الثلاثاء، 10 مارس 2020

سَرْد الذَّاكرة

ارتَبطتُ بأخِي الأكَبر خَليفَة -رَحِمَه الله- بعَلَاقةٍ وجدَانيَّةٍ وفكريَّةٍ لا تُوصَف ولا تُنسَى؛ فهُو لَه الفَضْلُ فِي تَربيتِنَا وتَعلِيمنا بَعْد اللهِ ثُمَّ سَيِّدي الوَالِد، ضَحَّى بعُمرِهِ وحَيَاتِه مِن أجلِ خِدمَة وَطَنِه وتَكوينِنَا، نسألُ اللهَ أنْ يَجزِيه عنَّا خَيرَ الجَزَاء والإحسَان فِي دَارِ القَرَار.
فِي مَطْلَع السبعينيَّات ومَع تولِّي مَولَاي جَلالَة السُّلطان قَابُوس بِن سَعِيد بن تَيمُور -طيَّبَ اللهُ ثَرَاه- زمامَ الحُكمِ فِي البلادِ كَانتْ عُمان تفتقدُ كلَّ شيء: لا صِحَّة، ولا تَعلِيم، ولا طُرُق، ولا مُوَاصَلات، ولا تنميَة تُذكَر، كانتْ هُنَاك أيضًا في ظفَار حَرَكة ثوريَّة مُشتَعِلة بدأتْ في العام 1965م، كانتْ بِدايتُها تُطَالِب بالتَّغِيير والإصلَاح، ثُمَّ تحوَّلت لاحِقًا إلى تَوجُّهات جَدِيدة مَدعُومة مِن الخَارِج، تَحملُ بذورًا فكريَّة مَقِيتَة، لا تَقبلها التُّربَة العُمانيَّة.
جَابَه السُّلطان قَابوس -رَحِمه الله- تِلكَ الظُّروف ببَصِيرة وحِكمَة وعَقلانيَّة وصَبر؛ فكَانَتْ هُنَاك يدٌ تَبنِي وتعمِّر في كلِّ شِبر مِن أرضِ عُمان، ويدٌ أخرَى تَحملُ السَّلاح للذَّودِ عَن شَرف الأمَّة وحِيَاض الوطَن، وتَحمِي مُقدَّراته الوطنيَّة ولحُمَته المُجتمعيَّة، وتردَّ بَحزمٍ على كلِّ عدوٍّ حَاقدٍ، أو خَائنٍ كَائدٍ، أو مُتربِّص حَاسِد.
خَاطَب جَلَالة السُّلطان قابُوس حينَها قِيَادات المُجتَمع، لتكوينِ طَلائعَ قوَّاتِه المُسلَّحة البَاسِلة، فدَفَع جدِّي وأَبِي بأخِي الأكبَر خليفة لتلبيةِ نِدَاء القَائدِ والوَاجِب؛ فكَانَ فُرَاقُه مِن أصعَب ما يَكُون عَلى أمِّي وعَلينَا جميعًا؛ حيثُ كانَ يظلَّ شُهُورًا في جَبهةِ القِتَال دُونَ أنْ نرَاه أو نسمَع صَوتَه؛ لغِيَابِ وَسَائل الاتِّصَال فِي ذَلِك الزَّمان.
كَانَ الجيشُ بَيْن الحينِ والآخَر يَزُور الولايَات لعَرْض بَعضِ الأفلامِ التسجِيليَّة والوَثائقيَّة؛ لمُخَاطَبة الرَّأي العام، وتَكوِين صُورةٍ ذهنيَّة لِمَا يَحدُث في ظفَار.
كُنتُ أذهبُ مَع أصدقاءِ المدرسةِ لمُشَاهَدة تِلك الأفلامِ بالقُربِ مِن حِصْن الولَايَة، لعلَّي أَحظَى بمُشَاهَدة أخِي وخَالِي سَعِيد، المُرابطِيْن هُنَاك في جِبَال ظفَار، ولكِي أتعرَّف عَلى مَا يحْدُث هُناك، بفُضُولِ الطِّفل المُميَّز.
كَانَت المَشَاهد تَعرِض مُنجَزَات أفرادِ الجيش، ومَعهُم رِجَال الفرقِ الوطنيَّة عَلى جَبهةِ القِتَال، كَانَتْ تِلكَ المَشَاهد بمَثَابة صُورَة حيَّة للتعبِيرِ عَن أهميَّة المَكَان وجمالِه، وطَبيعَة الحَياةِ فِي ظفَار، كَمَا ارتسمتْ أيضًا في ذِهنِي صُورةٌ عَمَّا كَان يتميَّز بهِ رجالُ الفِرَق: لبسُهم، وشِدَّة بأسِهم، وطَريقة حَيَاتهم. وكَانتْ مُخيِّلتي كطِفل تَتَساءَل: لِمَ هَذِه الحَرب، ونحنُ نَعيشُ عَهدًا جَديدًا، وقادَ جَلالَة السُّلطان قُابوس حركةً تصحيحيَّةً فِي البِلَاد؟!
وفِي العَام 1975م، انتهتْ تِلكَ الظُّروف، وخَمدتْ تِلَك الحَربِ بحِكمةِ جَلَالة السُّلطان قابُوس، وعَادَ الجميعُ إلى رُشدِه وجَادَّة الصَّوَاب، واحتَوى جلالتًه بقلبِه الرَّحِيم، وفِكرِه النيِّر، ونَظرَتِه الحَكِيمة، كلَّ مَنْ أخطَأ وغُرِّر به، والتَحَم الجميعُ فِي لُحمةٍ وطنيَّةٍ تَحتَ قِيادتِهِ فِي صَفٍّ وَاحدٍ للبناءِ والتنميَة، وكَان لأخِي خَليفة مِنَ التَّضحِيات مَا كَان، والحمدُ للهِ على كلِّ حال.
كَانَتْ ظفَار -مَنبَع النُّور، وإشرَاقَة نَهضَة عُمان الحَدِيثة، بقيادةِ جَلَالة السُّلطان قابُوس- فِي مُخيِّلتِي دائمًا؛ ففِي بدايَة ثمانينيَّات القرنِ المُنصَرِم قرَّرنَا -أنَا ومَجمُوعَة مِن أصدقَاءِ المَدرسَة- زِيَارَة مُحافَظة ظفَار، فاستَأجرنَا حَافِلة لتُقلِّنا إلى ظفَار، وشَاءَت الأقدَارُ حِينَها أنْ أمُرَّ بظُروفٍ صِحيَّة مُفَاجِئة مَع وقتِ خُروجِنا وبدايَة رِحلتِنا تِلك، فقرَّرتُ الاعتذارَ عَن الرِّحلَة، إلا أنَّ الأصدِقَاء -مِن مَحبَّتِهم وتَقدِيرِهم- أصرُّوا علَى صُحبَتِهم، مَهمَا كَانَت الظُّروف، فلبيتُ رَغبتَهُم ودَعْوتَهُم، فلقِيتُ مِنهُم كلَّ رِعايَة وحَنَان.
تَوقَّفنا فِي سُوق نزوَى فِي انتظارِ أصدقاءٍ مِن إمَارة دُبَي بدَولَة الإمَارَات العربيَّة المُتَّحدة، ليلتَحِقوا معنَا فِي هَذه الرِّحلة، فأحدُهم كَان صديقًا لأحَد زُملَاء الدِّراسة إبَان تواجُده فِي دولةٍ أوروبيَّة، كَان مِن بَينِهم أحدُ شُيُوخ دُبي يُدعَى الشَّيخ حشَر، يَصحبُه ولدَاه الصَّغِيران، المُحِبَّان للعبِ والمَرَح، وإتقَانِ بَعض الألعابِ الناريَّة، كانَ ذَلِك الرَّجل الوقُور الأكبَر سِنًّا فِي هَذه الرِّحلَة، وكانَ يتَّصفُ أيضًا بالتواضُع والكَرَم والتَّقدِير والاحتِرَام.
جَمعَتنَا حَافِلة وَاحِدة: أخوةً، أحبَّاء، مُتعَاونين فِي كلِّ شَيء، فِيمَا استقَلَّ الشَّيخ حشر سيَّارَته الخَاصَّة مِن نَوع الجِيمس، وكانَ مِن نَصِيبي أنْ أَكُونَ فِي صُحبَتِه فِي تِلك السيَّارة الفَارِهة، فانطَلقنَا جَميعًا شَوقًا إلى ظفَار، التي نَزُورَها جَميعًا لأوَّل مَرَّة.
كَانَ الطَّريق مُتعَبا وشَاقًّا لطُول المَسَافة؛ فوَصلنَا ظفَار مَع هجْعَة اللَّيل وفي حلكَة الظَّلام، فاستَقبلتْنَا برَذَاذ المَطر، ونسَمَات الخَرِيف المُنعِشة، فأزَالَت عنَّا الكَدَر والنَّصَب، وانتَعشتْ الأجسادُ المُرهَقَة، وتفتَّقتْ المشاعِرُ والخَواطِرُ -المُنكَسِرة- نشَاطًا وحَيويَّة.
استقرَّ بِنَا المُقام -دُون دَلِيل- فِي غَابَة خَضْراء، ومَا هِي لحظَات، إلَّا برجَالٍ أشَاوِس يُحيطُون بِنَا، كَانُوا مُدجَّجين بالسِّلاح، عِندَها -ومَع رُؤيتِي لَهُم مُباشَرة بتِلكَ الصُّورَة لأوَّل مَرَّة فِي حيَاتي- عادتْ بِي الذَّاكِرة لمُشَاهد تِلك الأفلَام التسجِيليَّة والوثائقيَّة، التي كَان يَعرِضُها الجَيش فِي السبعينيَّات، فتذكَّرتُ حينَها تِلك الأجسَاد القويَّة والوجُوه المُشرِقة، بلباسِها ونَبَرات أصوَاتِهم المُميَّزة.
كَانتْ مَلامحُهم فِيها مِن القوَّة والبَأس والانضِبَاط، ولكنَّ مُعامَلتهم لنَا كَانتْ فيهَا مِن رُوح المحبَّة والكَرَم الكَثير، نبَّهُونا بعَدَم الإقامَة فِي هَذا المكَان، لأسبَابٍ وضَّحُوها لنَا، فتحرَّكنَا نَجُوب صَلالة الغنَّاء فِي تلكَ الليلةِ الحَالِمة، فاستقرَّ بنَا المُقام في سَاحَة وَاسِعة، بجانبِ مَجرًى للمَاء، يتسَلسَل فِي ساقيَة طَويلَة بلَا انقِطَاع، لا نَعرِف مِن أَيْن تَأتِي وتنبُع تِلك الميَاه وإلى أَيْن تَذهَب، وفي الجَانِب الآخَر المُقابِل لنَا كانتْ هُنَاك مزرَعَة غنَّاء، تُضفِي علَى المكَان البهجَة والجمَال، تُحيطُ بهَا أشجارُ النَّارجيل (نَخِيل جوْز الهِنْد) باسِقَة في عنَان السَّماء، كَانتْ تتسمُ بالهيبَة والسَّكِينة والهدُوء، لبُعدِها عن الحرَكَة والعُمرَان.
تمَّ نَصبُ الخِيَام فِي ذلِك المكَان، ليَطِيبَ السَّكن والمُقام، وتستقرَّ المَشاعِر والعَواطِف، تَحتَ ظِلال الغيُوم الدَّاكِنة، كانَ الجوُّ رماديًّا مُمطِرا، ينعشُ النفوسَ والخَواطِر، ونَشَر فيمَا بينَنا المحبَّة وصَفَاء القُلوب، وأزَال عنَّا التعبَ والكَدَر والأمرَاض.
قَضَينَا أيَّامًا جَميلَة فِي ذَلِك المكَان، نَجُوب الفيَافِي والجِبَال والمعَالِم في أنحَاء ظفَار، وَسط حَفَاوة أهلِ الكَرَم والنَّخوَة وصُنَّاع البطُولات من أَهل ظفَار المَيامِين. وفِي المَسَاء وعِندمَا يُسدلُ الليلُ خُيوطَه بألوانِه المُبهِجة، ويُضِيء نورَ القمَر، وتَسطُع النُّجوم لتُزيِّن السَّماء، كانَ سَالِم بِن عَلِي سَعِيد، وسَالِم محَاد، وأحمَد مُبَارك غَدِير، ومِسلَّم بِن عَلي.. وغَيرهم، يَشدُون بأَعذَبِ الألحَان والكَلَام، ويَصدَحُون بأجمَل أُغنِياتِهم الوطنيَّة والعاطفيَّة، ليطرَب الجَمِيع، وتَسكُن المشاعرُ مَع رَذَاذ الخَرِيف النَّاعِمة.
كَانَت ظفَار فِي ذَلِك الصَّيف جنَّة الله فِي أرضِه، فبيْنَمَا مَسْقط ومُدُن الخَلِيج تَلتهبُ بدَرجَات حَرَارة الصَّيْف العَاليَة، تَجِد هَذِه البُقعَة مِن أرضِ عُمان الغاليَة تكسُوها الخُضرَة والبهْجَة والجَمال، وتهبُّ عَليهَا نَسمَات الصَّيف البَاردة المُنعِشة للأجسَاد والقُلوب؛ الأمرُ الذي أدَّى إلى تَعلُّقي بذَلِك المكَان، وزِيارتِه باستِمرَار.
ذَاتَ صَبَاح مُبهِج شَفِيف الضِّياء، ونحنُ فِي جوِّ المَرَح والسَّعَادة بهذَا الجَمَال الرَّبانِي والمَنَاظِر الأخَّاذة، وإِذَا بسيَّارة تَقِف في جِهَة من الشَّارع المُقابِل لمُخيَّمنا، كَان حِينَها أحدُ رِجَال الشُّرطة يزَورنَا؛ كَونهُ زَميلًا وصَدِيقًا لنَا مِن قَريتِنا، نَادَى مَن فِي السيَّارة عَلى ذَلِك الشُّرطي، فذَهَب إليهِ، وبَعد بُرهَة تحرَّكتْ تِلك السيَّارة شاقَّة طَريقِها إلى وجْهَة لا نَعرِفها، وعادَ إلينَا الشُّرطي الصُّديق ليُبلغنَا أنَّ مَن فِي السَّيارة يَسَأل عَنكُم، ويُبلِغكم التحيَّة والسَّلام، سألنَاه عمَّن ذَلك الرَّجُل؟ قالَ: إنَّه مَولَاي جَلالَة السُّلطان قابُوس.
كَانَ المشهدُ عظيمًا؛ فكانَ مُخيَّمنا فِي مُحِيط قَصْر ومَزرَعة السُّلطان، دُون أنْ نعلَم أو نُمنَع، فتمنيتُ حينَها لَو ذهبتُ إلى تِلك السيَّارة لأُصَافح ذَلِك الرَّجل العَظِيم وأُقبِّل يدَه؛ فهُو بمكَانَة أبِي قَبل أنْ يِكُون قَائِدي وقُدوتِي، فكَيْف لَا ونحنُ نَعِيش فِي ظلِّ مُنجزَاته العَظِيمة، وننَعم بخَيرَات عَهدِه المَيمُون الوَفِيرة، التي عمَّت الأرجَاء، وعَلى رَأسِها نِعمَة الأَمْن والأَمَان والوحَدة الوطنيَّة، التي هِي إحدَى أهم الرَّكَائز التِي تَقُوم علَيهَا مُقوِّمات الوَطَن وأسَاس تَنميتِه وتطوُّره.
مرَّت السَّنوات، وكَانَ لِي شَرَف المُشَاركة فِي مَهرجَانات الأعيَاد الوطنيَّة كطَالِب، كَان جَلَالة السُّلطان -رَحِمه الله- يَرعَى مِثل هَذِه المُناسَبات الوطنيَّة، ويلقِي خِطَابًا يَرسِم فِيهِ رُؤيتِه واستِشرَافه للمُستقِبل فِي عُمان، كُنَّا نَستبشرُ ونَسعَد برُؤيتِه مُبَاشرة، ونَصغِي بحُبٍّ ووَفَاء إلى نَبرَات صَوتِه المُميَّزة، وأفكَارِه المُستنِيرة، وتوجِيهَاته الحَكيمَة المُؤثِّرة في المَيدَان، وفي مُنَاسَبات وطنيَّة عَدِيدة، دُون أيَّة حَواجِز.
وفي العام 1993م، أمَر جَلالتُه -رَحِمه الله- بتَخصِيص ذَلِك العَام عامًا للشَّبَاب، فكَان قَبلُه أيضًا عَام الشَّبيبَة فِي العَام 1983م، وهِي حِكمَة ساميَة لأهميَّة دَوْر الشَّباب وضَرُورة رِعَايتهم وتَشجِيعِهم، والدَّفع بقُدرَاتِهم وتَمكِينهم لأدَاء أدوَارِهم ومَهامِهم ووَاجِبَاتِهم الوطنيَّة، ومَع احتفالاتِ السَّلطنة بالعِيد الوطنيِّ وعَام الشَّباب أمرَ جَلالتُه بدَعوَة نُخبَة مِن شَبَاب الوَطن مِن مُختَلف ولايَات السَّلطَنة، للمُثُول بَيْن يَدي جَلالتِه فِي حَفل خَاص للشَّباب.
كَانَ مِن يُمن الطَّالع ومَحَاسن الصُّدف أنْ أحظَى بهَذَا الشَّرف العَظِيم؛ فلبيتُ الأمرَ بوَلَاء وطَاعَة، فذهبتُ فِي المَوعِد المُحدَّد إلى مَسْقط.
تَمَّ تَجميعُنا فِي البدايَة فِي المُجمَّع الرِّياضي بولايَة بُوشر (شَبَاب وفَتَيات)، فسُلِّمت لنَا مَصَار جَمِيلة، يتوجَّب علينَا أنْ نَرتدِيها، لنبدُو أكثَر أنَاقَة، بَينمَا سلَّمت الفتَيات (لواسي فتقة) رُسِمَت عليهَا مَعَالم تاريخيَّة مِن جَمِيع مُحافظَات السَّلطنة، وكأنَّ المشهدَ يحملُ دَلالَات غَير مُباشِرة، لرَبْط المَاضِي بالحَاضِر.
أقلَّتنا الحَافِلات الفَارِهة إلى قَصْر العَلَم المَهِيب بمَدِينة مَسْقط العَامِرة، فولجنَا القَصرَ بسُهولة ويُسر، فأخذَنا مَقاعِدنا فِي حَدِيقة القَصْر الفَسيحَة الخَضرَاء الزاهيَة، المُزدَانة بالزُّهور والوُرود ذَات الألوَان الجَذَّابة، المُطلَّة عَلى زُرقة البَحر المُبهِجة، وعلى قِلَاع مَسْقط الشَّامِخة وتَارِيخِها المَجِيد.
كُنتُ أتخيَّل وأَعِيش عَظَمة هَذا المَشهَد ومَسِيرة التنميَة فِي الوَطن، وأُفكِّر فِيما يَنبغِي أنْ أقولَ وأتحدَّث بِه، إذَا مَا التقيتُ جَلَالة السُّلطان وتحدَّثت إلِيه مُبَاشرة.
كَانَ الجميعُ فِي لَهفَة وشَوْق للقاءِ الأَب والقَائِد، ومَا هِي إلا لَحظَات يَسِيرة، وإذَا بعَظَمَة السُّلطان يَخرُج إلينَا، بهَيبتِه المَعهُودة وبُرتُوكُوله الصَّارم وأناقَتِه الدَّائِمة، ويُطلُّ عَلينا بكَارِيزمَا القَائد الفَذ، المُؤثِّر فِي القُلوب والوجدَان الوَطنِي، فأحَاطتْ بالمَكَان سَكِينة السَّلام.
وبتَواضُع العُظَماء، جَلَس جَلالتُه مَع ضُيُوف رِجَال الدَّولة عَلى طَاوِلة مُقَابلة لَنا، كُنَّا نُبحَلِق فِي شَوق وفَخْر إلى تِلك الطَّاولة المَهِيبة، المُزدَانة بالطَّلة المُشرِقة لخَيْر الرِّجَال وأنقَاهُم.
وبَعْد مُدَّة قَصِيرة مِن الزَّمن، وإِذَا بجَلالتِه يترجَّل مِن مَكَانه، فمرَّ عَلى كلِّ طَاولة فِي الحَدِيقة، ليتَحدَّث مَع الشَّباب ويُسلِّم عليهِم، كَانَ يَسمَع ويُصغِي بقلبِ الأب والقائدِ لحَديثِهم ومَشَاعِرهم ورُؤاهم، وفَجأَة بشَوْق الأبنَاء لأبِيهم نَهضَتْ تِلك الجُمُوع، مُشكِّلة كُتلةً بشريَّة مُتحرِّكة تُحِيط بقَائِدهم، فوَاصَل جَلالتُه تَرجُّله فِي الحَدِيقة، سَعيدًا مُبتسمًا مُصَافحًا الجميع، وَقَد شَرُفت بأنْ أَكُون مِن بَيْن هؤلَاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.