السبت، 6 نوفمبر 2021

شَخصِيَّات طَوَاهَا الزَّمَان لا تَغِيب عَن الذَّاكِرَة.. الأمين..!

ارتبط السوق القديم في ولاية قريات بشخصيات وفية ومخلصة في عملها، ما تزال ذاكرتها مرسومة في القلب والوجدان، وتبوح بذكرياتها وسيرتها الخالدة، وهي أيضا محفورة في ذاكرة الأيام والمكان، اتخذت من العمل هواية وأسلوب حياة وصناعة مستقبل.. ولأهمية ومكانة السوق القديم، كأحد أقدم وأعرق الأسواق في سلطنة عُمان، فقد أفردت فصلا عن ذاكرة السوق القديم الاقتصادية والثقافية في الطبعة الثانية من كتاب "قريات.. ملامح من التراث الزراعي والبحري"، الصادر في العام 2020م.
من جانب آخر، تَربُطني بالوالد سعيد بن علي الحبسي -رحمه الله- أحد الرواد في السوق القديم، عَلَاقة قديمة منذ طفولتي؛ فهو صديقٌ وَفيٌّ لجدي ووالدي، كان يُعاملني كمعاملة الأب لولده.. كلُّ زاوية من السوق القديم تتذكره؛ حيث قَضَى سنوات طويلة من عُمره في عمله التجاري في السوق القديم؛ فعاصَر العديد من الأحداث والتحوُّلات في السوق القديم؛ تنوعت تِجَارته بين بيع التمور وعسل الدبس والمواد الغذائية الأخرى.
تَجِده من الصباح الباكر في دُكَّانه والابتسامة لا تُفارق محيَّاه، كَسب حب ومودة الناس له بأخلاقه الحسنة ومعاملته الطيبة ونيَّته الصادقة.. كان قَنُوعًا مُتواضعا لأبعد الحدود، اتَّصَف بالمودة والهدوء والسكينة في تعاملاته، وعُرِف بالقناعة والصفاء، والإلفة والمحبة والرضا في سلوكه.. مُجَالسته غنيمة، وحديثه لا يُمل؛ فهو صاحب خبرة واسعة في الحياة، ويتميَّز بسماحة التواصل مع الناس.. ما تزال ميزان القفّان ووحدات الأوزان القديمة محفوظة كتراث متواصل لسيرته، عندما تتأملها، تعيد بك الذاكرة إلى تلك الأيام الجميلة، تجد تلك النفوس الزكية الكادحة شاهدة، والأنامل الأمينة بصماتها محفورة في زواياها وحوافها.. كان -رحمه الله- محل ثقة للكثير من أصحاب الأموال والنخيل لتسويق منتجاتها، امتهن الزراعة في فترة من حياته، فاهتزت الأرض اخضرارا على يديه.
عُرِف -رحمه الله- بـ"الأمين" لأمانته وصِدقه؛ فكان الكثير من الناس يستأمنونه أموالهم قبل وجود البنوك.. يُحدثني أحدهم: أنَّ رجلًا من الجنين استأمنه كيسًا مملوءًا بالقروش الفضية (عُملة قديمة كانت مُتداولة قديمًا)، فحاول أن يعتذر منه، فقال له: "لا أَجِد أحدًا غيرك استأمنه أموالي"، فاستلمها منه، فحَفَر لها حُفرة في وسط بيته، فدَفن القروش فيها، بعد أنْ أخبَر أهله بتلك الأمانة، فكان -رحمه الله- في الليل يفرش فِراشه فوق تلك النقود المدفونة في الأرض، ليضمن سلامتها من السرقة، وبعد سنوات، راجَعَه صاحب تلك النقود مُطَالِبا أمانته، فسلَّمه القروش كما كانت عليه يوم استلامها.
وفي فترة وجود "البانيان" في سوق قريات القديم، والذين كانتْ لهم تجارة نشطة في السوق منذ قديم الزمان، كان للوالد سعيد الحبسي مُعَامَلات تجارية معهم؛ فكان هريداس توبراني -والد التاجر المعروف "بانجيه"- يثق فيه، ويستأمنه على الحسابات وإدارة تجارته في السوق القديم، ولمَّا تُوفِّي التاجر هريداس، كانت له أموالٌ كبيرة بحَوزة الوالد سعيد الحبسي، وفي اليوم التالي اتَّفق مع رجل مُقابل مبلغ من المال على الذهاب لمطرح ليُخبر ورثته عن النقود التي بحوزته لوالدهم؛ فذهب الطارش ماشيًا إلى مطرح وبلَّغ الرسالة وعاد في اليوم نفسه. وبعد فترة جاء "بانجيه" ابن هريداس، الذي نَقَل تِجَارته من سوق قريات إلى سوق مطرح في ذلك الوقت، فاستلم أمانته بالتَّمام والكمال؛ فظلت علاقة الصداقة بين "بانجيه" وأسرته والوالد سعيد الحبسي قائمة حتى وفاتهما؛ فكانا يتبادلان الزيارة بين الحين والآخر.
وقد سَأله أحدُهم عن سرِّ هذا الاهتمام بتوصيل المبالغ إلى ورثة "البانيان"، وعدم الاستفادة منها، قال له مُستنكِرًا قوله: "الغوازي والقروش تُريحني في حياتي، ولكن تُعذبني بعد موتي".
رَافقتُه في إحدى السنوات في رحلة سفر بريَّة إلى مكة المكرمة لأداء مناسك العمرة، وكان ذلك في حَمْلة خميس المالكي -رحمه الله- (وهو رجل متواضع وخدوم، وصاحب حملة للحج والعمرة، توفي منذ سنوات في تلك العراص المقدسة) وتَصَادَفت رحلتنا تلك مع وقت مَوْسِم الشتاء شديد البرودة، فكان -رحمه الله- سَمحًا وأمينًا وصادقًا وصابرًا في قوله وعمله، وكان زاهدًا ونقيًّا وكريمًا وعطوفًا ومُتعاونًا وخَدومًا ومُحِبًّا للجميع في حياته.. رَحَل الوالد سعيد الحبسي عن دنيانا الفانية بمُنتهى الهدوء كما عاش في هدوء بلا ضجيج، تاركًا سُمعة طيبة، ومناقب حميدة، وخصالًا حسنة، وصفات إنسانية لا تُنسى، على روحه الطاهرة شآبيب الرَّحمة والمغفرة والعفو والرضوان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.