من كتاب "شذرات.. تأملات ومشاهد وذكريات"...
كان صوت نداءات الباعة في السوق القديم يمثل لونًا أدبيا وموسيقيا بهيجًا وجذابًا، كان يتردد صداها في جنباته الواسعة والمغلقة، وثقت بعض هذه الكلمات الجميلة، المختزنة في حنايا الذاكرة في كتاب عن قُريَّات، والمتمعن فيها يجد فيها وسيلة تسويقية فاعلة للدعاية الصوتية، والإعلان التجاري التفاعلي المباشر، للترويج عن منتجاتهم وخدماتهم المختلفة. إضافة إلى ذلك، لها قيمتها الأدبية والثقافية والإنسانية، فيها تنوع ثقافي، وتفاعل حسي ولفظي، دون أي تراتيبية لغوية، وهي بحق أحد معالم تراثنا الشفهي الثري.
في كل صباح، كنت أنصت إلى صوت موسيقي جميل، يأتينا صداه من بعيد من جهة الجنين، اعتدت سماعه في السوق القديم مع كل مساء، فما إن أنتهي من بيع كل ما جلبته معي إلى السوق، اتجه إليه للتأمل في صوته العذب، والتمتع بلحنه اللفظي الشجي، هكذا عودنا بائع الدنجو (الحمص) الوالد علي بن سعود الرواحي وهو يعلن عن منتجه، بألفاظه ولحنه وتغريداته المرتجلة، يبدأ إعلانه بضربة بالمغراف على حواف الصفرية أو الزيلة المعدنية، ثم يردد: «ايه التين بارك الله.. صيح على مك (أمك) تيتون (أي طفل صغير).. ايه التين بارك الله.. صيح على أبوك تيتون.. دنجووو.. دنجووو.. تعالوله الزين.. واحد من الحاجر.. واحد من الجنين.. صيح على مك تيتون.. عندقة وخمل ومبونة.. دنجووو.. دنجووو.. هينك تعال.. تعال قرب.. تعال.. دنجووو.. دنجووو». ومع كل مقطع لفظي، يطرق على الصفرية بالمغراف، بطريقة لحنية جذابة.
وفي الصباح، ومع شروق الشمس، يلف قريتنا وفي يده زيلة من المعدن، مملوءة بالدنجو المطبوخ الساخن، فما إن يصل إلينا حتى نتهافت للتحلق حوله، يلاطفنا بكلماته الطيبة ومعاملته الحسنة ومداعبته المرحة، فنبتاع منه الدنجو ببعض البيسات، فيغرف الدنجو في صحون معدنية صغيرة، لها شكل دائري، تسمى «ديس» أو «ديسة دنجو»، أو يلف الدنجو في ورق يشكله على شكل قمع مخروطي أو هرمي له قاعدة واسعة، كان -رحمه الله- مصدر فرح وبهجة أينما ذهب، ولا تزال رائحة الدنجو الزكية وطعمه اللذيذ، علامة فريدة مسجلة بأسمه في الذاكرة.
كتبه/ صالح بن سليمان الفارسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.