عِندَما أشرقتْ شمسُ النهضة المُباركة في عُمان
عام 1970م، انتشرت دُور العلم في كل مكان بسرعة البرق، مدرسة هنا ومدرسة هُناك،
المهم هو التعليم، حتى تحت ظل الشجر، أو تحت خيمة من قماش.
فالتعليم كان أهم اهتمامات جلالة السلطان المُعظم -حفظه
اللهُ- مُنذ بداية عهده المُبارك؛ فهو يقول: لا بد أن يتعلم الجميع ليسعد بهم
الوطن.
تهافتتْ الناس كتهافُت الظمآن على الماء، كل واحد
منهم متأبِّط ذراع ابنه أو ابنته إلى دُور العلم. لا يتطلَّب التسجيل أيَّ ورقة أو
شهادة ميلاد، المهم أن ينجح الطفل في إقناع المعلم أو مدير المدرسة بأنه مؤهل
لدُخُول المدرسة.
ولعلَّ الطريقة الوحيدة لتقدير ذلك هي ملامسة يدك
اليُمنى لأذنك المعاكسة لها بعد رفعها من أعلى الرأس، وإذا لم تنجح ترى تلك الأم
أو الأب يترجَّى ذلك المعلم بأنْ يفعل شيئا من أجل أن يدخُل ذلك الطفل المدرسة.
كان هُناك شوقٌ للتعليم بعد ما حُرِم منه الكثير من أبناء عُمان.
قِيل لأبِي: يتطلَّب أخذ صُورة لهذا الطفل ذي الملامح
البريئة لملفه الدراسي. أُخِذتْ إلى أوَّل لقاء لي بالكاميرا، جهاز ضخم على شكل صُندُوق
مُغطَّى بقماش أسود، وضع في الساحة المفتوحة بالقرب من الحصن، وبالضبط أمام
العيادة الصحية القديمة، التي بُنيت في عهد ما قبل النهضة المُباركة (تمَّ إزالتها
في أواخر الثمانينيات بعدما بُني مستشفى جديد في مكان جديد).
وُضِعت على كرسيٍّ خشبي أمام تلك الآلة المجهُولة،
المسماة العكَّاسة. الخوف يتملَّك قلبي مُتسائلا: ما الذي يحدث؟ كان خيالي متعلقا
بالمدرسة. أدخل ذلك الشخص الغريب رأسه في ذلك الثوب الأسود، يُناديني: هيا شوف سيدة
قدام، انظر إلى العدسة ولا تفتح فمك، ولا تتحرك. بحماس.. ضَغطتُ على فمي بقوة،
وبحلقتْ بنظرة طفولية مُتسمِّرا على ذلك الكرسي، وما إن سمعت نقرة تشغيل الكاميرا..
قيل لي: انتهينا.
بعد دقائق، تسلمنا أول صُورة ضوئية في حياتي. ما
هذا؟! إني أبدو جميلا يا أبي، ولكن لِمَ فمي ظهر هكذا؟! تَرَاك ضغطتْ على مزابلك
بقوة أيها الطفل المدلل.. ليس هذا مُهمًّا، المهم هيا إلى المدرسة.
درسنا على يدٍ كريمة من المعلمين العُمانيين وغير
العُمانيين -جزاهم الله خيرا- في مدرسة من الخيام، كان موقعُها في الساحل مكان
ملعب النادي حاليا، ثم انتقلنا بعد فترة بسيطة إلى مدرسة بُنيت بالأسمنت في طوي
الجهامي بالمعلاة، وقد ظلَّت تلك المدرسة تُشكل ذاكرة جميلة لكثير من جيلي، حتى تمت
إزالتها قبل سنوات، لتصبح أرضًا فضاء بلا ذاكرة.
ومُنذ ذلك اليوم، الذي أُخذِت فيه أول صُورة لي، أصبحتْ
تلك اللحظات الجميلة لا تفارقني؛ الأمر الذي أدَّى إلى تعلقي بصديقة اسمها كاميرا
التصوير.
هَكَذا إذن تبدُو صُورتي الأولى في ملفِّي
الدراسي، عند دُخُولي أول مدرسة في بلدي، مع بداية العهد الجديد في عُمان، التي
اسمها مدرسة راشد بن الوليد في ولاية قُريات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.