الثلاثاء، 31 مارس 2020

تَحيَّة للإِعلَام العُماني


هُنَاك ثَقَافة صِحيَّة مُتجدِّدة، وقِيَم سُلوكيَّة رَفيعَة، ووَعْي مُجتَمعِي مُتنَامٍ فِي بَلدِنا الحَبِيبَة عُمان، اتِّجَاه الأزمَة التي يمرُّ بها العَالم هَذِه الأيَّام، وهِي جَائحة "انتِشار فَيرُوس كُورُونا (كُوفِيد 19)"، وَمَا تحملُه مِن مَخَاطر عَلى صِحَّة الإنسَان، وتَقدُّم وتَطوُّر العُمرَان.
وهَذِه الصُّورة الذِّهنيَّة والمعرفيَّة والتوعويَّة للأَزمَة، وظُرُوفها ونَتَائجهَا وطَرَائق الوقَايَة مِنهَا، وآليَّة التَّعامُل مع تطوُّراتها، عمَّت كَافَّة أَفرَاد المُجتَمع، واستَفَاد مِنهَا كافَّة المُستويَات الثقافيَّة، واستَهدفتْ كافَّة الفِئَات العُمريَّة، بِمَن فِيهِم الأطفَال.
لَقَد أَدَار الإعلامُ العُمانيُّ هَذِه الأَزمَة بحِرفيَّة تَامَّة، وهَذَا لَيْس بغَرِيب عَلى كَوَادِره المُجِيدة؛ فالإِعلَام العُمانيُّ مُنذ تأسِيسِه فِي عَهْد جَلَالة السُّلطان قابُوس بِن سَعِيد -طيَّب اللهُ ثَرَاه- يَسِير بخُطًى وَاثِقة، عِمَادُها الصِّدق والشَّفافية وإِدَارة المَوَاقف بوَاقِعيَّة.
تحيَّة مَحبَّة، وشُكر وتَقدِير لكَافَّة العَامِلين فِي وَسَائل الإِعلَام المُختَلفة.. وفَّقهُم اللهُ فِي تَأدِية رِسَالتِهم السَّامِية.

الاثنين، 30 مارس 2020

الأحد، 29 مارس 2020

كَلِمَة شُكر

شُكرًا لهَذَا الرَّجُل المُخْلِص، ولجُنُود كَتِيبَتِه البَيْضَاء الأَوْفِيَاء.. حَفِظهُم الله.

الجمعة، 27 مارس 2020

فِي ذِكْرَى خَلفَان بِنْ مُحمَّد الفَارِسي - رَحِمَه الله

يتأمَّل خَيْرَات الأَرْض بسَعَادة ورِضَا، التي حَرَثَها يَومًا بأنَامِله الغضَّة، وسَقَاها بعَرَقِه وجَهْدِه، لتَبْقَى خُضرَة الزَّرع والشَّجر دَومًا سِرَّ الحَيَاة.. يَستَقبِل زَبَائنَه فِي السُّوق القَدِيم مَع إِشَراقَة نُور الصُّبح، ليَملَأ المَكَان مَحبَّة وبَهْجَة، ثمَّ يَعُود إلى بَيْتِه مُبتَسمًا قَانعًا بِمَا جَادَت بهِ الأرضُ والسَّمَاء، وببَسَاطتِه تِلك وتَوَاضعِه الجَم كَسَب مَحبَّة النَّاس الوَفيَّة وقُلوبِها الصَّافِية.. هَا هُو اليَوْم خَلفَان يَحتَضِن الأَرض بجَسَدِه الطَّاهر، بَعدمَا وَدَّع الحَيَاة، لتَبْقَى ذِكرَى كِفَاحِه وعَملِه شَاخِصَة أمَام أولَادِه، ومَغرُوسَة فِي قُلُوب مُحبِّيه.. رَحِمكَ اللهُ أيُّها العَزِيز رَحْمَةً وَاسِعةً، وتغمَّدك الرَّحمَن بمَغفِرتِه وعَفْوِه ورُضوَانِه، وأَسْكَنَك فَسِيح جنَّاتِه، ولَا حَوْل ولَا قُوَّة إلَّا بالله.

الاثنين، 23 مارس 2020

تَأمُّلات

تَرْسُم لَوحَة خَضْرَاء فِي الأُفُق المُلبَّد بالغُيُوم.. تَتفرَّع أَغصَانُها وكأنَّها الشَّرَايين، المُتدفِّق بَيْن حَنَايَاها بَلسمُ الحَيَاة.

السبت، 21 مارس 2020

رَحمَة اللهِ وَاسِعَة، وأعظَم مِمَّا نَتخيَّل


مِن تُرَاثِنا الطَّبيعِي


شَجَرة السِّدر مِنَ الأشجارِ المُبَاركة في عُمان، لَها ارتباطٌ وِثيقٌ بتُراثِنا الثَّقافي والغِذَائي مُنذ القِدَم، وجَمِيع مُكوِّنات وأجزَاء شَجَرة السِّدر لَهَا استخداماتٌ عَدِيدة فِي حَيَاتِنا اليوميَّة: الثِّمَار والأَورَاق واللِّحَاء والجَذع، جَميعُهَا كَانَت مَصْدَر غِذَاء ودَوَاء وصَلاء.. هَذَا المَوْسِم يَشْهَد وَفرةً فِي ثِمَار النَّبق عَلى أَثَر الأمطَار والخَصب، الذي عمَّ البِلَاد، والحمدُ لله.
قَدِيمًا.. كَانَت ثِمَار النَّبق تُجمَع وتُخزَّن ولَهَا قِيمَة، وإِذَا مَا شُح طَحِين القَمح، طُحِنت عَلى الرَّحَى وكَان خُبزًا شهيًّا. يُروَى أنَّ أحدَ الأعيَان وَفِد إليهِ ضَيفٌ، وكَانت تُرَافقه مَجمُوعة كَبِيرة مِن خَاصَّته، فاحتَار أهلُ المُضِيف فِي تأدِيَة وَاجِب الضِّيَافة، لشُح الأرز أو العِيش فِي ذَلِك الزَّمَان، فأمَر المُضِيفُ أهلَه بطَحْن ثِمَار النَّبق، التي تمَّ تَخزِينُها فِي قَفر لهَذَا الغَرَض، فطحن النَّبق عَلى آلَة الرَّحى القَدِيمة، فجَهز مَعَه اللَّحم لتوفّره، ثُمَّ طُبخ وهُرِس مَع دَقِيق النَّبق، فقُدِّمت أكثَر مِن أربعين بَسطَة أو صَحنًا للضُّيوف، فكَان طَعَامًا وفيرًا وشهيًّا، فأكَل الجَمِيع وشَبع.
لَم تَعُد اليَوم شَجَرة السِّدر بتِلكَ الأهميَّة كَمَا كَانَت، لتغيُّر نَمَط الحَيَاة، ولَكِن تَبقَى لهَا قِيمَة تاريخيَّة وذَاكِرة مُهمَّة فِي تُراثِنا الثقافيِّ والطبيعيِّ، واهتمامِ البلديَّات فِي رِعَايتها والاهتِمَام بهَا، وغَرسِها فِي الأماكِن العَامَّة، وعَلَى جَانبيْ الشَّوَارع الرَّئيسيَّة، بمَثَابة تَكرِيم لهَذِه الشَّجرة المُبَارَكة؛ فهِي لَهَا قِيمَة جَمَاليَّة ومَعنويَّة، وكَانتْ -ولا تَزَال- مَنبعَ العَطَاء والكَرَم، مَهمَا كَانتْ الظُّروف المناخيَّة وتغيَّرت أحوالُ الزَّمَان.

الجمعة، 20 مارس 2020

مِنْ تُرَاثِنا الثَّقَافِي

هَذِه الصُّوَر لجَانِب مِن فَلَج الحِيل القَدِيم.. استَقْصَيتُ مَسَار هَذَا الفَلَج مِن أَوَّله إلى آخِره مَشيًا وبالسَّيارة لِعدَّة مَرَّات مُنذ سَنَوات طَوِيلَة، ومرَّة كِدنَا نَغرَق في إحدَى البِرَك المائيَّة فِي مَسَاره، وقَد دَوَّنتُ تَفَاصِيل هَذِه الحَادِثة مِن قَبْل.
تَأمَّلتُ هَنْدَسة هَذَا الفلَج المِعمَاريَّة الرَّائعة، مُحتَضِنًا سَاقِيته المُتهدِّمة، المُعتَّقة برَائِحة الطِّين والصَّاروج، المُزدَانة برُوح الطَّبيعَة، والمَوسُومة بجَمَال ورُقي الإِبدَاع الإنسَاني، واستَمعتُ إليهِ مُنصِتًا ومُصغِيًا، ليَبُوح لِي سرَّ حِكَايتِه أو أسطُورتِه القَدِيمة، وهِي مُوثَّقة عَبْر كِتَاب "قُريَّات.. عَرَاقة التَّارِيخ ورَوْعَة الطَّبِيعَة" فِي طَبْعَته الثَّالِثة، وكَذَلك فِي الطَّبعَة الثَّانِية مِنْ كِتَاب "قُريَّات.. مَلَامِح مِنَ التَّراثِ الزِّراعيِّ والبَحْريِّ"، وأيضًا عَبْر تَدْوينَات هَذِه الصَّفحَة المُتَواضِعَة، مرئيًّا وصُورَة وكَلِمَة، وَمَن أَرَاد التَّفَاصِيل فليَرْجِع إليهَا.
مَا استَوقفنِي كَثِيرًا كَثْرَة تِقنية "غرّاق وفلّاح" عَبْر مَسَار هَذَا الفَلَج الأثري.. فمَا هُو الغرّاق والفلّاح، وفقًا لمُصطَلحِنَا الزِّراعيِّ المحليِّ المُتدَاوَل مُذ القِدَم؟
هِي تِقنِيَة قَدِيمَة، عَرفَها المُزَارعُون ومُهندسُو الأَفلَاج في عُمان؛ للتغلُّب عَلى عَوَائِق مَجَارِي المِيَاه؛ سواءً كانتْ سَاقِية لفَلَج مبنيَّة مِنَ الحَصَى والصَّارُوج، أو عَامِد تُرَابي فِي ضَاحِية مِنَ الضَّوَاحي.
فَإِذا مَا صَادَف وُجُود مُرتَفَع صَخْرِي يَحُول بَيْن بِنَاء السَّاقِية، وانسِيَاب وتَدفُّق المِيَاه بسهُولَة، أو إِذَا كَانَت الأرضيَّة غَير مُستويَة.. هُنَا تُستخدَم هَذِه التَّقنيَة.
وهِي عِبَارة عَن تَفعِيل جَاذبيَّة الأَرْض وضَغْط المِيَاه فِي ذَلك؛ فتُبنى فَتْحَة فِي الأَرْض فِي جِهَة تُسمَّى "غرّاق"، وفِي الجَانِب الآخَر فَتْحَة أخرَى تُسمى "فلّاح"، وتُربَط بسَاقِية تَحْت الأَرْض، فيَنسَكبُ المَاء مِن فَتحَة، لينفَذ بقُوَّة مِنَ الفَتْحَة الأخرَى.. وقِيل: غرّاق فلّاح.

الخميس، 19 مارس 2020

مِنْ عَالَم الحَشَرَات


حَشَرَة صَغِيرَة مُنتَشِرة فِي البِيئَة العُمانيَّة، قوَّتُها أكبَر مِن حَجْمِها؛ لَهَا دَوْر مُهمٌّ فِي توازن النِّظام الإيكولوجي، وفي المُقَاومَة البيولوجيَّة.

الأربعاء، 18 مارس 2020

مِنَ الذَّاكِرة

شَكَّلت الحَمِير -إلى جَانِب الجِمَال- وَسِيلةً فَاعِلةً فِي عَمليَّات النَّقل والتنقُّل البري قبل ظُهُور السيَّارات في عُمان، ومَا مِنَّا إلَّا لَه ذِكريَات جَمِيلَة مَعَ هَذِه الحَيَوانَات الأَلِيفَة، التي تَحمَّلت مَعنَا مَصَاعِب الحَيَاة ومَشقَّة العَمَل، خَاصَّة عِند التنقُّل بِهَا عَبْر الطُّرق الوَعرَة فِي الجِبَال الشَّاهقة، والأَودِية الصَّخريَّة العَمِيقَة، وَهِي مُحمَّلة بأَثقَال المَتَاع وأَجْسَاد البَشَر، دُون أنْ تَشْتَكِي أو تَتذمَّر، بَل قَد تَحْظَى مِن البَعْض بتِلْك الضَّرَبَات القَاسِية بالعَصَا، بدلًا مِن نَظَرَات الشَّفقَة والعَطْف عَلى مَا هِي عَليهِ فِي ذَلِك الزَّمَان.
الحَمِير مُنذ الأَلف الرَّابِعة قَبْل المِيلَاد هِي رَفِيقَة الإِنسَان، بَعْد أنْ استَطَاع أنْ يَستَأنِسها، لتَكُون لَه خَيْر مُعِين فِي تَنقُّلاته وحَمْل أَثقَالِه، مُدْرِكًا أهمِّيتها ودَوْرَها، مُتمتِّعًا بجَمَال قَوَامِها ومَنْظَرِها، لأنَّها إِحْدَى فَصَائل الخُيُول البَريَّة، التِي تضمُّ الأَحْصِنَة المُستَأنسَة والحَمِير الوَحشيَّة والبِغَال.
للحِمَار قِيمةٌ ثَقَافيَّة فِي التَّاريخ البَشَري، ولَكِن للأَسَف اعتَاد الكَثِير مِنَ النَّاس عَلَى وَصْف الحِمَار بالغَبَاء والبَلَاهَة، فِيمَا هُو مِنَ الحَيَوانات الأَلِيفَة والذَّكية، ويَعُدُّه البعضُ رَمزًا وشِعَارًا للثَّورة والعِنَاد والمُثَابَرة وقوَّة التحمُّل وإِرَادَة التَّغيير، واعتَبَره البَعضُ أيقونةً سِياسيَّة مُهمَّة وِفقَ مُكوِّنات الثقافَة والحَضَارة الغربيَّة، بَل وَصَفهُ البعضُ بالنَّخبويَّة، لبُعدِه عَن الهُمُوم، وتميُّزه بالشُّرود التأمُّلي، واتَّخذته أيضًا بَعض الشَّرِكَات الغربيَّة وسيلةً دِعَائيَّة، وعَلَامَة تِجَاريَّة لتَسْوِيق مُنتَجَاتِها، وجَنيتْ بسَبَبهِ مِئَات المَلَايِين مِنَ الدُّولَارَات.
ارتَبَطتْ الحَيَاة الزِّراعيَّة والجَبليَّة عِندَنا بعَلَاقة حَمِيمَة مَع الحَمِير؛ فكَانَت تَلقَى عِنَايَة فَائِقَة مِنَ النَّاس، ويتمُّ تَربيتُها وتَدرِيبُها والعِنَاية بهَا، وقَد تَحمَّلت تِلك الدَّواب المُطِيعَة أعباءً ثَقِيلة قَبْل وُصُول السيَّارات، فيُحمَل عَلى ظُهُورها جَرب التُّمور، وجَوَاني الملح، وأَثوَاج الرَّمل والحَصَى والطِّين؛ وذَلِك عَبْر طُرُق وتَضَاريس وَعرَة جِدَّا، إضافة إلى نَقل قلات الطَّعام، أو القتِّ، وعُذُوق البسر والرُّطَب والجُذٌوع، والأَسمَاك الثَّقيلَة مِن شَاطِئ البَحْر إلى السُّوق.
وَمَن مِنَّا لا يَتذكَّر قِطَار تِلك القَوَافل التِّجاريَّة مِنَ الجِمَال والحَمِير فِي السُّوق القَدِيم؟! وَمَن مِنَّا لا يتذكَّر مُخيَّمات "السَّفافير" وحَمِيرهم تَحْت أَشْجَار الغَاف وَارِفة الظِّلال، المُطلَّة بجَمَالها الأخَّاذ على السُّوق القديم؟! هِي ذِكريَات وقِيمَة ثَقَافيَّة وفَنيَّة قَدِيمة رَاقِية، جسَّدتها حَيَاة وتَقَاليد ذَلِك السُّوق العريق، ونِدَاءَات بَاعتِه الفنيَّة والتسويقيَّة الرَّائعة، والتي وثَّقتها -بجَهْد مُتَواضِع- فِي الطَّبعَة الثَّالثة مِن كِتَاب "قُريَّات.. عَرَاقة التَّاريخ ورَوْعَة الطَّبيعَة"، والطَّبعَة الثَّانية مِن كِتَاب "قُريَّات.. مَلَامِح مِن التُّراثِ الزِّراعيِّ والبَحْريِّ".
تَميَّزت الحَمِير عِندنَا بأَلوانِها البرَّاقة، فأَكثرُها الأَبيض والرَّمَادي والأَشهَل والأَسوَد، وتُشكِّل ذَات اللونِ الأبيض الأَكْثَر شُهرَة ومَكَانة وقِيمَة، وكَانوا يُطعمونَها العُشب والقتَّ والنَّفِيعة وبَقَايا التُّمور، بَل يُسعِّطونَها السَّمنَ العُمانيَّ، لتَقويةِ جَسَدِها وعَضَلاتِها.
وتُكنَّى الحَمِير بـ"أبو صَابِر"؛ لصَبْرِها وتَحمُّلها للتَّعَب والمَشَاق، وعِند العَرَب أَسْمَاء أخرَى، وصَوتُها يُسمَّى عِندَنا بـ"الشَّحيج" والأَصَح هو النَّهِيق، وصَغِير الحُمَار يُسمَّى بـ"الجَحْش"، وأُنثَى الحِمَار تُسمَّى "حِمَارة" أو "أتَان"، وإِذَا ما أنجَبتْ أنثَى الحُصان مِن الحِمَار سُمِّي وَلدُها بـ"البَغْل"، وإذا مَا كَان بالعَكْس سُمِّي بـ"النَّغْل"، وَهِي كَلِمة قَدِيمَة مَيِّتة، لها دَلَالات أُخرَى بالدَّارجة.
تُهيَّأ للحَمِير أَمَاكِن أو مَرْبَط لاستِرَاحتِها؛ تَكُون عَادةً تُربَتُها ليِّنة، تُسمَّى مَرَاغة، تتقلَّب فِيهَا لدَعْك وتَدْلِيك جِسمِها وتَنظِيف جِلدِها، وتُزيَّن بمَجْلِس عَلى ظَهْرِها يُسمَّى بـ"الجواد أو الحِلس"، يَعلُوه أُكاف أو بَرْدَعة، أو أقتب، نُقِشَت بأَجْمَل الزَّخَارف، وكَذَلك هِي غَرضتها وخِطَامها أو مُقوِّدها الصُّوفي أو الفِضِّي المُزركَش، ويُعلَّق فِي رَقبتِهَا جلجلٌ صَغِيرٌ (جَرَس) يُصدِر صَوْتًا مُوسِيقيًّا جَمِيلًا، ليُسلِّيها فِي سَيْرِها، وللتعرُّف عَلى مَكَان تَوَاجُدها إِذَا مَا أُخْرِجَت للمَرْعَى.
لَمَ يَعُد للحِمَار اليَوم حَاجَة؛ فَهُو يَهِيم -بِلا رِعَايَة- فِي الفَلَاة والصَّحَاري والبَوَادِي لوَحدِه، مُستَريحًا مِن قَسْوَة ومَشقَّة تِلكَ الحَيَاة الصَّعبَة، ونَسِي الكَثِيرُ الدَّورَ الذي كَانت تَلعبُه تِلكَ الحَيوانَات الأَليفَة فِي حَيَاتِنا، وسُلَالتِها العُمانيَّة مُعرَّضة للانقِرَاض فِي ظلِّ هَذَا الإِهمَال والنِّسيَان.. ولَكِن تَبقَى ذَاكِرتُها وخَدَماتُها مَاثِلةً فِي الذَّاكِرة، كُلَّما استَعَاد الإِنسانُ مَرَاحِل عُمرِه، وتفكَّر كَيْف نَقلَت تِلك الجَنَادل والصُّخور لطَوي الطُّويان، وبِنَاء قُصُور الطِّين وبُيُوت الصَّارُوج، وكَذَلِك لتَشيِيد تِلك القِلَاع والأَبْرَاج الشَّامِخَة، الرَّابِضَة عَلى قِمَم الجِبَال.

الأحد، 15 مارس 2020

تنثرُ أبيات شِعْر بصَمْت

زنبُور المَاء (اليعسُوب)

هَذِه الحَشَرة الصَّغِيرة، ذَات ألوَان مُتعدِّدة، برَّاقة فِي الأجوَاء المُشمِسَة الشَّفَافة، بأجنِحَتِها اللامِعَة مَع الضَّوء، التي تُزيِّن سَوَاقي الأفلَاج، وجَوَابي، وأَحوَاض الطويَان، وغدرَان المَاء، بحَرَكاتِها الجذَّابَة ونَشَاطِها المُستمِر بلَا توقُّف، قَد حَار مَعَها العُلمَاء وعُشَّاق أسرَارِ الطَّبيعَة والجَمَال.
رَفرَفة أجنِحَتِها ودِقَّة حَركَتها وإمكانيَّة تَعلُّقها فِي الهَواء باستِمرَار للرَّاحة، هِي عَظَمة رَبانيَّة لمُكوِّنات بِيئتِنَا الطبيعيَّة.. حَشَرة صَغِيرة ضَعِيفة هشَّة الجِسم، إذَا مَا أَمسكتَ بِهَا تفتَّتْ وذَابَتْ بَيْن أصبعَيك، كانتْ يَومًا مُلهِمة لعُلمَاء المُختَرعَات والطَّيران، وللمُتأمِّلين فِي مَخلُوقات الله وجَمَال هَذا الكَوْن الفَسِيح.
هَذِه الحَشَرة الجَمِيلة بقوَامِها الأخَّاذ، هِي وَسِيلة حيويَّة فَاعِلة وفتَّاكَة فِي القَضَاء عَلى الكَثِير مِنَ الكَائِنات والحَشَرات الضَّارة، والمُؤذِيَة للإنسَان والبِيئَة.
سُبحَان الله.. حَشَرة جَمَعتْ بَيْن جَمَال الشَّكل والقَوَام، وخِدْمَتِها للبيئةِ والإنسَان.

ذِكْرَى


السبت، 14 مارس 2020

تجلِّيات

لمباة الباب.. وَقَفتُ مُتأملاً هَذِه اللَّمبَاة "شَجَرة المَانجُو"، التي يَزِيد عُمرها عَلَى أَكْثر مِن مِائتَي عَام.. لَقَد خَذَلها العُمر، فَشطرَتْ عَوادي الزَّمان بَعْضَ أَغْصَانها المُمتدَّة، التي احتَضَنتْ يومًا كَائنَات الأَرض والسَّمَاء، واستراحَ تَحْت ظِلها الوَارِف الإنسانُ والحَيَوان، وأَطعمتْ كلَّ مَن يدبُّ عَلى الأَرْض بأحلَى ثِمَار.. مَا زَالَت هَذِه الشَّجرة المُعمِّرة مُبتَهِجة بالحَياة؛ فعَلى الرَّغم مِن الأَلم، فَهَا هِي أغصانُها المُتبقِّية النَّابضَة بالحَياة، تتزَيَّن بحلَّة ذَهبيَّة، لتُوَاصِل العَطَاء.

حَفْظَ اللهُ عُمان وأَهْلَها الكِرَام


"الحِسُّ الوَطنيُّ فِي عُمان هُو محلُّ فَخْر"، "لا يُمكِن للشَّجرَة أَنْ تُثمِر دُونَ أَنْ تَكُون لَهَا جُذُور".

الخميس، 12 مارس 2020

زِرَاعة القَمح

طَالعتنَا بَعضُ وَسَائل الإعلَام العُمانيَّة، مُؤخَّرا، بأَخبَار عَن وَفرَة مَحصُول القَمح المُنتَجَة فِي مَزَارع بعضِ الوَلايَات، وهو أمرٌ مُفرِح جدًّا، الاهتمام بهذا المحصُول لأهميَّتِه الغذائيَّة، فالقمحُ العُمانيُّ والحبوبُ بأنواعِهَا، المَزرُوعة في عُمان مَعرُوفة بجَودتِها العاليَّة، وهي أكثرُ سَلامَة مُقَارنة بالمُستَورَد.
تاريخيًّا.. لم تَعرِف عُمان استيرادَ الحُبوب، إلا العيش أو الأُرز، فكُلُّ الحُبُوب كانتْ تُزرَع في عُمان، بمَا فِيهَا الشِّعير والقَمح والعَدس والبَاقِل والذُّرة بأنَواعِها... وغَيرِها، وعِندَمَا دَاهمتنَا الجَائِحة الاقتصاديَّة نَتِيجة للحَرْب العالميَّة الثانيَة، بسَبَب انقطاعِ الوَارِدات، كَانتْ الزِّراعة هِي المنجَاة الوَحِيدة لأهلِ عُمان، وقَد فَصَّلتُ هَذِه الحَادِثة وتَدَاعِياتها فِي كِتاب "قُريَّات.. مَلامِح مِنَ التُّرَاث الزِّراعي والبَحْري".
يُروَى أنَّ بَلدَة المَزَارع مِن البُلدان التي كَانَت تُنتِج القَمحَ بوَفرَة، لتَوافُر المِيَاه، خَاصَّة بلَدة الحِصن، ومِنَ اللَّطَائف القَدِيمة: أنَّ أحدَ مُلَّاك الأموَال فِيهَا استأجَرَ عَامِلًا لطَحْن البرِّ أو القَمْح على آلةِ الرَّحى التقليديَّة، ومِن كَثرَة إنتَاج القَمح، تَعِب ذَلِك العَامِل مِن الطَّحْن وَكلَّت يَدُه، فكَان يَطحَن بعضَ القَمح ويدسُّ البعضَ تَحْت التُّراب، لكي يُنهِي عَملَه بسُرعَة، وعِندَما استنكرَ ذَلك الرَّجُل الطيِّب قِلَّة مَا يُنتِجه العَاِمل من الطَّحِين، مُقَارنة بكميَّة حُبوب القَمح، ترصَّد له واكتشفَ حِيلتَه، وما إنْ صَارَحه بالحَقِيقة، حتَّى اعترفَ العَاملُ بجَرِيرته مُعتَذِرا لأنَّ الإنتاجَ وفيرٌ، فما إنْ سَمِع صَاحِب المَال سببَ فِعلته حتَّى ابتَسَم فِي وجهِهِ مُسَامحًا، رَافِعا يَديهِ إلى السَّماء شَاكِرا اللهَ عَلى النِّعمَة.. القِصَّة تَجدُونها مُفصَّلة في الكتابِ أعلَاه.

الثلاثاء، 10 مارس 2020

سَرْد الذَّاكرة

ارتَبطتُ بأخِي الأكَبر خَليفَة -رَحِمَه الله- بعَلَاقةٍ وجدَانيَّةٍ وفكريَّةٍ لا تُوصَف ولا تُنسَى؛ فهُو لَه الفَضْلُ فِي تَربيتِنَا وتَعلِيمنا بَعْد اللهِ ثُمَّ سَيِّدي الوَالِد، ضَحَّى بعُمرِهِ وحَيَاتِه مِن أجلِ خِدمَة وَطَنِه وتَكوينِنَا، نسألُ اللهَ أنْ يَجزِيه عنَّا خَيرَ الجَزَاء والإحسَان فِي دَارِ القَرَار.
فِي مَطْلَع السبعينيَّات ومَع تولِّي مَولَاي جَلالَة السُّلطان قَابُوس بِن سَعِيد بن تَيمُور -طيَّبَ اللهُ ثَرَاه- زمامَ الحُكمِ فِي البلادِ كَانتْ عُمان تفتقدُ كلَّ شيء: لا صِحَّة، ولا تَعلِيم، ولا طُرُق، ولا مُوَاصَلات، ولا تنميَة تُذكَر، كانتْ هُنَاك أيضًا في ظفَار حَرَكة ثوريَّة مُشتَعِلة بدأتْ في العام 1965م، كانتْ بِدايتُها تُطَالِب بالتَّغِيير والإصلَاح، ثُمَّ تحوَّلت لاحِقًا إلى تَوجُّهات جَدِيدة مَدعُومة مِن الخَارِج، تَحملُ بذورًا فكريَّة مَقِيتَة، لا تَقبلها التُّربَة العُمانيَّة.
جَابَه السُّلطان قَابوس -رَحِمه الله- تِلكَ الظُّروف ببَصِيرة وحِكمَة وعَقلانيَّة وصَبر؛ فكَانَتْ هُنَاك يدٌ تَبنِي وتعمِّر في كلِّ شِبر مِن أرضِ عُمان، ويدٌ أخرَى تَحملُ السَّلاح للذَّودِ عَن شَرف الأمَّة وحِيَاض الوطَن، وتَحمِي مُقدَّراته الوطنيَّة ولحُمَته المُجتمعيَّة، وتردَّ بَحزمٍ على كلِّ عدوٍّ حَاقدٍ، أو خَائنٍ كَائدٍ، أو مُتربِّص حَاسِد.
خَاطَب جَلَالة السُّلطان قابُوس حينَها قِيَادات المُجتَمع، لتكوينِ طَلائعَ قوَّاتِه المُسلَّحة البَاسِلة، فدَفَع جدِّي وأَبِي بأخِي الأكبَر خليفة لتلبيةِ نِدَاء القَائدِ والوَاجِب؛ فكَانَ فُرَاقُه مِن أصعَب ما يَكُون عَلى أمِّي وعَلينَا جميعًا؛ حيثُ كانَ يظلَّ شُهُورًا في جَبهةِ القِتَال دُونَ أنْ نرَاه أو نسمَع صَوتَه؛ لغِيَابِ وَسَائل الاتِّصَال فِي ذَلِك الزَّمان.
كَانَ الجيشُ بَيْن الحينِ والآخَر يَزُور الولايَات لعَرْض بَعضِ الأفلامِ التسجِيليَّة والوَثائقيَّة؛ لمُخَاطَبة الرَّأي العام، وتَكوِين صُورةٍ ذهنيَّة لِمَا يَحدُث في ظفَار.
كُنتُ أذهبُ مَع أصدقاءِ المدرسةِ لمُشَاهَدة تِلك الأفلامِ بالقُربِ مِن حِصْن الولَايَة، لعلَّي أَحظَى بمُشَاهَدة أخِي وخَالِي سَعِيد، المُرابطِيْن هُنَاك في جِبَال ظفَار، ولكِي أتعرَّف عَلى مَا يحْدُث هُناك، بفُضُولِ الطِّفل المُميَّز.
كَانَت المَشَاهد تَعرِض مُنجَزَات أفرادِ الجيش، ومَعهُم رِجَال الفرقِ الوطنيَّة عَلى جَبهةِ القِتَال، كَانَتْ تِلكَ المَشَاهد بمَثَابة صُورَة حيَّة للتعبِيرِ عَن أهميَّة المَكَان وجمالِه، وطَبيعَة الحَياةِ فِي ظفَار، كَمَا ارتسمتْ أيضًا في ذِهنِي صُورةٌ عَمَّا كَان يتميَّز بهِ رجالُ الفِرَق: لبسُهم، وشِدَّة بأسِهم، وطَريقة حَيَاتهم. وكَانتْ مُخيِّلتي كطِفل تَتَساءَل: لِمَ هَذِه الحَرب، ونحنُ نَعيشُ عَهدًا جَديدًا، وقادَ جَلالَة السُّلطان قُابوس حركةً تصحيحيَّةً فِي البِلَاد؟!
وفِي العَام 1975م، انتهتْ تِلكَ الظُّروف، وخَمدتْ تِلَك الحَربِ بحِكمةِ جَلَالة السُّلطان قابُوس، وعَادَ الجميعُ إلى رُشدِه وجَادَّة الصَّوَاب، واحتَوى جلالتًه بقلبِه الرَّحِيم، وفِكرِه النيِّر، ونَظرَتِه الحَكِيمة، كلَّ مَنْ أخطَأ وغُرِّر به، والتَحَم الجميعُ فِي لُحمةٍ وطنيَّةٍ تَحتَ قِيادتِهِ فِي صَفٍّ وَاحدٍ للبناءِ والتنميَة، وكَان لأخِي خَليفة مِنَ التَّضحِيات مَا كَان، والحمدُ للهِ على كلِّ حال.
كَانَتْ ظفَار -مَنبَع النُّور، وإشرَاقَة نَهضَة عُمان الحَدِيثة، بقيادةِ جَلَالة السُّلطان قابُوس- فِي مُخيِّلتِي دائمًا؛ ففِي بدايَة ثمانينيَّات القرنِ المُنصَرِم قرَّرنَا -أنَا ومَجمُوعَة مِن أصدقَاءِ المَدرسَة- زِيَارَة مُحافَظة ظفَار، فاستَأجرنَا حَافِلة لتُقلِّنا إلى ظفَار، وشَاءَت الأقدَارُ حِينَها أنْ أمُرَّ بظُروفٍ صِحيَّة مُفَاجِئة مَع وقتِ خُروجِنا وبدايَة رِحلتِنا تِلك، فقرَّرتُ الاعتذارَ عَن الرِّحلَة، إلا أنَّ الأصدِقَاء -مِن مَحبَّتِهم وتَقدِيرِهم- أصرُّوا علَى صُحبَتِهم، مَهمَا كَانَت الظُّروف، فلبيتُ رَغبتَهُم ودَعْوتَهُم، فلقِيتُ مِنهُم كلَّ رِعايَة وحَنَان.
تَوقَّفنا فِي سُوق نزوَى فِي انتظارِ أصدقاءٍ مِن إمَارة دُبَي بدَولَة الإمَارَات العربيَّة المُتَّحدة، ليلتَحِقوا معنَا فِي هَذه الرِّحلة، فأحدُهم كَان صديقًا لأحَد زُملَاء الدِّراسة إبَان تواجُده فِي دولةٍ أوروبيَّة، كَان مِن بَينِهم أحدُ شُيُوخ دُبي يُدعَى الشَّيخ حشَر، يَصحبُه ولدَاه الصَّغِيران، المُحِبَّان للعبِ والمَرَح، وإتقَانِ بَعض الألعابِ الناريَّة، كانَ ذَلِك الرَّجل الوقُور الأكبَر سِنًّا فِي هَذه الرِّحلَة، وكانَ يتَّصفُ أيضًا بالتواضُع والكَرَم والتَّقدِير والاحتِرَام.
جَمعَتنَا حَافِلة وَاحِدة: أخوةً، أحبَّاء، مُتعَاونين فِي كلِّ شَيء، فِيمَا استقَلَّ الشَّيخ حشر سيَّارَته الخَاصَّة مِن نَوع الجِيمس، وكانَ مِن نَصِيبي أنْ أَكُونَ فِي صُحبَتِه فِي تِلك السيَّارة الفَارِهة، فانطَلقنَا جَميعًا شَوقًا إلى ظفَار، التي نَزُورَها جَميعًا لأوَّل مَرَّة.
كَانَ الطَّريق مُتعَبا وشَاقًّا لطُول المَسَافة؛ فوَصلنَا ظفَار مَع هجْعَة اللَّيل وفي حلكَة الظَّلام، فاستَقبلتْنَا برَذَاذ المَطر، ونسَمَات الخَرِيف المُنعِشة، فأزَالَت عنَّا الكَدَر والنَّصَب، وانتَعشتْ الأجسادُ المُرهَقَة، وتفتَّقتْ المشاعِرُ والخَواطِرُ -المُنكَسِرة- نشَاطًا وحَيويَّة.
استقرَّ بِنَا المُقام -دُون دَلِيل- فِي غَابَة خَضْراء، ومَا هِي لحظَات، إلَّا برجَالٍ أشَاوِس يُحيطُون بِنَا، كَانُوا مُدجَّجين بالسِّلاح، عِندَها -ومَع رُؤيتِي لَهُم مُباشَرة بتِلكَ الصُّورَة لأوَّل مَرَّة فِي حيَاتي- عادتْ بِي الذَّاكِرة لمُشَاهد تِلك الأفلَام التسجِيليَّة والوثائقيَّة، التي كَان يَعرِضُها الجَيش فِي السبعينيَّات، فتذكَّرتُ حينَها تِلك الأجسَاد القويَّة والوجُوه المُشرِقة، بلباسِها ونَبَرات أصوَاتِهم المُميَّزة.
كَانتْ مَلامحُهم فِيها مِن القوَّة والبَأس والانضِبَاط، ولكنَّ مُعامَلتهم لنَا كَانتْ فيهَا مِن رُوح المحبَّة والكَرَم الكَثير، نبَّهُونا بعَدَم الإقامَة فِي هَذا المكَان، لأسبَابٍ وضَّحُوها لنَا، فتحرَّكنَا نَجُوب صَلالة الغنَّاء فِي تلكَ الليلةِ الحَالِمة، فاستقرَّ بنَا المُقام في سَاحَة وَاسِعة، بجانبِ مَجرًى للمَاء، يتسَلسَل فِي ساقيَة طَويلَة بلَا انقِطَاع، لا نَعرِف مِن أَيْن تَأتِي وتنبُع تِلك الميَاه وإلى أَيْن تَذهَب، وفي الجَانِب الآخَر المُقابِل لنَا كانتْ هُنَاك مزرَعَة غنَّاء، تُضفِي علَى المكَان البهجَة والجمَال، تُحيطُ بهَا أشجارُ النَّارجيل (نَخِيل جوْز الهِنْد) باسِقَة في عنَان السَّماء، كَانتْ تتسمُ بالهيبَة والسَّكِينة والهدُوء، لبُعدِها عن الحرَكَة والعُمرَان.
تمَّ نَصبُ الخِيَام فِي ذلِك المكَان، ليَطِيبَ السَّكن والمُقام، وتستقرَّ المَشاعِر والعَواطِف، تَحتَ ظِلال الغيُوم الدَّاكِنة، كانَ الجوُّ رماديًّا مُمطِرا، ينعشُ النفوسَ والخَواطِر، ونَشَر فيمَا بينَنا المحبَّة وصَفَاء القُلوب، وأزَال عنَّا التعبَ والكَدَر والأمرَاض.
قَضَينَا أيَّامًا جَميلَة فِي ذَلِك المكَان، نَجُوب الفيَافِي والجِبَال والمعَالِم في أنحَاء ظفَار، وَسط حَفَاوة أهلِ الكَرَم والنَّخوَة وصُنَّاع البطُولات من أَهل ظفَار المَيامِين. وفِي المَسَاء وعِندمَا يُسدلُ الليلُ خُيوطَه بألوانِه المُبهِجة، ويُضِيء نورَ القمَر، وتَسطُع النُّجوم لتُزيِّن السَّماء، كانَ سَالِم بِن عَلِي سَعِيد، وسَالِم محَاد، وأحمَد مُبَارك غَدِير، ومِسلَّم بِن عَلي.. وغَيرهم، يَشدُون بأَعذَبِ الألحَان والكَلَام، ويَصدَحُون بأجمَل أُغنِياتِهم الوطنيَّة والعاطفيَّة، ليطرَب الجَمِيع، وتَسكُن المشاعرُ مَع رَذَاذ الخَرِيف النَّاعِمة.
كَانَت ظفَار فِي ذَلِك الصَّيف جنَّة الله فِي أرضِه، فبيْنَمَا مَسْقط ومُدُن الخَلِيج تَلتهبُ بدَرجَات حَرَارة الصَّيْف العَاليَة، تَجِد هَذِه البُقعَة مِن أرضِ عُمان الغاليَة تكسُوها الخُضرَة والبهْجَة والجَمال، وتهبُّ عَليهَا نَسمَات الصَّيف البَاردة المُنعِشة للأجسَاد والقُلوب؛ الأمرُ الذي أدَّى إلى تَعلُّقي بذَلِك المكَان، وزِيارتِه باستِمرَار.
ذَاتَ صَبَاح مُبهِج شَفِيف الضِّياء، ونحنُ فِي جوِّ المَرَح والسَّعَادة بهذَا الجَمَال الرَّبانِي والمَنَاظِر الأخَّاذة، وإِذَا بسيَّارة تَقِف في جِهَة من الشَّارع المُقابِل لمُخيَّمنا، كَان حِينَها أحدُ رِجَال الشُّرطة يزَورنَا؛ كَونهُ زَميلًا وصَدِيقًا لنَا مِن قَريتِنا، نَادَى مَن فِي السيَّارة عَلى ذَلِك الشُّرطي، فذَهَب إليهِ، وبَعد بُرهَة تحرَّكتْ تِلك السيَّارة شاقَّة طَريقِها إلى وجْهَة لا نَعرِفها، وعادَ إلينَا الشُّرطي الصُّديق ليُبلغنَا أنَّ مَن فِي السَّيارة يَسَأل عَنكُم، ويُبلِغكم التحيَّة والسَّلام، سألنَاه عمَّن ذَلك الرَّجُل؟ قالَ: إنَّه مَولَاي جَلالَة السُّلطان قابُوس.
كَانَ المشهدُ عظيمًا؛ فكانَ مُخيَّمنا فِي مُحِيط قَصْر ومَزرَعة السُّلطان، دُون أنْ نعلَم أو نُمنَع، فتمنيتُ حينَها لَو ذهبتُ إلى تِلك السيَّارة لأُصَافح ذَلِك الرَّجل العَظِيم وأُقبِّل يدَه؛ فهُو بمكَانَة أبِي قَبل أنْ يِكُون قَائِدي وقُدوتِي، فكَيْف لَا ونحنُ نَعِيش فِي ظلِّ مُنجزَاته العَظِيمة، وننَعم بخَيرَات عَهدِه المَيمُون الوَفِيرة، التي عمَّت الأرجَاء، وعَلى رَأسِها نِعمَة الأَمْن والأَمَان والوحَدة الوطنيَّة، التي هِي إحدَى أهم الرَّكَائز التِي تَقُوم علَيهَا مُقوِّمات الوَطَن وأسَاس تَنميتِه وتطوُّره.
مرَّت السَّنوات، وكَانَ لِي شَرَف المُشَاركة فِي مَهرجَانات الأعيَاد الوطنيَّة كطَالِب، كَان جَلَالة السُّلطان -رَحِمه الله- يَرعَى مِثل هَذِه المُناسَبات الوطنيَّة، ويلقِي خِطَابًا يَرسِم فِيهِ رُؤيتِه واستِشرَافه للمُستقِبل فِي عُمان، كُنَّا نَستبشرُ ونَسعَد برُؤيتِه مُبَاشرة، ونَصغِي بحُبٍّ ووَفَاء إلى نَبرَات صَوتِه المُميَّزة، وأفكَارِه المُستنِيرة، وتوجِيهَاته الحَكيمَة المُؤثِّرة في المَيدَان، وفي مُنَاسَبات وطنيَّة عَدِيدة، دُون أيَّة حَواجِز.
وفي العام 1993م، أمَر جَلالتُه -رَحِمه الله- بتَخصِيص ذَلِك العَام عامًا للشَّبَاب، فكَان قَبلُه أيضًا عَام الشَّبيبَة فِي العَام 1983م، وهِي حِكمَة ساميَة لأهميَّة دَوْر الشَّباب وضَرُورة رِعَايتهم وتَشجِيعِهم، والدَّفع بقُدرَاتِهم وتَمكِينهم لأدَاء أدوَارِهم ومَهامِهم ووَاجِبَاتِهم الوطنيَّة، ومَع احتفالاتِ السَّلطنة بالعِيد الوطنيِّ وعَام الشَّباب أمرَ جَلالتُه بدَعوَة نُخبَة مِن شَبَاب الوَطن مِن مُختَلف ولايَات السَّلطَنة، للمُثُول بَيْن يَدي جَلالتِه فِي حَفل خَاص للشَّباب.
كَانَ مِن يُمن الطَّالع ومَحَاسن الصُّدف أنْ أحظَى بهَذَا الشَّرف العَظِيم؛ فلبيتُ الأمرَ بوَلَاء وطَاعَة، فذهبتُ فِي المَوعِد المُحدَّد إلى مَسْقط.
تَمَّ تَجميعُنا فِي البدايَة فِي المُجمَّع الرِّياضي بولايَة بُوشر (شَبَاب وفَتَيات)، فسُلِّمت لنَا مَصَار جَمِيلة، يتوجَّب علينَا أنْ نَرتدِيها، لنبدُو أكثَر أنَاقَة، بَينمَا سلَّمت الفتَيات (لواسي فتقة) رُسِمَت عليهَا مَعَالم تاريخيَّة مِن جَمِيع مُحافظَات السَّلطنة، وكأنَّ المشهدَ يحملُ دَلالَات غَير مُباشِرة، لرَبْط المَاضِي بالحَاضِر.
أقلَّتنا الحَافِلات الفَارِهة إلى قَصْر العَلَم المَهِيب بمَدِينة مَسْقط العَامِرة، فولجنَا القَصرَ بسُهولة ويُسر، فأخذَنا مَقاعِدنا فِي حَدِيقة القَصْر الفَسيحَة الخَضرَاء الزاهيَة، المُزدَانة بالزُّهور والوُرود ذَات الألوَان الجَذَّابة، المُطلَّة عَلى زُرقة البَحر المُبهِجة، وعلى قِلَاع مَسْقط الشَّامِخة وتَارِيخِها المَجِيد.
كُنتُ أتخيَّل وأَعِيش عَظَمة هَذا المَشهَد ومَسِيرة التنميَة فِي الوَطن، وأُفكِّر فِيما يَنبغِي أنْ أقولَ وأتحدَّث بِه، إذَا مَا التقيتُ جَلَالة السُّلطان وتحدَّثت إلِيه مُبَاشرة.
كَانَ الجميعُ فِي لَهفَة وشَوْق للقاءِ الأَب والقَائِد، ومَا هِي إلا لَحظَات يَسِيرة، وإذَا بعَظَمَة السُّلطان يَخرُج إلينَا، بهَيبتِه المَعهُودة وبُرتُوكُوله الصَّارم وأناقَتِه الدَّائِمة، ويُطلُّ عَلينا بكَارِيزمَا القَائد الفَذ، المُؤثِّر فِي القُلوب والوجدَان الوَطنِي، فأحَاطتْ بالمَكَان سَكِينة السَّلام.
وبتَواضُع العُظَماء، جَلَس جَلالتُه مَع ضُيُوف رِجَال الدَّولة عَلى طَاوِلة مُقَابلة لَنا، كُنَّا نُبحَلِق فِي شَوق وفَخْر إلى تِلك الطَّاولة المَهِيبة، المُزدَانة بالطَّلة المُشرِقة لخَيْر الرِّجَال وأنقَاهُم.
وبَعْد مُدَّة قَصِيرة مِن الزَّمن، وإِذَا بجَلالتِه يترجَّل مِن مَكَانه، فمرَّ عَلى كلِّ طَاولة فِي الحَدِيقة، ليتَحدَّث مَع الشَّباب ويُسلِّم عليهِم، كَانَ يَسمَع ويُصغِي بقلبِ الأب والقائدِ لحَديثِهم ومَشَاعِرهم ورُؤاهم، وفَجأَة بشَوْق الأبنَاء لأبِيهم نَهضَتْ تِلك الجُمُوع، مُشكِّلة كُتلةً بشريَّة مُتحرِّكة تُحِيط بقَائِدهم، فوَاصَل جَلالتُه تَرجُّله فِي الحَدِيقة، سَعيدًا مُبتسمًا مُصَافحًا الجميع، وَقَد شَرُفت بأنْ أَكُون مِن بَيْن هؤلَاء.

الثلاثاء، 3 مارس 2020

عُمان.. نَهضَة مُتجدِّدة وتنميَة إنسانيَّة مُستمرَّة

نَظْرة إلى الأُفُق البَعِيد، لرَسْم مُستقَبل عُمان.. حَفِظَكم اللهُ ووَفَّقكم لِمَا فيهِ الخَيْر.

تَحيَّة مَحبَّة

عَرفتُ عَبدالله الفُورِي لَاعِبًا مُحترِفًا، عَشق كُرةَ القَدَم وأخلصَ لَهَا، وتدرَّج فِي مَرَاحلهَا السنيَّة مُنذ نُعُومةِ أظْفَارِه، حتَّى وَصَل إلى الفريقِ الأوَّل بالنَّادي، كانَ حَارِسًا يَقِظًا لمَرمَى العَرِين، ولَهُ فِي ذَلِك مُنجزَاتٌ لا تُنسَى.. عِشقُه لكُرةِ القَدَم جَعَله يَحتَرِف التَّحكِيم، وفِيهِ صَالَ وجَالَ حتَّى بلوغِه القِمَّة فِي مجالِ التَّحكِيم، أَدَار مُباريَات عَدِيدة بكَفَاءة واقتِدَار.. عَبدالله يَعودُ لَهُ الفضلُ مَع خبيرٍ أجنبيٍّ فِي وَضْع دراسَةٍ علميَّة للعيونِ المُتدفِّقَة فِي البحرِ بسَاحِل حَاجِر دَغمر، ظلَّ شُهُورًا وفِي ظروفٍ مُناخيَّة صَعبَة مُحَاوِلا تَركِيب أنابيبَ لفوَّهَات تِلك العُيون، المُتدفِّقة ليلَ نَهَار، فِي مَنظرٍ يُبهجُ الألبابَ وتَحِيرُ مَعَه الأفكَار، هُو الآن يَعمَل باجتهادٍ فِي تَسويقِ المَكَانَة الطَّبيعيَّة لسدِّ وَادِي ضِيقَة، فتحيَّة مَحبَّة وتَقدِير لَهَذا العَطَاء.

الاثنين، 2 مارس 2020

في ذِكرَى سَعِيد بن سُلطان السَّناني

سَعِيد بِن سُلطَان السَّناني مِن الشَّخْصيَات المُتَواضِعة والخَدُومَة والمُخلِصَة في حُبِّ الوطن وخدمتِه، تألفُهُ القُلوب، لسِيرَتِه الطيِّبة مَع النَّاس، وهو أيضًا أحدُ الشَّخصِيات الرِّياضيَّة البَارِزة، التي خَدَمت النَّادي بجدٍّ وحبٍّ ومُثَابرة، قادَ الفريقَ الأوَّل في مَطْلع السبعينيَّات مِنَ القرنِ المُنصَرم، ولهُ -مَع زُمَلاء لَه- العديدُ مِنَ المُنجزات الرياضيَّة، التي نَفخرُ ونُفَاخِر بهَا.. في العام 2012م، اجتهدتُ بإصدارِ الطَّبعَة الثَّالثة من كِتَاب "قُريَّات.. مَاضٍ عَرِيق وحَاضِر مُشرِق"، وقد تناولَ الكتابُ في أَحَد فُصُولهِ تاريخَ ومُنجَزَات النادِي مُنذ تأسِيسِه، وتضمَّن أسماءَ كلِّ مَن عَمَل في النَّادي؛ كَانَ مِن بَيْنِهم: سَعِيد السَّناني، وعِندَما وَصلتُهُ نسخةَ الكِتَاب، حدَّثَنِي بعِبَارَات مَحبَّة وشُكر، وقال: "تَذكَّرتنِي أخِي صَالح فِيمَا نَسَاني الآخرُون"، قُلتُ له: "لا يُمكِن أنْ نَنسَى مُنجزَاتكم مَهمَا حَيِينا، فأنتُم مَن وَضعتُم القاعدةَ والأسَاس".. رَحمةُ اللهِ عَليك أيُّها العَزِيز سَعِيد، ستظلُّ فِي قلوبِنَا ووجدَانِنا.

الأحد، 1 مارس 2020

مع الأخ والصديق حسين البلوشي

مع الصديق والأخ سعيد بن حارب البلوشي


القُرى العُمانيَّة.. بَهجَة الجَمَال والألوَان

القُرَى العُمانيَّة بوَاحَاتها الخَضْراء؛ المُزدَانَة بخَيْرات الفُصُول، وطِيْبَة وكَرَم أهلِهَا، هِي مَبْعَث الخَيْر والرَّاحَة والهُدُوء.. زِيَارَتها والتجوُّل فِي ضَوَاحِيها المُبهِجة بالألوان، وتَشْجِيع وتَحْفِيز مَن يَعْمل فِي بَسَاتينها، وشِرَاء مُنتجَاتِهم الطَّازجَة، والاستِمَاع إلى أَحوَالِهم وحِكَايَاتهم، بمَثَابة دُرُوس فِي عِشق الأَرْض والإخْلَاص لَها.