الأربعاء، 1 أكتوبر 2025

الأفلاج.. منجز حضاري عظيم

منذ سنوات طويلة، عملت على توثيق أسماء المواضع الزراعية في ولاية قريَّات، وقد تضمن الجزء الأول من كتاب "قريات.. المكان وآثار الإنسان" مئات الأسماء القديمة لهذه المواضع.
وما لفت انتباهي أن نظام الأفلاج في ولاية قريات يتميز بتقنيات ومصطلحات عظيمة، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحياة الإنسان وتفاصيل عيشه، سواء من الناحية الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية، سأورد هنا بعض الأمثلة، ويمكنكم إيجاد تفاصيل أكبر في ذلك الكتاب، وسأعمل مستقبلاً -إن شاء الله- على دراسة أوسع لهذا الجانب لأهميته:
1- قد تختلف أنظمة تقسيم وتوزيع مياه الأفلاج من قرية لأخرى، بل قد يظهر هذا التباين داخل القرية الواحدة إذا كانت تضم مجموعة من الأفلاج. وينطبق الأمر ذاته على مسميات نجوم المتاهبة (محاضرة الليل). ويدل هذا التنوع على مدى ارتباط الفلج بثقافة السكان وتكييف أنظمته مع بيئة المكان وتضاريسه.
2- نظام التهييت: مصطلح قديم، يقصد به توجيه مياه الفلج إلى ضواحي منطقة الاحتياج الواقعة في طرف القرية (علوى)، بحيث تستمر المياه في الساقية الرئيسية دون ان يتم تحويلها إلى السواقي الفرعية، وفي هذا اليوم، يتم تعطيل نظام تقسيم مياه الفلج مؤقتا، ويُطبَّق نظام "التهييت" عادةً أيام الأعياد الدينية لإتاحة الفرصة للبيادير وأصحاب الأموال للتفرغ لهذه المناسبة، وفي اليوم الثالث، يعود نظام دوران مياه الفلج إلى طبيعته ووضعه المعتاد. يُطلق البعض على هذا الإجراء اسم "التهييت" أو "مكسورة العيد". ويختلف هذا النظام عن كسر أو رغد مياه الفلج الذي يحدث أيام الأمطار أو عند إصلاح الفلج، كما أنه نظام خاص بقرى معينة دون غيرها.
3- في الماضي، عندما كان من المتعذر تحديد مواقيت دوران مياه الفلج -التي كانت تعتمد على حركة الظل أو مطالع النجوم، خاصة في الأيام الملبدة بالغيوم- كان العريف يُعلن أن ذلك اليوم «كبسة». وهذا المصطلح، الذي تستخدمه بعض القرى، يعني تعذر تبديل أو تقليب دوران مياه الفلج وفقًا لمواقيتها المتتابعة، وتُنظّم هذه الفترة أعرافٌ وسننٌ قديمة.
4- يتم تبديل توزيع مياه الفلج بالتناوب بين فترات، بحيث ينتقل الذي كان يسقي نهاراً إلى السقي ليلاً، والعكس صحيح. يهدف هذا التناوب إلى تحقيق نوع من العدالة، لأنه من المعلوم أن السقي ليلاً ينطوي على بعض المشقة، كما أن معدل الاستهلاك المنزلي وتبخر المياه يكون أعلى خلال النهار. لذا، فإن هذا التقليب يعوّض كل الأطراف بعدالة.
5- توجد تقنيات متنوعة لتحديد مواقيت تدوير مياه الفلج، يعتمد أغلبها على طرق مشتركة مثل تتبع حركة الظل أو رصد مطالع النجوم. ومع ذلك، استخدمت بعض القرى تقنيات إضافية، منها: قياس طول ظل الإنسان بالقدم، ومراقبة ظل الجدار، وتتبع حركة أشعة الشمس على الجبال والأجسام الثابتة، والاستماع إلى أصوات الطيور (مثل صياح البابو)، وكذلك الاستناد إلى أوقات الأذان.
وتميزت قرية صياء بحرصها على تطبيق الأنظمة التقليدية لتحديد مواقيت دوران مياه فلج المبغي. ومن المثير للاهتمام أن الساعة الشمسية المخصصة لفلج المبغي (المعروفة بالجامود) تُستخدم أيضًا لتحديد مواعيد فلج آخر في صياء، وهو مستوى متقدم من الفكر المعرفي الذي يتطلب دراسة معمقة والوقوف عليه مستقبلًا بإذن الله في إصدار جديد.
كتبه/ صالح بن سليمان الفارسي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.