فِي شِتَاء لَيْس كالعَادة من العام 2011م، عِشتُ في مدينةٍ
بريطانيَّة لفترةٍ جميلةٍ من حَيَاتي، ومَع احتفالاتِ أعيادِ الميلادِ، عُدت إلى عُمان
في فترةِ أحداثٍ اجتاحتْ بَعْضَ الدول العربيَّة، مع خِضَم مُتغيِّرات عالميَّة لَيس
في وجهَتِها رؤيَّة ولا وُضُوح، قرَّرت حينَها -وبمعيَّتِي أحد الأصدقاء- العَوْدَة
إلى الوَطن في إجازةِ أعيادِ المِيلاد هُناك في بريطَانيا ثمَّ نعُود، لم أعتَد
اقتنَاء تذاكِرَ السَّفر على الدرجةِ الأولَى، أو رِجَال الأعمال في رَحَلاتي بالطَّائرة،
حتى وإنْ كانتْ طَبِيعَة السَّفر أو المُهمَّة تمنحُني ذلك، فهِي طَبِيعة في نَفْسِي
ورَغْبة؛ لهَذا لَم أذُق طَعْم خَدَمات الدَّرجة الأولى في حَيَاتي إلا مرَّات مَحدُودة
جدًّا، ولأسباب.
الأولَى: كانتْ في فترةِ دِرَاستِي الجامعيَّة الأولَى أثنَاء
عَوْدتَي من بَيرُوت عبر مَطار البحرين، ثُمَّ مَطار دُبي، ثم مَطار مَسقط، وكان ذَلِك
لمُدَّة دقائق مَحدُودة فقط، عَبْر طيران الخليج؛ وذَلِك قَبل بَيع أو التَّنازل
عن حِصَّة السَّلطنة فيها إلى دَولة خليجيَّة شَقِيقة، فعِند نُزُولنا في مَطار
البحرِين استأذنتُ طاقمَ الطائِرة بالنُّزول لبعَض الوقت للصَّلاة والتعرُّف على
المَطار، وعند عَوْدَتي إلى نَفس الطائرة وإذا بشخصيَّةٍ -قيل لي إنَّها رفيعة- من
دَولة شَقيقة خليجيَّة قد استحوذتْ على مِقعَدي في الطَّائرة بإذنٍ من طَاقِمها،
وهو شَابٌّ من سِنِّي، وتمَّ توجِيهِي حينَها من قِبل طَاقم الطائرة بالجُلوس في
المَقَاعد الخلفيَّة، والتي كانتْ مُخصَّصة في ذلك الوَقت للمدخنين، فرفضتُ حينَها
الجلوسَ هُناك، لأنَّ الدُّخان يُزعجني، وبعد حُوار مع طَاقم الطائرة، قال لي أحدُهم:
"الكَرَاسي كلها وَاحد، هُنا أو هُناك"، فقُلت له: "حسنًا، إذا كَان
هذا رأيك، وأنا لديَّ حَجز على هذا المقعَد من أوَّل رِحلة لي إلى آخر رِحلة، وكان
من الوَاجِب واللياقة أنْ تستأذِنُوني قَبل مَنحه لآخر، فأخذتُ نَفسي، وجلستُ في مَقَاعد
الدَّرجة الأولَى".
لم أتمتَّع بخَدَمات الدَّرجة الأولى إلا بعَرْض واحد: فُوطة
ساخنة أو بَارِدة لتدليك اليَد، فاخترتُ الفوطة السَّاخنة حينها، وعندَما شَاهد مَسؤول
الضِّيافة في الطَّائِرة وجُودي على كَرَاسي الدَّرجة الأولى، عِند مُرُوره على
الرُّكاب لحسَابهم قَبل الإقلاع، قال لي: "لِمَ أنت هُنا"؟! فدارَ
الحديثُ من جَدِيد عن مَا حدث.
فحَاوَل هو أيضًا أن يُقنعني بالعَودة إلى المَقَاعد الخلفيَّة؛
لأنَّ مقعَدي تمَّ منحُه لشخصيَّة أخرى، فقلتُ له: "تقُولون الكَرَاسي كلها وَاحد،
لماذا هَذا الكرسي إذن مُختَلِف؟!"، فقَال لِي: "هَذا كُرسي الدَّرجة
الأولى، وحجزُك على السياحيَّة"، فقلت حينها: "إذَن، أُحِب أن أعُود إلى
مقعدي المُثبت في تَذكرَة سَفَري مِن بِدَاية رِحلتي على هَذِه الطَّائرة"،
عندها استفسرَ قائدُ الطائرة عن سَبَب الحُوار وتأخِير الإقلاع، وعندَمَا عَرف
السبب، قرَّر حينَها أنَّ الحقَّ مَعِي، فتمَّت إعادتِي إلى مِقعدي، وَسْط تصفيقِ
وابتسامةِ وفَرح مِن الرُّكاب، فعرفتُ بعدَها أنَّ هُناك مُحاولات قد تمَّت أيضًا
لنقل آخرين من مَقَاعدهم إلى مَقَاعد أخرى.
أعُود مرَّة أخرى إلى رِحلة بريطانيا في شِتَائها القَارِص
والمُزعِج في ذلك العام 2011م؛ حيثُ أغلقت الكَثِيرُ من المَطَارات والشَّوارع بسَبَب
مَوْجة صَقيع اجتاحتْ أوروبا، وكان حظُّنا سيئًا معهَا، ناهيك عن الأحدَاث التي
اجتاحتْ عَالمَنا العَرَبي، فقرَّرنا حينَها العَودة في إجازةٍ قَصِيرة، فحجَزنا
على طَيران "الاتحاد"، لأنَّه كان الأرخَص، فوصَلنا مطارَ أبو ظبي في سَاعات
مُتأخرة من الليل، على أنْ نركبَ طائرةٍ أصغَر حجمًا من الطائرة التي أقلَّتنا من
لندن؛ بسبب قلةِ عَدَد الرُّكاب المُتوجِّهين إلى مسقط، فقضَينا فَتْرة "الترانزيت"
فِي المَطار بعضَ الوقت للتسوُّق والتأمُّل في التفاصِيل، وأنا في طَبعِي أحبُّ مُشَاهدة
التفاصِيل والتعرُّف على مَعَالم المَكَان مهمَا كانت دَقِيقة، خاصَّة الجوانِب
الفنيَّة والجماليَّة منها، ومَا إنْ حَان وَقْت سَفَرِنا بدقائق، حتَّى توجَّهنا
إلى البوَّابة المُحدَّدة لنا في تَذكرة السَّفر، قِيل لنا حينَها إنَّ مكانَ
الطائرة قد تمَّ تغييرُه من المطَار الجَدِيد إلى القَدِيم، فإِذا بنَا نجرِي في سِبَاق
مع الزَّمن لكي نلحَق الطائرة، فوصَلنا فرَكِبنا البَاص لكي ينقلنَا إلى مَكَان وقُوف
الطَّائرة، فكانتْ المَسَافة مُتعِبة ومُزعِجة وبَعِيدة، فكُنا نلهَث من التَّعب،
وفي الوَقت ذاته عبَّرنا عن استيائِنا لِمَا حَدَث أمام الجميع بكلِّ حبٍّ وصَرَاحة،
فعُدنا إلى الوَطَن مع الفجَر بسَلام.
عند رِحلةِ عَودتنا إلى لَندن وَصلنا مَطار أبو ظبي مع الظُّهر،
فقِيل لنَا أنتُما العُمانيان -أنا وصَدِيقي- عليكُما الانتظار قليلًا حتى يَصْعَد
جميعُ الرُّكاب، وما إنْ حَان مَوْعِد صُعُودنا الطائرة، حتَّى قيل لنا بتِرحَاب
وكَرَم وابتِسَامة: "أنتُما ستكُونَان في مَقَاعد الدَّرجة الأولى"،
فكانتْ رِحلة مُمتِعة، وكراسي عَجِيبة وغَرِيبة، حتى التَّدليك فيها، ويُمكن طيُّها
لكي تَنام، وأكل ما لذَّ وطَاب، وتَرفِيه على آخر مَزَاج، فغفونا على أريكة
الأحلام، وإذا بِنا في مطار هِيثرو في لندن، فقُلت لصديقي: "رأيت كَيف كَان؟
فالحقُّ دائمًا لا يَغِيب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.