُسمَّى "توركاي" أو "توركي"، تَقَع فِي جَنُوب غَرْب
المَملَكَة المُتَّحِدة، وقَد شدَّنِي وَصفُه لَهَا، وطَرِيقة نُطْق اسمِها، فقرَّرتُ
زِيَارَتها، وتَصَادف أيضًا أنَّ أحدَ الأصدِقَاء مِن مَملَكَة البَحرِين يُدعَى "علي"،
قرَّر زِيَارة هَذِه المَدِينة للإقَامَة فِيهَا، وتَكمِلَة دِرَاسة اللغةِ
الإنجليزيَّة فِي أَحَد مَعَاهِدها، فاتَّفقنَا عَلَى أنْ نَذهَب مَعًا عَن طَرِيق
البَاص؛ نظرًا لسِعر تَكلِفتِه المُنخَفِضة، ولِكَي نَستَمتعُ بمَنَاظر الطَّريق.
فِي
بِريطَانيَا هُنَاك خدمَة الإقامَة مَع عَائِلة تُسمَّى "بيد آند بريكفاست"
(Bed
& Breakfast)، مِن خِلَالِها يُمكِن التعرُّف عَلى طَبِيعة
حَيَاة النَّاس فِي تِلك المُدن وثَقَافتِهم وعَادَاتِهم، فحَجزَتُ مَع عَائِلة
للإقامَةِ مَعهُم لليلتيْن، تَشمَل السَّكنَ مع وَجبة الإفطَار. تقرَّر سَفرُنا
إلى هَذِه المدينَة فِي الصَّباح البَاكر، كَان الجوُّ يَومَها شديدَ البُرودَة،
وتَصَادف ذَلِك العَام زِيَادة شِدَّة بُرُودة الشِّتاء، وارتِفَاع تَسَاقُط الثُّلوج
فِي بريطانيَا عَن غَير عَادتِه، وقَبل صُعُودنا إلى البَاص أو حَافِلة نَقل الرُّكاب،
اشتريتُ مِن مَركزٍ تِجَاريٍّ يَقَع بالقُرب مِن مَحطَّة نَقل الرُّكاب بَعضَ الفَطَائر
مع عَصِير فَاكِهة مُشكَّلة، فتنَاولتُها فِي المَحطَّة، فكُنَّا فِي شَوْق للتعرُّف
عَلى هَذِه المَدينَة، التي وَصَفَها صَدِيقُنا السُّعودي بالسَّاحِرة، والتي تَحملُ
مَلَامِح شَرقيَّة فِي نُطق اسمِهَا.
رَكِبنا
البَاص، وكَان مُتوسِّطا فِي الحَجْم؛ نظرًا لقِلَّة عددِ الرُّكاب المُتجِهين إلى
هَذِه المَدِينة، ونحنُ فِي الطَّريق، وبَعْد مَسَافة بَسِيطة مِن مَحطَّة نَقْل
الرُّكاب، شَعُرت بتلبُّك مَعويٍّ، صَاحَبه غثيانٌ وشعورٌ بالقيء، حَاولتُ المُقَاومة،
إلا أنَّ الأمرَ قَد زَاد، فهرعتُ إلى حِمَّام البَاص فوجدتُه يُرثَى لَه، تذكَّرتُ
حينَها مَقُولة: "لا تُصدِّق كلَّ مَا تسمعُه أُذنَاك، وصَدِّق مَا تَراه عَينَاك
ويفهمُه ويُصدِّقه عَقلَك، وأنَّ ما تَسمَعه أُذنُك لَيْس كَمَا تَرَاه بعَينِك..
استَخدمتُ الأكياسَ المُتَاحة مَعنَا، لتَفريغِ مَا فِي بَطنِي، ولكنَّ الأمرَ قَد
استمرَّ مَعِي طَوَال الرحلَة، كُنتُ أنزَع مِن شِدَّة الألمِ والشُّعور بالغَثَيان،
لَم يتحرَّك أيُّ سَاكنٍ مِمَّن هُم فِي البَاص ولَو بكَلِمة، وكَذَلك هُو السَّائق
لم يلتَفِت إلى مَا يَحدُث.. حَاوَل صَدِيقي البَحرِيني مُسَاعدَتِي، ولَكِن لَيس
بَيدِه حِيلَة، لَقَد أخذتُ بردًا فِي مَعدتِي مِن شِدَّة بُرودَة الطَّقس فِي ذَلِك
اليَوم، أو كَانْت تِلكَ الفَطَائر والعَصَائر هِي سَببُ مَا حَصَل لِي.
وَصلنَا
مدينة "توركي"، وكَانَ الجوُّ رماديًّا مُمطِرًا مُنعِشًا، وَمَع وُصُولنا
فِي مَحطَّة نَقل الرُّكاب فِي تِلك المَدِينة، أخذنَا سيَّارَة أُجرَة لتَوصِيلِنا
إلى مَكَان إقامتِنا، فتفرَّقنا حِينَها، كلُّ واحدٍ مِنَّا في قَرنة من المَدينة.
نزلتُ
مُنهَكًا مِن التَّعب، وطرقتُ بابَ بَيْت السَّكن، فخَرَج لِي صَاحبُ الدَّار، كَان
رجلًا عَجُوزًا، يلبَس لباسًا مليئًا بالأصبَاغ، وكأنَّه عَامِل يَعمَل في مِهنَة صَبْغ
أو دِهَان البُيوت، فسَألتُه عَن صَاحِب البَيْت، فقال: "أنَا صَاحِب البَيْت،
مرحبًا بِك"، فظهرتْ حِينَها زَوجَته مُرحِّبة أيضًا، وبَعد مَا تَعَارفنا،
سلَّمتِني مَفَاتيح غُرفَتي، فكَانَت غُرفة مُثِيرة ومُرِيحة ونَظِيفة، فألقيتُ نَفسِي
عَلى السَّرير مِن شِدَّة التَّعب والألَم، جَاءَت حِينَها تِلك المَرْأة العَجُوز
طَالِبةً جَوَاز السَّفر، فخَاطبتُها: "إنَّني أشعُر بالتَّعَب الآن، وأريدُ
أنْ أنَام"، فابتسمتْ فِي وَجهِي مُعتَذِرة عَن مَنظَر زَوجِها؛ لأنَّه كَان
فِي ذَلِك اليَوم يَقُوم بصَبْغ جِدَار بَعْض الغُرَف؛ لأنَّهم يعتَمدُون على أنفُسِهم
فِي كلِّ شيء، فنِمتُ يَومَها نومًا عَمِيقا، فصَحوت فِي مُنتَصَف الليل جَائِعًا،
فنَاديتُ أهلَ البَيْت، فَظَهر لِي ذَلِك الرَّجل مَرَّة أخرَى، ولَكِن بثِيَاب
أنيقَة، فطلبتُ مِنهُ بَعضَ الأَكل، أو بَعضَ الحِسَاء السَّاخِن، فأوقَظ زَوجَته،
وَمِن شِدَّة حُبِّها لعَملِها، وفَّرتْ لِي مَا طلبتُ.
وفِي
الصَّبَاح البَاكِر قُمتُ مُبكِّرا، وشَعُرت حِينَها برَاحَة وانتعَاش بَعد نَوْم
عَمِيق، فوَلجت إلى مَكَان تَناول الإفطَار، فكَان عِبَارةً عَن صَالَة جَمِيلة، مُطلَّة
عَلى أَشجَار ووُرُود، وكَان يَومَها الجوُّ مَاطِرًا وجَمِيلًا، كَان يَجلسُ بجَانِبي
شَخصَان مَليئَان الجَسم، يَأكُلان بنَهَم شَدِيد، فسَألتنِي المَرأَة صَاحِبة الدَّار:
"مَاذا تُرِيد مِن الأَكل فِي وَجبَة إفطَارك هَذَا الصَّباح؟"، قُلت
لها: "أُوملِيت بيض مَع بَعْض الخُبز، مَع كُوب مِن الشَّاي أو الحَلِيب"،
فنَظَرت لِي مُستَغرِبة، فقَالتْ لِي بصَوْتٍ مُنخَفِض: "فَقَط هَذَا"،
قُلتُ لَها: "نعم، فَقَط هَذَا"، فأتتنِي بِمَا طَلبت، وقَالَتْ لِي: "إنَّ
المَطعمَ مفتوحٌ لَك فِي كلِّ وَقْت، وكل مَا تَشتَهِي فِي أيِّ وَقت، وبدُون أيِّ
مُقَابِل"، قُلتُ لَها: "لِمَاذا هَذا الكَرَم؟ فالاتفاقُ مَعِك لوَجبَة
الإفطارِ فَقَط"، قالتْ: تَرَى الشَّخصَين الآخرين اللَّذيْن أمَامَك"،
قُلت: "نَعَم"، قالت: "مِنَ الصَّبَاح البَاكِر وهُما يأكُلَان، ولَمْ
تَنتَهِ طَلبَاتِهما"، فَكَانت تِلْك المَرأَة كَرِيمة وخَدُومة جِدًّا، تَقُول:
"أنَا أحبُّ عَمَلِي هَذا، وأحبُّ أنْ يَكُون بجَودَة عَالِية"، فكَان بَيتُها
نَظِيفًا ومُرتَّبًا عَلى الرَّغمِ مِن صِغَر مِسَاحته.
كَان
ذَلِك الصَّبَاح مُمتِعًا بجمالِه الشِّتوي، سَاعَد كَثيرًا فِي استعادةِ نَشَاطي
الجِسْمِي، بَعْد يَوْم مُتعِب وشَاق، فخَرجَتُ تَحتَ رَذَاذ المَطَر لاكتشافِ المَدِينة،
فالتقيتُ صَدِيقي "علي" البَحرِيني، وتجوَّلنَا معًا فِي المدينةِ ومَعَالِمها،
فـ"توركي" مَدِينةٌ جَمِيلةٌ وهَادِئة، أُشبِّهها بمَدِينة القُرم فِي
عُمان، فبيُوتُها مبنيَّة عَلى تِلَال صَخريَّة مُتلاصِقَة، وهِي مَدِينة أثريَّة
قَدِيمة، وهِي أيضًا مَسْقط رَأس الكَاتِبة المَعرُوفة والرِّوائِيَّة البُوليسيَّة
الشَّهِيرة آجَاثا كِريستي، وفِيهَا مَينَاء وَاسِع وشَاطِئ شَديد الرَّوعَة والجَمَال،
إضافَة إلى مَطَاعم ومَقَاهٍ عَدِيدة، يُقدِّم بعضُها مَأكُولات هِنديَّة.
زَوْج
تِلكَ المَرأَة الطيِّبَة يَهوَى الغَوْص واكتِشَاف أَعمَاق البِحَار، فتَصَادَف وُجُود
بَعضِ الأقراصِ المُمغنَطة، حَملتُها مَعِي مِن عُمان، تَحكِي عَن مَعَالم السِّياحَة
فِي السَّلطنة، حَصَلتُ عَليهَا مِن وَزَارة السِّياحة، فأهدَيتُه بَعض النُّسَخ مِنها،
وعَرَّفته عَن طَرِيق شَبكَة المَعلُومات الدَّوليَّة عَلَى بَعضِ مَوَاقعَ الغَوْص
فِي عددٍ مِن سَوَاحل السَّلطنة، وَكَان مُعجبًا جدًّا بجَمَال الشّعَاب المُرجانيَّة
ومَنظَرها البَهِيج.
بَعْدمَا
حَانَ مَوعدُ المُغَادَرة، دفعتُ تَكَاليف الإقامَة، فقرَّرتُ حينَها العَوْدَة
بالقِطَار، وعِند وقُوفِنا فِي مَحطَّة القِطَار، قِيلَ لَنَا: "إنَّ القِطَار
بِه عُطل، وعَليكُم الانتقالُ إلى المَحطَّة التَّالية، لرُكُوب قِطَار آخَر، فتمَّ
نَقلُنا بسَيَّارة صَغِيرة إلى تِلك المَحطَّة، فصَعدنَا القِطَار، وطارَ بِنَّا
كالرِّيح إلى وُجهتِنا الجَدِيدة.
وَصَلتُ
"بورنمُوث" مَع حُلول المَسَاء، وإذَا بمُفتَاح غُرفة الإقامَة فِي بَيت
"توركي" ضِمْن مُحتويَات جَيبِي، شَعُرت حِينَها بالأسَف الشَّدِيد لِمَا
حَصَل دُوْن قَصْد، ومَع صَبَاح اليَوم التَّالي ذَهبتُ مُباشَرةً إلى مَكتَب البَرِيد،
فوَضَعتُ المفتاحَ فِي ظَرْفٍ، عَنونتُه باسمِ صَاحِب البَيْت، فكتبتُ لَهُم
بالبريدِ الإلكترونيِّ، مُعتَذرًا عَن نِسيَان تَسلِيم المُفتَاح عِند مُغَادَرتِي
للبَيْت، مَع شُكرٍ وتَقديرٍ للحَفَاوة وكَرَم الضِّيافةَ وحُسن الاستِقبَال؛ فكَانَ
ردُّ تِلك العَائِلة الكَرِيمة بكَلِمَاتٍ لَطِيفة ورَاقِية، أَشعَرتنِي بأهميَّةِ
المُؤتَلفِ الإنسانيِّ، وقِيَم التَّفاهُم والتَّسَامُح، ومَشَاعر المَحبَّة والسَّلام
بَيْن جَمِيع ثَقَافات العَالَم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.