زمان، إذا اشتدَّ البرد، وصفت تلك الفترة بـ"الصردة"، فيتحاشون الخروج لقسوة البرد وتأثيره، فيلتم الجميع أمام الكانون، ويكثُر استخدام الملالة، كما لا يفسلوا الصرم والشجر لبرودة الأرض، وإذا ما ظهر قب النبات، قيل عندها: "إذا ساح النبات؛ بين يجيك الليل بات"؛ علامةً على انتهاء فترة الصردة؛ وعدم تأثيرها على الجسد، ويقولون أيضًا: "حدر وهدر"؛ حيث قد يعاود البرد مع موسم حدار النخيل بين شهري فبراير ومارس.
تأثيرات الصردة لا تقتصر على كائنات الأرض، بل تمتد تأثيراتها على كائنات البحر أيضًا، ولهذا تجد هناك تغيرات لمياه البحر، وقد تصحب فترة الصردة تساقط الأمطار بغزارة، وكذلك تكون الصقيع في قمم الأشجار والجبال، ويقال في الدارجة العُمانية: "برد يقص الخوص".
كان من وسائل التدفئة قديما "الكانون"، وهو موقد متنقل للنار، والبعض يسميه "الصريدان" إلا أن سكان السواحل يطلقون على موقد الطبخ في السفن الكبيرة بـ "الصريدان"، وسمي موقد نار التدفئة بـ"الكانون" لأن أهل البيت يتحلقون حوله ويستقرون في بيتهم، لينعموا بدفء الشتاء، وقيل سبب تسمية شهري كانون الأول (ديسمبر) وكانون الثاني (يناير) لشدة البرودة فيهما. وقديما كان العُمانيون يعالجون بعض الأمراض بـ"الكنان" أي كنّ المريض في غرفة دافئة، ويدهن بأدوية عشبية من قبل متخصص في هذا العلاج.
بُرُودة الشتاء أيام زمان كانتْ أكثر قَسْوة وبرودة، إلا أنَّ البيوت الطينية كانتْ أكثر دِفئا وحميمية، خاصَّة وسط تلك الحلقة الأسرية الملتفة حول الكانون أو الصيردان -دفَّاية أيام زمان- أو أمام الموقد المحمر بجمر السمر، وعليه بريق الشاي يغلي ودلة القهوة تفوح، والسالفة تدور، والجدة تقص حكايات أيام زمان، ومُنجزات الجدات والأجداد.
تَجِد كلَّ فرد مادًّا يديه فوق سواهيب الجمر، وما إن يشعر بحرارة الجمر يفركها، ويمسح بها وجهه ليشعر بلذة التدفئة الطبيعية. وتنظُر أعلى الجدار ترى الدخان يَرْسم لوحة جميلة في تتابُع ليعبر إلى الخارج عبر المروق (فتحة صغيرة تحت السقف)، وهي تقنية قديمة في البيت العُماني القديم، وهي وسيلة لتسريب دخان مواقد التدفئة في الشتاء وموسم صردة الأرض، ومن خلالها أيضا يتجدد هواء الصّفة، فكلُّ شيء في فن البناء محسوب له ألف حساب.
وعَلَى طاري الصَّردة (برودة الأرض)، تجد مياه الينابيع (أفلاجا، آبارا) دافئة، يُعجبك ذاك البخار المتصاعِد كأنه يجري تحت حرار هذا الزمان، لا تنتظر للحرار أن يسخن، فقط عق عمرك في الحوض أو في الجابية أو في ساقية الفلج، حينها تشعر بلذة المياه وسخونتها الطبيعية.
أمَّا الصِّغيرين (الأطفال)، فتراهم من أول المغرب، تجد كل واحد منهم رابطا رأسه بمصرِّ الصوف عن الراشح (النسمات الباردة) وريح الشمال الباردة، أما اليوم فما يهجيهم عن صَوت الكنديشن؛ فهو يحن ليل نهار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.