الأربعاء، 17 سبتمبر 2014

سمرة


وَحِيْدَة هي في هذا السيح.. وحيدة هي في هذا الوادي.. وحيدة هي في هذا المسيل الرملي كالبلور الأبيض.. تلوح بأغصانها الخضراء إلى العابرين بسلام.
اقتربتْ إليها استجابةً لدعوتها للمارين، احتضنت جذعها المصفر من وهج الشمس. التصقتْ دِشداشتي وقماشها المصنُوع من قطن الخضرنج، وهدوب الساسوني، والتوترين، والمريكاني، والمخيوطة بالبريسم.
رأيتُ سائلًا ينزف من جذعها المجروح بعُمق. لونه أحمر قاني مختلط بلون يميل إلى السواد، ولون الصخور الجبلية المجاورة لها في الجبل الأسود وجبل السعتري. له رائحة زكية كرائحة الصمغ والحوجري الظفاري، ينعش النفس مع هبات الكوس المحملة، برائحة زهور البرم، وورق السعتر، وزهور الجعدة.
حدَّثتنِي عن أيام زمان. تَبادلنا الذكريات؛ حيث طريق مجلاص القديم المار بقربها. ذكَّرتني بطرق الجمال والحمير العابرة إلى مطرح. تلك القوافل المحمَّلة بالملح القُرياتي، وسح برني وادي العربيين، ونغال المزارع، وخلاص السواقم، وقدمي وخمري ومديريكي وبوسلا قُريات، وخنيزي المسفاة، وبسر مبسلي، وفرض حيل الغاف، وجواني الفاغور.
ذكَّرتني بالحمير المحملة بحطب السمر. قالت لي: تتذكر مقولة العُماني أنَّ نار السَّمر تخلف جمرًا. اشتكتْ لي بحُرقة تأخُّر المطر ومسيل الماء كسليل رقراق بين حبات الرمل. عِنْدَما شعرت بما يدور في ذهني من قلق تجاهها، قالت لي: لا تقلق، فقد مَنَحنِي الله خاصِّية تحمُّل شدة الحرارة والجفاف والعطش.
حدَّثتني عن قِصَّة الراعي الذي قَطَع جزءًا من غُصنها من أجل أن يشعل وقودًا ليصنع شاي بالحليب (الكرك)، أو يصنع محجانا، أو كانونا كدفاية أيام الصردة.
فَقَد خَدَعها، حيث صَنع من ذلك العود قادومًا أو خصينا. وفي اليوم التالي قَطَع بذلك الخصين شجرةً كانتْ مجاورة لها، ليُقدِّمها قربانا لتركبة حلوى، أو لإشعال تنور للشواء والمشاكيك، أو ليصنع فحمًا ليحرق به بخُور اللبان والمخلوط. نظرتُ إلى ذلك الجذع المقطوع بقُربها، فوجدتُه مُخضرا لتوِّه. تُحيط به شجيرات صغيرة خضراء من الحرمل والشخر والشوع.. تتألم هي أيضًا من قَسْوة تواير السيارات التي لا ترحم.
قصَّت لي قصة الصَّنصور الذي بنى عشه بين أغصانها. فقد فقَسَت تلك البِيضات الصَّغيرة المدوَّرة، لترفرف منها عصافير بألوان جميلة. أهدتنِي قُرمُوصا لونه بني، مُكتسيا بحبات صلبة كالخرز. حدثتني عن العوائل والأطفال المارِّين بقُربها للنزهة، وهم يمرحون في تلك الطبيعة البكر بفرح وسرور.
نَظرتُ إلى جذعها الملامس لحبَّات الرمل البيضاء، فوجدتُ ملايين الكائنات ترقُص طربا. وجدتُ بقربها: الجدي، والشاة، والصخلة، والجاعدة، والحملة، والكبش، والتيس، والبعير تتهادى بفرح وبهجة؛ حيث تحن عليها تلك الشجرة بأغصانها المتفرِّعة، وبظلها الممتد، وبإنتاجها الوفير.
سَمِعتُ طنين نحلة الطويقي بين وريقاتها تعزف سيمفونية العسل. تمتص من رحيق أزهارها لتصنع عسل البرم. رفرفت بجنبها طيور الحمام والصفرد مُغرِّدة بصوتها الشجي الجذاب.
حمَّلتنِي تلك السمرة سلامًا لكل المحبين للطبيعة. وقالت لي: قل لهم ترى الأمور لم تكُن كَمَا مضىَ. ودَّعتُها، ولا يزال ذلك السائل ينزف من جذعها المجروح بعُمق. وأشارتْ بغُصْنِها الأخضر إلى المارِّين تُنَاشِدهم وتُطالبهم بأن تُوَاصل معيشتها في ذلك المكان بسلام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.