طوي سدرة النص.. ذاكرة امرأة عُمانية تعلق قلبها بفعل الخير..
في دارجتنا القديمة نطلق على البئر المطوية بالحصى "طوي"، وقد يعم هذا الاسم أيضا على المساحة الواقعة فيها الطوي، وذلك من باب إطلاق الجزء على الكل.
تقع طوي سدرة النص (النصف) أو طوي القحمة على ممر تراثي قديم، يربط قرى المزارع وحيل السلم والمسفاة وعباية ومحيا وحيل الغاف بمركز الولاية (قريات) وسوقها القديم، كان بقرب هذه الطوي شجرة سدر معمرة، تفرش أغصانها الخضراء حانية، لتظلل تلك الأجساد التي أنهكها طول ووعورة الطريق بمقياس ذلك الزمان.
كانت قوافل الجمال والحمير العابرة لطريق وادي ضيقة تنوخ وتستريح تحت ظلالها الوارفة في سيرتها وجيتها، تأتي تلك القوافل من داخلية وشرقية عُمان محملة بجرب التمر، وجواني "الفاغور"، وشكالات السح مسحح، والسفرجل، والنارنج، وسفرجل بوعنوق، والشومام، وحطب الطبخ... وغيرها من المنتجات، ليباع في السوق القديم، وبعضه يصدر عبر السفن إلى مطرح وخارج عُمان.
وفي عودة تلك القوافل إلى ديارها تتزود بالأسماك وجواني العيش والملح وما لذ وطاب من سوق قريات، وفي طريق العودة تحط رحالها مرة أخرى تحت ظلال سدرة النص، للتمتع بنسيمها البارد المنعش وجمع ما تنثره من نبقها السكري اللذيذ، قبل عبور مرتفعات الجبال وأعماق الوهاد والحيول، والوصول إلى هوة وادي ضيقة العظيم.
عندما رأت شيخة بنت سالم الأخزمية -رحمها الله- تلك الحشود البشرية والقوافل التجارية متجمعة عند سدرة النص، أمرت من لديه الخبرة أن يدرس موقعا مناسبا لحفر بئر ورد في المكان، فأشير إليها بأن الموقع المناسب للبئر أن يكون قريبا من سدرة النص، فكان قديما يستدل العُمانيون بالأشجار لاختيار مواقع حفر الآبار، فهي دلالة على وجود الماء في المكان.
سخرت تلك المرأة الكريمة كل الامكانيات لحفر تلك البئر على نفقتها، ووضعت عليها منزفة ومحالة لمتح الماء من قعرها العميق، فكان الماء يسيل من عيونها وأعماقها عذبا فراتا سلسبيلا، فظلت تلك الطوي تقري القوافل العابرة بالماء الزلال، وتورد منها كائنات الأرض والسماء، واستمر خيرها لأكثر من مائتي عاما بلا انقطاع.
شيخة الأخزمية امرأة فاضلة من أهل قرية حيل الغاف بولاية قريات، لها أموال طائلة في واحات "القطيف" الخضراء في حيل الغاف، وهي صاحبة كرم وخير ومواقف طيبة في خدمة مجتمعها، وكانت تملك مكتبة عامرة بالكتب، ويذكر سيرتها بالخير وبتقدير واحترام كل من يعرف تاريخها المشرف ومناقبها وصفاتها الحميدة.
لم تعد سدرة النص ولا طوي القحمة في مكانهما اليوم، فقد تبدلت أحوال المكان وتغيرت ظروف الزمان، ولكن تبقى ذاكرة أفعال الخير ماثلة في الأذهان والوجدان.
لهذا، نناشد وزارة التراث والسياحة وهيئة البيئة، للمحافظة على معالم هذا الموقع وذاكرته الإنسانية، فهو جزء مهم من تراثنا الطبيعي والثقافي والاجتماعي. نسأل الله أن يرحم هذه المرأة النبيلة ويجزيها خير الجزاء.
كتبه/ صالح بن سليمان بن سالم الفارسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.