مع التحوُّلات العُمرانية لسوق قريَّات القديم، التي شهدها في عشرينيات وثلاثينيات القرن المنصرم، تمَّ تجديد وتوسعة السوق بمحلات تجارية مبنيَّة بالحصى والطين، كان الحصى يُؤتى به من جبل "قشاروه" المطل على المعلاة، وكذلك من الجبال المطلَّة على الحاجر، بينما قام الحمامير باستخدام مقطعًا للطين في الراحضي المطل على المعلاة، فحفروا هناك حُفرة واسعة، فنقلوا منها الطين لبناء دكاكين السوق، فأصبحتْ بُحَيرة كبيرة، بفعل تجمُّع المياه فيها.
سُمِّيت تلك الحفرة حينها بـ"جفرة الحمد"؛ حيث كانت مُتصلة بلسان (خور) بحري، يمتد من الساحل إلى مشارف المعلاة، مرورًا بالجنين على ضِفَافها الجنوبية، وهو في الوقت ذاته كان مصرفًا لوادي المسفاة، ومياه الأمطار المتجمِّعة في الراحضي.
كان ذلك الخور يُسمَّى قديما "خور أمبوكيه"، وهو من الأخوار الجميلة، التي كانت تشكل موئلا مهما للكثير من النباتات، والأعشاب، والطيور، والكائنات البحرية النادرة.
وقديمًا.. كان البحارة من أهل الجنين والمعلاة يستخدمونه معبرًا للبدانة وهواري الصيد، وأتذكَّر حينها، كانت تلك القوارب الخشبية يتمُّ رفعها من الخور، ويحفظها أصحابُها تحت أشجار الغاف الكثيفة، المطلة على طوي "الوصيلية" الغناء.
ظلَّت جفرة الحمد موجودة في مكانها، حتى استحداث الشارع الرئيسي المؤدي إلى مسقط، ففُصلت عن مجرى الخور، ثم تغيَّرت مَعَالمها فاختفت، فظلَّ الخور في الجانب الآخر يُؤدِّي دوره الرئيس، كمعلم بيئي كوَّنته الطبيعة مذ آلاف السنين.
وفي بداية التسعينيات من القرن المنصرم، ومع التقسيم الإداري الجديد، والذي بمقتضاه تم تبعية ولاية قريَّات إلى محافظة مسقط إداريًّا، وانتقال خدمات البلدية إلى بلدية مسقط، شَرَعتْ البلدية في بداية مشاريعها بإنشاء حديقة الشهباري؛ فاعترض بعضُ الأهالي عليها؛ كونها تقع في مكان قريب من الشارع العام، إضافة لصِغَر حجم الحديقة؛ فالتقى حينها معالي المهندس النشط عبدالله بن عباس رئيس البلدية السابق ببعض الأهالي، وكنتُ من بينهم، فاستمع إلى الجميع، وكان حينها مُقتَنِعًا بمطالب الأهالي، وقال: هي بداية، بهدف إبراز دور البلدية في الواجهة، ومن ثم ستعقبها مشاريع أوسع وأهم.. وبالفعل، تمَّ لاحقا إنشاء بعض المشاريع الترفيهية والخدمية، كمُتنزه هُوية نجم، ومُتنزه الصيرة، ومتنزه البحيرة، ولاحقا تم إنشاء ميدان الاحتفالات، ومصلى العيد، وسوق هبطة سابع... وغيرها من المشاريع الخدمية والبلدية.
ويعدُّ مُتنزه البحيرة أحد أكبر المتنزهات في ولاية قريات مساحة، وقد أختير موقعه أيضًا في آخر مسار ذلك الخور، الذي كان يغذي جفرة الحمد قديمًا، فردمت البلدية ذلك الجزء من الخور، وحولته متنزهًا جميلًا، أصبح اليوم متنفسًا مهمًّا للأسر؛ بهدف الاسترخاء والترفيه وممارسة رياضة المشي.
وتتوسَّط هذا المتنزه بحيرة مغلقة دائرية الشكل، كانت تلك البحيرة تتجدد فيها مياه البحر مع عمليات المد والجزر؛ حيث تصل إليها المياه من الأعماق؛ نظرا لعدم وجود الطريق البحري الموصل حاليًا إلى الميناء، ومع إنشاء ذلك الطريق، ولتغيرات بيئية متعددة، ونظرًا لعدم تجدد المياه في تلك البحيرة، فقد أصبحت المياه فيها آسنة، وقاعها أصبحت التربة فيه حمدة، تنبعث منها رائحة كريهة، تأذى منها من يسكن حواليِّ متنزه البحيرة. رفعتُ حينها عِدَّة مقترحات لمعالجة هذه المشكلة، فكانت البلدية مشكورة متفاعلة ومتجاوبة في مثل هذه المواقف، فهي مسخرة دوما إمكانياتها لراحة وخدمة الإنسان.
واليوم.. مررتُ بمتنزه البحيرة، فوجدتُ مجموعة كبيرة من نوافير المياه تزين البحيرة في منظر ساحر مريح، هي كفيلة بتجدد وتحريك المياه الراكدة في البحيرة، وقد نبتت على حوافها نباتات خضراء، تتناغم مع بيئة المكان.
أشجار المُتنزه أصبحتْ خضراء سامقة في عنان السماء، ظلالها وارفة في منظر بهي، يهب عليها نسيم البحر المنعشة من كل جانب، تزينها تغريدات الطيور وزقزقة العصافير، ويجملها صوت الماء في انسكابه، كأنها تعزف لحن الطبيعة، وأنغام الحياة.
كتبه: صالح بن سليمان الفارسي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.