الأربعاء، 21 يونيو 2017

ذكريات الأسواق التقليدية

عِندَمَا أشاهد المجمعات التجارية الحديثة تعج بالمتسوقين في هذه الأيام الأخيرة من شهر الخير استعدادًا ليوم العيد، تتبادَر إلى ذهني ذكريات جميلة حول حركة الأسواق التقليدية أيام زمان.
أصبحتْ الأسواق الحديثة سوقا متكاملا، فتجد فيها كل احتياجاتك ابتداء من الملابس والأحذية، مرورا بالأغذية والحلويات بأنواعها، وُصُولا إلى أحدث الماركات من العطور والهدايا والألعاب الإلكترُونية للأطفال والأجهزة الكهربائية المُختلفة، التي أسهمت في راحة الناس وسعادتهم.
وعلى الرغم من أن قضاء بعض الوقت في هذه الأسواق الحديثة، لما تضفي على المتسوق من الراحة والدعة، ولما توفره من تنوع في السلع والمعرُوضات، ومن جو مريح للمتسوق والعائلة في هذا الجو القائظ كونها مكيفة الهواء، وتتيح للمتسوق العديد من الخيارات لشراء ما لذَّ وطاب، إلا أن الأسواق التقليدية تبقى لها رائحة الذكريات، تلك هي التي تبقى مغروسة في الذاكرة.
كانتْ الأسواق التقليدية بما تتميَّز به من بساطة وعفوية بمثابة سجل شعبي اجتماعيًّا واقتصاديًّا مهمًّا، يعكس معالم الحياة الاجتماعية والاقتصادية وتطورها، وهي في الوقت ذاته وسيلة للتعارف وتبادل المعلُومات ونقل الخبرات بين الناس، كان الناس على الرغم من مصاعب الحياة في ذلك الوقت، إلا أنهم يتكيفون مع ظرُوفهم وواقعهم بقناعة كبيرة.
كانتْ الخيارات المعرُوضة في تلك الأسواق على الرغم من تنوعها إلا أنها محدُودة، وطية جلد أو زنوبة أو قرحاف مصنُوعة على يد شمار من عُمان، بهارات منعشة تفوح من جنبات ومداخل السوق، حلوى عُمانية تحشى في تغليفة خوص أو دست من الفخار، دشداشة ساسوني أو مريكاني، وزار عُماني منسوج، ومَصر قطني أو صوف، خنجر أو حزاق فضي، حلويات من القشاط الملون، مواد غذائية طازجة من الفواكه والخضار المتنوعة، ابتسامة تاجر صدوق في دكانه أو على منسفه أو تبريزته الخشبية أو على جونية سوتلي مفروشة على الأرض، تسمع صوت الدلال من بعيد في العرصة كم ارسم، يتحلق الناس على صوت رجل لسماع النهمة.
تُشَاهِد تراكيب الحلوى من بعيد بسواهيبها وأبخرتها المتصاعدة في السماء؛ حيث وهج نار ودخان حطب السمر، تشم تلك الرائحة الزكية للحلوى من بعيد، وتسمع للملاس صوتا موسيقيا وهو يرج المرجل النحاسي رجا حتى تنضج الحلوى المزعفرة بالسكر الأحمر الطازج والسمن العُماني والنشا الأبيض والهيل الزكي الرائحة والمنظر، يتهافت الأطفال على عقدة الحلوى اليابسة المتبقية في المرجل.
تتذوَّق السخونة والدنجو والباقل من يد حنونة ووجه مبتسم، تطعم خبز الرخال والسمك المشوي والشارخة في كل جانب من السوق، وتترس (تملأ) كراع (كيس) من الورق رطب الخصاب المخمل والطازج، تشتري شماريخ أو عسقة خنيزي أو حنظل أو خلاص سواقمي أو جراب تمر قدمي أو خمري أو نثر تمر بونارجه، تملأ كفك بحبات من الفاغور والمبسلي اليابس.
تَسْمَع للصاغة والصفافير جَلَبة ودقات موسيقية مُستمرة من أدواتهم الفريدة، وللسفافير مع حميرهم وجمالهم بهجة وحسن منظر، تدخل قسم السمك تجد ما تتمنى، تدخل قسم الطعام (الأعلاف) تجد بهجة الألوان من القت والرشيدية والبازري والمسيبلو والغشمر، تُشاهد جداية الجبل الأسود والسعتري، وهي تشد صاحبها نحو طريق وداعي ليد جزار مجهُول، تُشَاهد منافسة حامية في لعبة الحواليس على جانب من السوق في وقت راحة الباعة والمتسوقين.
تَسْمَع مناشدة الكبار عن الأخبار والعلوم والأحداث في كل مكان، تبهجك تلك الحلقات من الرجال لتناول فنجان قهوة عدينية أو سيلانية أو بربرية، تجد نفوسا راضية وقانعة بالقليل ومتمنية للخير للجميع، لا تفرقة بين غني أو فقير، ولا حسد ولا تباغض بين الناس، إلا أجواء حب وبهجة وتسامح تملأ قلوب الجميع، ترى الأطفال في زيهم البهيج وعلى محياهم ابتسامة لا تضاهيها فرحة في الدنيا.
لم تعُد اليوم تلك الوسائل والعادات المتبعة في الأسواق التقليدية موجودة إلا ما نَدُر في بعض الولايات العُمانية، وحتى هي أيضًا طالها يد التحديث والعصرنة؛ فقد أثَّرت كثيرا تلك المحلات العملاقة على هذه الأسواق التقليدية بطريقة تنبِئ إلى تلاشيها مع مرور الزمن إذا ما تمَّ الانتباه إلى ذلك جيدا.
(مُلاحظة: الصورة لسوق قُريات القديم مع بداية تسعينيات القرن الماضي، وقبل تحديثه كما هو عليه اليوم).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.