لقد شكل البحر ومعالمه الجيولوجية والبيئية متنفسا مهما في حياتي، وعشقا متأصلا في مسيرة العمر، في مَطْلع التسعينيات من القرن الماضي، قمت مع بعض الأصدقاء برحلة بحرية عبر قارب صيد، كان صاحبه جمعة بن سالم السناني، كانت بداية رحلتنا مع الصباح الباكر من شاطئ الساحل، توجهنا جنوبا إلى مشارف دغمر، ثم عدنا شمالا في اتجاه راس بوداود.
تأثر بعض أصدقاء الرحلة بدوار البحر، ومنهم من غلبه القيء، كان عددنا كبيرا ومنهم أصحاب الأوزان الثقيلة، والقارب ليس بذلك الاتساع؛ الأمر الذي أثر في نفسيتي، فطلبت منهم أن أنزل في راس بوداود، ثم يواصلوا هم رحلة الصيد في ذلك المكان، ليعودوا مع حلول العصر إلى مكان وجودي لتحضير وتناول وجبة الغداء. تركوني هناك وحيدا، فكانت فرصة للتأمل والتفكر بعظمة المكان وتكويناته، مكان ساحر ومبهر روعة في الجمال.. شاطئ رملي وصخري تحفه ألوان الطبيعة بتجلياتها، ما إن تتعمق في المسارات الجبلية المطلة على هذا الشاطئ الفيروزي، حتى تستقبلك الهضاب الصخرية بتنوع نباتاتها وأشجارها وحياتها الفطرية النادرة.
ومع حلول المساء، تجمعنا جميعًا على شاطئ رملي يفيض بالنعومة والدفء، قمنا بتحضير الغداء وشي السمك على الجمر؛ وذلك في جو أخوي يسوده التعاون ومشاعر تسمو بالحب والتقدير، استمرت جلستنا هناك إلى غروب الشمس، كان منظر الغروب يوحي بالهدوء والطمأنينة، وبنفحات من الأمل بتجدد الحياة، تودعنا الشمس بنورها الذهبي من هنا، ويستقبلنا القمر بنوره الصافي من هناك، هي دروس حكيمة في حركة الكون وأهمية الوقت وحسن إدارته، وحتمية التجديد والتغيير في الحياة والتفاعل معه. كان شعاع الشمس الذهبي يرسم لوحة بديعة في الأفق، ينعكس على مياه البحر وأمواجه المتلألئة، وعلى قمم الجبال الشماء بألوانها المشرقة، المنحدرة بتدرُّج مذهل لتعانق البحر، فيما الكوس تهب علينا بنسماتها المنعشة بلطف وهدوء.
تناولنا وجبتنا في سعادة وفرح، ثم قفلنا راجعين مع غروب الشمس وغياب شعاعها الآسر للقلوب، فركبنا قاربنا فسار بنا في عرض البحر، وسط رؤية بصرية وذهنية ممتعة، للوحة ومشاهد «بانورامية» رسمتها تفاصيل طبيعة المكان وتكويناته الجيولوجية، خاصة تلك التكوينات الصخرية المبهرة في الحدب أو الجزير، فما إن قطعنا مسافة من راس بوداود في غِبَّة البحر وإذا بالقارب يتثاقل في سيره على غير عادته، وتكاد مياه الموج تلامس حوافه الفوقية، مؤذنة بغرق القارب ومن فيه، دَخَلنَا الخوف والهلع لما رأيناه من مشهد، حاول قائد القارب تهدئة الأمر، وأنه سوف يتدبر الأمر، بأن يتبع الموجة وهي في طريقها في عرض البحر تفاديا من تأثيرها على القارب.
كُنَّا جميعًا جلوسا على زفارة مرتفعة عن عمق القارب، أدخلتُ يدي تحت الزفارة فإذا المياه تملأ القارب، يا إلهي القارب في طريقه إلى الغرق، أدرك حينها قائد القارب أن «الجردي» لا يعمل بصورة صحيحة، وبعد معاينته وجد أنَّ الأوراق التي كانت ملفوفة بحبات البرتقال ورُميت في قاع القارب قد سدت فتحة الجردي، والذي وظيفته التخلص من المياه الراكدة في قاع القارب بصورة آلية.
قمنا بنزف المياه من القارب بصورة سريعة، فكان الجميع يعمل بحماس لإنقاذ الموقف، تبللت ملابسنا وفقدنا نعالنا وبعض احتياجاتنا في البحر، وبعد جهد جهيد استعاد القارب عافيته، فحملنا بسلام إلى شاطئ الساحل، فوصلنا سيف البحر والليل يسدل ستاره على الكون، والنجوم تسطع بنورها في السماء.
وفي رحلة بحرية أخرى، رافقتُ فريقاً إعلاميا لتصوير بعض المشاهد التليفزيونية لشواطئ قُريَّات، لإعداد تقرير تليفزيُوني عن شواطئ الوُلاية. بدأنا من شاطئ مكلا وبر في فنس حتى رأس أبو داود القريب من السيفة، وعلى الرغم من جمال هذا الشريط الساحلي، إلا أن رأس أبو داود -أو راس بوداود، بلهجة أهل الساحل- كان الأجمل تأثيرا على نفوسنا. لعل انبهار الزيارة الأولى كان للمكان، وتجليات حكاياته الأسطورية والتاريخية عبر قرون من الزمن والراسخة في الأذهان، إضافة إلى مناظره الطبيعية الخلابة، التي ترافقك جمالها في كل زاوية ومكان، وتضفي على مشاعرك بعدا جماليا آسرا.
لم يحظ هذا المكان بالدراسة والاهتمام على الرغم من أهميته التاريخية والطبيعية والسياحية؛ فهو عبارة عن رأس جبلي ممتد في عمق البحر، ويشكل نهاية لمسار جبل السعتري المشهور محليًّا بنباتات طبية عديدة، وعلى رأسها شجرة الزعتر (السعتر). قديمًا، كان رأس أبو داود أكثر شهرة، وذلك في فترة ما قبل اختراع السفن البخارية، وتحول الملاحة البحرية عبر المحيط إلى مسارات جديدة؛ فكان علمًا أو علامة بحرية مشهورة لمسار السفن العابرة للمحيط الهندي وبحر عُمان، وكذلك للسفن المتجهة إلى مسقط ومطرح وساحل الباطنة وصولا إلى مدخل الخليج العربي.
أَضف إلى ذلك أنه كان بمثابة حوض طبيعي تلجأ إليه السفن قديما للاحتماء من التيارات البحُرية وعواصف الحيمر والرياح الشديدة... وغيرها من الأنواء البحُرية والجوية؛ وذلك لطبيعة المكان وعمق البحر وتكوينه الجيولوجي.
ولهذا المكان سحر جمالي أخاذ، تتجلى فيه كل عطايا الجُغرافيا الطبيعية في عُمان: هدوء المكان، وسكون الطبيعة، وتنوع التضاريس، وتعدد الحياة الفطرية البرية والبحرية، كما تقع بالقرب منه مصائد سمكية غنية بالثروة البحرية.
تَسمَع لأمواج البحر الهادئة سيمفونية طبيعية عندما ترتطم بحنية على الصخر، وتتداخل في فوالق الصخر وشقوقها بطريقة مذهلة، محدثة صوتا موسيقيا عذبا تعزفه الطبيعة.
كان أهل قُريَّات وأهل السيفة يصلون إليه مشيا، أو على الدواب، أو بقوارب الشراع والغادووف. اليوم، البحر قد ابتلع الكثير من الشاطئ، خاصة بعد ما خلفه إعصارا «جونو» و«فيت» قبل سنوات قريبة من تغيير لمعالم الطبيعة في قُريَّات؛ الأمر الذي غيَّر الكثير من المسارات القديمة إلى ذلك المكان الرائع في عُمان.
لَا أدري لِمَ لا يُهتم بهذا المكان، ويُتخذ معلمًا سياحيًّا بارزا؛ فهو قريب من مدينة مسقط العامرة، وإذا ما تم تطويره وشق إليه طريق بحري يربط مسقط بشرقية عُمان سيكون لهذا الطريق شأن عظيم في تعزيز صناعة السياحة الشاطئية والجيولوجية في عُمان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.