الخميس، 19 سبتمبر 2019

فِي سِيْرَة مُعلِّم تَعلَّمتُ عَلَى يَديْه

تَرْتَسِم بَعضُ الشَّخصيَّات فِي ذَاكِرة الإِنسَان، وتَبقَى سِيرتُها ومَشَاهدُها وذِكرَياتُها ومُنجَزاتُها عَالِقة فِي الفِكْر والوجدَان، خَاصَّة إِذَا مَا ارتَبطَت تِلكَ الشَّخصيَّات واقتَرَنتْ بذَاكِرة عُمر الطُّفولة والشَّباب؛ فَهِي مَرْحَلة التَّكوين والتَّأسِيس لمِشوَار الحَيَاة وبِنَاء المُستَقبَل.
لَم يَعْرِف جِيل مَن سَبقنَا طَعْم التَّعلِيم بمَفهُومه العَصْري الوَاسِع، إلَّا مِن خِلَال مَدَارس تَحفِيظ القُرآن الكَرِيم، وحَلقَات العِلم فِي المَسَاجد، والجَوَامِع، ومَجَالس العُلمَاء، وبَعْض المَدَارس بعَدَد أَصَابع اليَد فِي مَسقَط ومَطرَح وصَلَالة وبَعْض مُدُن عُمان، أو باختِيَار طَرِيق الهِجرَة، لتلقِّي العِلم خَارِج عُمان، وهُو خِيَار صَعْب، لَم يَكُن حِينَها بالسُّهولة تَحقِيقه.
مَعَ إشْرَاقَة نَهضَة عُمان الحَدِيثة فِي العَام 1970م، بقِيَادة حَضْرَة صَاحِب الجَلالَة السُّلطان قابُوس بِنْ سَعِيد المُعظَّم -حَفِظَه اللهُ ورَعَاه- كَان للتَّعلِيم الرِّعَاية والاهتِمَام الأَكبَر مِن قِبل الدَّولَة، فانتَشَرت دُور العِلم فِي كلِّ مَكَان مِن عُمان، فشَّكلتْ تِلكَ التَّوجُّهات التَّنمويَّة والإِنسانيَّة نَقْلَة كَمِّية ونَوعيَّة لمَسَار الحَيَاة، وعَلَى أَثَرِها تَحقَّقت الكَثِير مِن الأَحْلَام، التِي كَانَت يَومًا مَرسُومة فِي الفِكر والخَيَال.
فِي بِدَاية تِلك المَرْحَلة الصَّعبة لمَسِيرة التَّعلِيم، والتِي هِي بمَثَابة مَرْحَلة تَأسِيس وبِنَاء، تَقدَّم لَهَا بعَزِيمة وصَبْر نُخبَة مِن أَبْنَاء عُمَان المُخلِصِين الأَوفِياء، فعَلَى أكتَافِهم تَمَّ تَأسِيس وبِنَاء مَنظُومة التَّعلِيم في عُمان، فَلَم يَشغَلهُم حِينَها مِقدَار مَا يَتَقاضُونه مِن رَاتِب أو أَجْر، ولَم تَشغَلهُم نَوعيَّة المَبنَى والبِيئَة المَدرسيَّة التي يَعمَلُون فيهَا؛ فَلَا كَهربَاء، ولَا إِضَاءة، ولَا مَرَاوح، ولَا تَكيِيف، كَانُوا بأَنفُسِهم يتَولُّون كُلَّ شَيء، ويَعمَلون فِي كُلِّ شَيء، كَانُوا كخَليَّة نَحْل تَعمَل برُوح الفَرِيق، يَبنُون المَدرسَة إِذَا كَانَت خِيامًا، يَحمِلون الطَّاولَات والكَرَاسي، يَحمِلون كَرَاتين الكُتب، كَان غُبار «الطَّباشير» يَملَأ أَيدِيهم، ويَعْلَق فِي وُجُوههم، ويتَسرَّب إلى رِئتِهم، لَكِنَّه كَان بالنِّسبَة لَهُم شُعلَة يُضِيئُون بِهَا المُستقبَل.
كُنتُ أياَّمها طِفلًا لَا يَتَجاوَز الخَامِسَة أو السَّادِسة مِنَ العُمر؛ فكَان حِينَها حَديثُ المَدرسَة يَشغَل الأمَّهات والآبَاء؛ فالجَمِيع كَان مُتعطِّشًا لأَجْل أنْ يَرتَوي أَولادُه مِن مَعِين العِلم والمَعرِفة، بَعدمَا فَات القِطَار الكَثِير مِنهُم؛ فكَان المُعلِّمون يطُوفُون القُرى بسِجلَّاتِهم مِن أَجل حَثِّ النَّاس عَلى تَسجِيل أَولَادِهم فِي المَدرسَة، لَم تَكُن هُناك أيَّة شُرُوط للتَّسجِيل، فالمُهمُّ أنْ يَتعلَّم الجَمِيع ويَسْعَد بِهم الأَهْل والوَطَن.
كَانَ مِنْ بَيْن المُعلِّمين الذِين ارتبطتْ بِهْم ذَاكِرةُ طُفُولتِي الأولَى، مُعلِّمي مُحمَّد بِنْ سُليمَان بِنْ سَعِيد البلُوشي، كَان -رَحِمَه الله- يَطُوف قَريتنَا مِن أَجْل حثِّ النَّاس عَلى تَسْجِيل أَولادِهم فِي المَدرسَة، وعِندَما رَآني طِفلًا صَغِيرًا خَجُولًا، رَأى حِينَها أنَّ سِنِّي لَم تَصِل إِلى سنِّ المَدرسَة بَعْد، خَاصَّة وأنَّ تِلك الدُّفعَة تَضمُّ أطفالًا أَكبَر مِنِّي سِنًّا، خَوفًا مِنه أنْ يُؤثِّر ذَلِك عَلى تَحصِيلي الدِّراسِي فِي المَدرسَة، وكَان حِينَها مُحقًّا في ذَلك، إِلَّا أنَّ أمِّي مِن مَحبَّتها وحِرصَها قَد أصرَّت عَليه أنْ أَكُون مِن ضِمْن تِلكَ الدُّفعَة، فخَضَعتُ حِينَها لاختِبَار تَقدِير السِّن، وهُو مُلامسَة يَدِك اليُمنَى أُذنَك اليُسرَى مِن أعلَى الرَّأس، فلَم نَكُن حِينَها نَحمِل شِهَادة مِيلَاد، فجِيلُنا لَم يَعْرِف طَعمَ ولَادَة الأُسرَة المِخمليَّة، التي يَعِيشُها جِيل اليَوْم فِي المُستشفَيات، فخُرُوجُنا إِلى هَذِه الدُّنيا ونَحنُ نُقبِّل التُّراب وتَحْت جِذعِ الشَّجر، وشَهَادة مِيلادِنَا مَرسُومة فِي سِجلِّ ذَاكِرة الأمَّهات، وصَحَائِف كُتُب ودَفَاتر الآبَاء والأجدَاد، أو فِي وَثِيقة مَكتُوبَة عَلى جُدرَان الصَّفيف.
كَان -رَحِمه الله- مُعلِّمي لمَادَة الحِسَاب فِي مَرحَلة دِرَاستِي الأولَى، وكَان حِريصًا عَلى أنْ يَحفَظ جَمِيع الطُّلاب جَدوَل الضَّرب، وكُلَّما أَخطأتُ رَفَعنِي مِن شَعْرِي الكّثِيف حتَّى أشعُر بألَم التَّقصِير، وإِذَا مَا كُنا عِند حُسن ظنِّه بِنَا، ونَتَجَاوب مَع شَرحِه وأسئِلَته، كَان يَفْرَح كَثيرًا، ونَسْمَع مِنه كَلِمَات كُلها دَافِعيَّة وتَحفِيز، مَا زَالَت رَاسِخة فِي ذَاكِرتِنا إلى اليَوم.
فِي آخِر أيَّامه -رَحِمه الله- وعِندَمَا كُنت أُشاهِده مُتأثِّرا بالمَرَض في عُزلَة إيجابيَّة، كُنت أتألَّم كَثِيرًا لمَحبَّتي وتَقدِيري لَه، لَكِنَّه كَان قَويًّا صَبُورًا حتَّى آخِر يَوم مِن حَيَاته، لَم يُظهِر ضَعفَه أو مَرضَه أَمَام الآخرِين يَومًا، وقَد غَادَر هَذِه الحَيَاة الفَانِية بهُدُوء، ولَكِنْ مَعروفُه وذِكرَياتُه لَا تُنسَى أبدًا، وسَتكُون خَالِدة فِي قُلوبِنا دَومًا.
مَرَّت السَّنوات، وذَات يَوْم كُنتُ فِي زِيَارَة إلى المَدْرسَة التِي يَدرُس فِيهَا أَحَد أَبنائِي لمُتَابعتِه، فدَخَلت الفَصْل لأَسأَل عَنه، فإِذَا بالمُدرِّس أَحَد أَبنَاء مُعلِّمي مُحمَّد بِنْ سُليمَان البلُوشي، وكَان مُعلِّما لمَادَة الرِّياضيَات أيضًا، مَع اختِلَاف كَبِير فِي طَرَائق التَّدرِيس ومَنَاهج التَّعليم بَيْن مَا كُنا عَليهِ واليَوم، وَقفتُ حِينَها مُتسمِّرًا مُنبَهرًا وفَرِحًا أَمَام الفَصْل، وَشَرِيط ذِكريَاتِي يَعُود بِي إلى السَّبعينيَّات، مُتذكِّرا سِيرَة ذَلِك الرَّجل الطيِّب، صَاحِب العَطَاء، المُحب لوَطَنِه ومُجتَمعِه.
وعِندَما تَشرَّفتُ بتولِّي أمَانة سِر النَّادي فِي تِسعينيَّات القرنِ المُنصَرِم، حَرصتُ حِينَها عَلى تَأسِيس أَرشِيف لذَاكِرة النَّادي، وقَضَيتُ أيَّاما عَدِيدة لَيلاً ونَهَارًا فِي جَمْع وتَصنِيف وفَهرَسَة كلِّ وَثَائق النَّادي القَدِيمة، والتِي كَانَت حِينَها مَركُونة ومُبعَثَرة فِي مَخْزَن خَارِجي، رتَّبتُها فِي مَلفَّات وحَافِظَات مُنذ التَّأسِيس وحتَّى ذَلِك اليَوم -لَا أَدْرِي إنْ كَانَت بَاقِية، أم أَتَى عَليهَا إِعصَار «جُونو» عِندَما غَرِق مَبنَى النَّادي بالمِيَاه- فكَان مُعلِّمي مُحمَّد بِن سُليمَان البلُوشي -رَحِمَه الله- مِن بَيْن المُؤسِّسين للنَّادي فِي بِدَاية السَّبعينيَّات، وهُو أوَّل مَن تَرَأس النَّادي، وعَلَى يَديهِ ومَن مَعَه مِن المُخلِصِين تمَّ إِشهَار النَّادي بصُورَتِه الرَّسمِية، ولَهُم فِي مَسِيرة النَّادي إِنجَازَات مُشرِقة، وقَد ضَمَّنتُ تِلكَ الإِنجَازَات، والأَسْمَاء المُتَعَاقِبة عَلَى إِدَارة النَّادي مُنذُ التَّأسِيس فِي الطَّبعَة الثَّالثة مِن كِتَاب «قُريَّات.. مَاضٍ عَرِيق وحاَضِر مُشرِق»، الصَّادرة فِي العَام 2012م، وَفاءً ومَحبَّة لعَطَاء هَذا الرَّجُل، وتَخلِيدًا لذَاكِرتِه، وكَذَلك لذَاكِرَة العَدِيد مِن أَبْنَاء الولَايَة الأوفِيَاء المُبدِعين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.