فِي
الخمسينيَّات والستينيَّات مِن القَرن المُنصَرم، ومَا إنْ تَلوُح بَشَائر خَيرَات
فَصْل القَيظ، تَزدَهِر قرية حِيل الغَاف بالحَرَكة والنَّشَاط، كمَهرَجَان
اجتماعيٍّ وثقافيٍّ وسياحيٍّ لا مَثِيل له، فكَان يقصُدها الكَثِير مِن النَّاس مِن
كلِّ مَكَان في عُمان للإقامَةِ والاستِجْمَام، يأتُون مِنَ الشَّرقية والبَاطِنة
ومَسْقط ومَطْرح، فيَعتَرِشُون ظلالَ أشجارِ المَانجُو طَوَال مَوْسم القَيظ، فيَبنِي
البعضُ بيوتَ السَّعف المؤقَّتة تَحْت أغصانِ تِلكَ الأشجارِ الضَّخمَة، فِيمَا يُقيم
البَعْض فِي ضِيَافة أموَالهم الخَضْراء.. كَانَت بَسَاتين حِيل الغَاف مَفتُوحة عَلى
مِصرَاعَيها للقريبِ والبَعِيد، دُونَ جُدر أو أَسوَار، فيَهْرَع الجميعُ مَعَ
بزوغِ الفجرِ لرقَاط أو التِقَاط مَا تَنثُره أشجارُ المَانجُو والنَّخِيل؛ حَيثُ
جَرَى العُرف على مَجانيَّة جَمْع مَا تنثُره الأشجارُ في مَوسِم القَيظ، وفِي ذَلِك
سِمَة رَاقِية للتَّعَاون بَين النَّاس في ذَلِك الزَّمَان.. فِي ذَلِك الزَّمن ظَهَر
مَا يُعرَف بالبجَالي (الوَاحِدة بجلي)؛ وهِي مَصَابيح تعملُ بالبطارِيَّة الجَافَّة،
فاستغلَّ البعضُ هَذِه المَصَابيح للرقَاط فِي هَجْعَة الليل وحَلكَة الظَّلام،
فاشتكتْ بَعْض الأسرُ مِن هَذا الحَدَث، فنُودِي أو نُهِم في سُوق الحِيل بمَنْع
الرقَاط إلا بَعْد انشقَاقِ الفَجْر، مُرَاعَاةً للخُصُوصيَّة وحتَّى يعمَّ الخَيْر
الجَمِيع.. فِي فَتْرة المَسَاء تتجمعُ تِلك الحُشُود البشريَّة فِي مَهْرَجان فنيٍّ
وثقافيٍّ، فتزمَّط الرَّزحَة والمَيْدَان والزفَّة والتنجيلية، ويتَبَارى كِبَار
الشُّعراء مِن كلِّ مَكَان في عُمان بأَجْمَل القَصِيد، وتستمرُّ تِلك المُبَارَزة
الأدبيَّة والإيقَاعَات الفنيَّة إلى سَاعَات مُتأخِّرة مِن المَسَاء فِي كلِّ يَوْم..
ومَا إنْ ينتَهِي مَوسِم القَيظ ويتمُّ تَبسِيل المبسَلِي وتُعصَر أعوادُ قَصَب
السُّكر، تَعُود هَذِه الأُسَر بمَخزُون وَفِير مِن خَيرَات القَيْظ وجَرب التُّمُور،
ليَكُون لَهُم مَخزُون غِذَاء إلى العَام التَّالِي.. تَفَاصِيل القَيْظ وعَادَاته
وفنُونُه وحَكَاياتُه ومُصطلحَاتُه ومُفرَداتُه ومُعدِّاتُه القَدِيمة، وثَّقتُهَا
وسطَّرتُهَا فِي الطَّبعةِ الثَّالثة مِن كِتَابي: "قُرَّيات.. مَاضٍ عَرِيق
وحَاضِر مُشرِق"، و"قُريَّات.. عَرَاقة التَّارِيخ ورَوْعَة الطَّبيعَة"،
وفِي الطَّبعة الثَّانية مِن كِتَاب: "قُريَّات.. مَلَامِح مِن التُّراثِ
الزراعيِّ والبحريِّ".
هذه بعضُ الذكريات، والمشاهد، والانطباعات، والمشاعر الشخصية، التي واكب بعضُها منظرًا لصُورة التقطتها من البيئة والطبيعة العُمانية، أو ذكرى من التاريخ والتراث الثقافي انطبعت في الذاكرة والوجدان، أو تأثر وانطباع خاص تجاه موقف أو مشهد من الحياة، أو شذرات من رُؤى ونظرة مُتواضعة إلى المُستقبل، أو وجهة نظر ومُقترح في مجال الإدارة والتنمية الإنسانية.. هي اجتهادات مُتواضعة، من باب نقل المعرفة، وتبادل الأفكار والخبرات، وبهدف التعريف بتراثنا الثقافي (المعنوي، والمادي، والطبيعي)، ومنجزنا الحضاري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.