القَاضي أبو سرور.. الشيخ حميد بن عبدالله الجامعي،
يُعد من أهم الشعراء في عُمان والعالم العربي، وللأسف الشديد لم يُعطَ هذا الرجل
حقه من قِبل الإعلام؛ لإبراز مكانته الأدبية، والعلمية، والفقهية.
كَان في فترة وجوده لدينا في قُريات كقاضٍ في
المحكمة الشرعية، يُعد أحد المراجع العلمية والفقهية والأدبية للكثير من الأدباء
والمُثقفين بالوُلاية، ولا يخلُو مجلسه إلا وللشعر مكانة في مجلسه.
وقد اتَّصَف بالصرامة في أحكامه حسب ما يقتضيه
الشرع الشريف، وأذكُر عندما كُنت مُوظَّفا في مكتب الوالي، كانت المحكمة في نفس
المبنى، وقد جَرَى العُرف قديما بأنَّ الدعاوى ينظرها أولا الوالي؛ بهدف السعي لإصلاح
ذات البين، وفق الأعراف والتقاليد العُمانية، وكثيرٌ من الدعاوى يتمُّ حلها بهذه
الطريقة قبل وُصُولها إلى المحاكم، وكما يقال: "الصلح سيد الأحكام".
وإِذَا ما تعسَّرت الأمور، ولم يرتضِ الطرفان
بالصلح، حينها يتم إحالة الدعوى للقاضي للحكم، وكثيرا ما يقُوم القاضي أبو سرور
بنفسه بالمعاينة الميدانية إذا تطلَّب الأمر ذلك، مهما كانت صُعوبة المكان ووعُورته،
حتى في أعالي الجبال وبطون الأودية وفي القرى النائية، وكان دقيقًا في الاستماع
لطرفيْ النزاع، دُون أي تفرقة، مهما كان ذلك الطرف.
وكثيرًا ما يَصْطَحب معه أحد الكتبة؛ حيث يتطلب
منه قراءة بعض القصائد له، وكثيرا ما يشرح تلك القصائد ومدلُولاتها، بل يتطرَّق
إلى تفصيلها نحويًّا وإعرابًّا، وكثيرا ما تجدُه يكتب الشعر في كل مكان: في المكتب،
في السيارة، في مجلس العلم، في مجلس القضاء أثناء نظر الدعوى الميدانية، أو تحت
شجرة استمتع بثمرها أو ظلها، أو في البيت، وفي وقت مرضه وحزنه، أو في وقت راحته
وسعادته، دائما ما تجد القلم والكتاب قرينه في كل مكان.
كَان عِند الانتهاء من مجلس البرزة مُعلِّما
جالسيه من الموظفين، يتبادل معهم الحُوار والنقاش في شتى مجالات العلم. كان مدرسة
واسعة وشاملة في الفقه والأدب، نهل منها الكثير. واتَّصف أبو سرور دائما بالتواضع
واحترام وتقدير الناس مهما كانوا، ويقدِّر دائما المرأة، ويشيد بدورها في خدمة
المُجتمع، ويحرص على إثبات حُقُوقها، وعندما يحضر مجلس الحكم، تجد أبو سرور جادًّا
في عمله، صارما في حكمه، وفي إحقاق الحق وتثبيت العدل.
قبل سنوات ليست بالقصيرة، قابلتُه في المستشفى
السلطاني بعد فِرَاق طويل، وكعادتِه استقبلنِي بابتسامتِه وتقديرِه واحترامِه
الواسع، وقد أثرت فيَّ حالته المرضية.. تذكر قُريات ولاطفني بالكلام الطيب من أب لابنه
عن ذكريات تلك الأيام رغم مرضه.
اليوم، يُودِّعنا هذا الأديب القدير، والمُثقف البارع،
والشاعر الكبير، والقاضي العادل.. يُغادرنا، وقد ترك لنا مكتبة واسعة في شتى علوم
اللغة والأدب والمعرفة، وبصمات راسخة لا تُنسى في مجال علوم الفقه والقضاء والعدل،
نسأل الله له الرَّحمة الواسعة، وجزاه الله خيرَ الجزاء عمَّا قدمه لوطنه وأمته،
وجدير بأن يتم الاحتفاء بمُنجزاته العلمية والوطنية، وتكريم شخصه الكريم.
ومِن ذكرياته التي لا تُنسى في قُريات، وبعد أن
تقرَّر نقله إلى محكمة بدبد، أقام نادي قُريات أمسية أدبية لتوديعه في شهر سبتمبر
عام 1987م، بعد أنْ قضى في قُريات مدة ثلاث سنوات وأربعة أشهر، وارتجل قصيدة جميلة
ومؤثرة في وداع قُريات من بين أبياتها:
على من مضى نمضي ولم نملك الردا...
تعالى له التدبير إياك والنقدا
فلا حول للإنسان لو ملك الدنى...
ولا قوة إلا لمن صدق الوعدا
فما اسطاع شخص جلب خير لنفسه...
ولا دفع ضر وانتقاما ولوجدا
وان شاءت الأقدار شيئا بلغته...
غدا مرضيا أو مسخطا لم تجد بدا
فإن جاء ما يملي السرور أحمد السما...
وإلا فان الصبر في الابتلا أجدى
ومن سره ما ساء يوما خليله...
أصيب بأنكى ما رآه وما أردى.
وقال أيضًا:
وما الناس إلا نازل ثم راحل...
وذا يشتكي فقرا وذا أفعم النقدا
وذا ساد بين الناس دُون سيادة...
وذا وارث تاجا حوى البعد والطردا
وذا يدرك الآمال عفوا هنيئة...
وذا يذرع الدنيا مجدا وقد صدا
وليس على الدنيا أشد رزية...
كمثل اجتماع يغرس العلم والجدا
لكنها قد فاتها أن في النوى...
فوائد لا تحصى تعاكسها الوردا
وليس الأخا إلا المحبة والوفا...
فكم من شقيق كسر الساق والزندا
وكم بلد ربتك أولتك كربة...
وكم جئت أخرى توجتك العلا مجدا
وإني لم أكفر محامد موطني...
وإضفاءه إياي بين الورى حمدا
غذاني ورباني وألبسني العلا...
وسابق بي في المجد إذ شوطه اشتدا
وشنف بي أسماع ذا الكون فاخرا...
وأصحبني سيفا أبى يألف الغمدا.
وقال في قُريات:
ولكنني لم أنس دار أماجد...
وجدت بها العلياء والمجد والرفدا
وجدت بها أبناء صدق وإخوة...
كراما أبوا إلا السماك لهم مهدا
وجدت بها علما يزين ذوي التقى...
وجندا إذا شن الزمان الوغى جندا
قُريات لا أنساك ما عرف الوفا...
تراضى زماني أو تبنى له الحقدا
قُريات لو نائيت لم تنأ مهجتي...
وما الحب إلا الروح لا هيكل مدا
مقامك لا يخفي على كل ماجد...
تحلت به العلياء بين الملا عقدا
ثقي أنني رهن الإشارة إن دعا...
إلى شرف داعيك أستأصل اللدا
وإن رمت ميدان البيان أعنه...
وجدت على صهواتها أرفع البندا
وإني وإن عاليت بعدك بدبدا...
فإنكما عينان لا نلتما ضدا
وما بدبد إلا الشقيقة في الإبا...
أشادت صُرُوح المجد عالية خلدا
ولم أعتنق هذي المنصة قائلا...
وداعا ولكني أسوق الوفا عقدا
أرصعه تاج الزمان مفاخرا...
مناسك من لم يقضها نكث العهدا
فإن اجتماعي بالأحبة صحتي...
وروحي وإلا ما بلغت السها جدا
فما حالة الأجسام إن قيل ودعت...
ويعرف مني حاسدي الجمر والوقدا
محال يرى معنى النوى بصحيفتي...
مفاصلها الأرواح خاوية همدى
وإن جاء ذلك اليوم ألفيت نائبي...
لصحبي أو آوي لآخرة لحدا
بس يعرفني في ذلك الوقت صاحبي...
بياني وما أسمى فتى قدس الودا
ستفخر بي العليا على الرغم أنفه...
ويسجد لي قسرا وإن بات لي ضدا
جزى الله عني الخير در قصائدي...
وسيفي والأخلاق والجد والجدا
سأبقي شكورا للإله بعونه...
إلى يوم ألقاه فيوسعني رفدا
بقيت قُريات مدى الدهر قلعة...
ومينا أساطيل تهد العدا هدا
أنا لك ذو الآلاء مجدا وسؤددا...
فشيدي لذي الآلاء شكرا له عدا
فمن يتجند بالتقى يحمد السرى...
وإلا وقاك الله كان الجزا بعدا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.