في بداية الثمانينيات، شُكِّل فريقٌ من وزارة
الإعلام -زار كافة ولايات السلطنة- لتوثيق الفُنُون التقليدية العُمانية. جمع ذلك
الفريق مادة ضخمة ومُهمة فيما يتعلق بالموسيقى التقليدية والفُنُون العُمانية،
وعلى أثر هذه الجُهُود تم في بداية عام 1984م إنشاء مركز عُمان للموسيقى التقليدية
بتوجيهات سامية من لدن جلالة السلطان المُعظم - حفظه اللهُ ورعاه.
أذكُر أنَّ هذا الفريق زارنا في قُريات، وكان
بمعيتهم الدكتُور المرحوم يوسف شوقي من مصر الشقيقة -وهو شخصية فنية راقية جدًّا،
وله مؤلفات عديدة في الموسيقى التقليدية العُمانية- وطلب أن يلتقي ويتعرف على
الفُنُون التقليدية المُمارسة، بمُختلف أنواعها وأشكالها.
كَان يتوقَّع أن يلتقي بعددٍ بسيط من شعراء
الفُنُون التقليدية، وليوم أو يومين، ولكن كان الأمر على غَيْر ما توقعه، عندما
شاهَد عشرات الشخصيات الفنية قد لبَّت دعوته، والعشرات من فرق الفُنُون الشعبية
حاضرة لتؤدي رقصاتها أمام هذا الفريق للتوثيق؛ ولهذا انبهَر من هذا التنوع في
الفُنُون والموسيقى، التي ما زالت مُمارسة في ذلك الوقت.
ظلَّ هذا الفريق أيامًا في قُريات يسجل ويوثق تلك
الفُنُون، ويلتقي بالشعراء ويسجل لهم كلماتهم، وطريقة الأداء والحركات لتلك
الرقصات والأدوات المستخدمة، جميعُهم كانوا من كبار السن، والكثير منهم اليوم توفَّاهم
الله، وقد كان لهذا المركز الفضل في توثيق فُنُونهم وأشعارهم وقصائدهم بصوتهم، وعندما
أشاهد صورهم ومقطوعاتهم التراثية في التليفزيُون ووسائل الإعلام الأخرى، تعُود بي
الذاكرة إلى تلك الأيام الجميلة، وأشعُر بفخر أنَّ هذا المركز قد وثق هذا التراث،
الذي قد لا يعود ولا يتكرر.
هَذَا التجمُّع تكرَّر في بداية التسعينيات عندما
نظمت الوُلاية قرية تراثية، شملت على مُختلف الجوانب التراثية بما فيها الفُنُون
التقليدية، وقد تمَّ توثيقها، وكانتْ نَواة لانطلاقة القرية التراثية في مهرجان
مسقط، إلا أنَّ هُناك قلقا كان يُرَاودني من خسارتنا لبعض رواد هذه الفُنُون؛ الأمر
الذي كان محلَّ اهتمام في فترة ترؤسي للجنة الثقافية بالنادي.
اليوم، هُناك تراجُع كبير في مُمارسة الفُنُون
التقليدية في مُختلف ولايات السلطنة، وهو واقع يجب أن نقتنع به، في ظل متغيرات
الحياة وتطور أساليبها، إضافة لنظرة الجيل الجديد لهذه الفُنُون ومدى اقتناعهم
بها، وبمدى مُواكبتها لعصرهم، خاصة وأنّ الكثير من هذه الفُنُون كانت مُرتبطة
بمواسم محددة وظرُوف مُختلفة، لم يعُد الكثير منها اليوم مناسبا لممارستها لاختفاء
الغرض منها.
هذا الأمر كان محلَّ نقاش لفريق شُكِّل في
التسعينيات في وزارة الإعلام وتشرفتُ بعضويته، وكانت الرُّؤية حينها أن يتم توثيق
هذه الفُنُون بطريقة عصرية، وبمجاميع بشرية كبيرة، وتتولى وسائل الإعلام نشرها
وتذكير الأجيال بها، والتحفيز على تشكيل الفرق لممارستها، وتطعيم المناهج بها، وقد
أعد ذلك الفريق دراسة وافية لهذا الموضُوع، ولا أدري ما كان مصير تلك الدراسة.
المُهم، فُنُوننا التقليدية بحاجة اليوم لمن يُوقِظ
فيها الحياة من جديد؛ فالولايات العُمانية غنية جدا بهذا التراث الثقافي المهم،
وهُناك ضرُورة ملحة لبذل بعض الجُهُود لتوصيلها إلى الجيل الجديد بطريقة تناسب
عصرهم ونظرتهم إلى واقع الأشياء.