خِطَاب جلالة السلطان المُعظم -حفظه اللهُ ورعاه- بمناسبة
افتتاح الفترة السادسة لمجلس عُمان -بجناحيه: مجلس الشورى ومجلس الدولة- يحمل مَضَامِين
عديدة ورُؤى سديدة تستشرفُ المُستقبل بحِكمة رشيدة، وهو بمَثابة رؤية إستراتيجية
وخارطة طريق لتحديد معالم العمل الوطني لمسيرة التنمية في السلطنة.
كُل كلمة من الخطاب السامي لجلالة السلطان المُعظم
لها دلالات عظيمة، ينبغي وضعها كمنهاج نظري وتطبيقي ضِمن منهجيَّة واقعية للانطلاق
إلى المُستقبل؛ وذلك من خلال رَسْم وصياغة مُختلف الإستراتيجيات والبرامج والخُطط
والأنشطة التنفيذية لمُؤسساتنا المُختلفة؛ سواءً الحُكُومية منها، أو شركات القطاع
الخاص، وكذلك المُؤسسات الأهلية.
عِنْدَما نتأمَّل مثلًا الفقرة التالية من الخطاب:
"... إننا نتطلع إلى مواصلة مسيرة النهضة المُباركة بإرادة وعزيمة أكبر. ولن
يتأتَّى تحقيق ذلك إلا بتكاتف الجُهُود وتكاملها لما فيه مصلحة الجميع".
نَقِف قليلًا على عبارة "تكاتف الجُهُود
وتكاملها"، وهنا دعا جلالة السلطان المفدى إلى ضرُورة عملية التكامل في
الجُهُود لمواصلة مسيرة النهضة المُباركة، وهو توجُّه حكيم، وفكر مستنير، وثقافة
واعية، تتطلبها المرحلة الحالية والمُستقبلية من أجل رقي الوطن وتقدم الأمة، وذلك
التوجُّه ليس بجديد، فقد أكَّد عليه جلالة السلطان المُعظم مرَّات عديدة طوال
مسيرة التنمية والبناء في عُمان؛ إدراكًا لِما للتعاوُن والتكاتف والتعاضد
والتكامل بين جميع المُؤسسات والأفراد من أهمية في تطور الحياة والتنمية، وتحمل
أعباء المسؤُولية وتأدية الأمانة في البناء والتعمير باقتدار وتميز.
وسَأركِّز هنا على كلمة واحدة فقط من خطاب جلالته -حفظه
اللهُ ورعاه- وهي: "التكامل"؛ فالتكامل هو مبدأ مهم جدًّا من مبادئ
الحياة؛ حيث لا يُمكن أن تَسْعد الحياة والإنسانية إلا بتحقيق هذا المبدأ؛ لأن
الإنسان لا يعيش إلا في ظله لقصور قدراته وإمكانياته في توفير كل شيء، وتلك حِكمة
إلهية من أجل العبادة والعمل، وتحقيق الجهاد البنائي وتعمير الأرض.
والتكامل في حقيقته أيضًا سُنة من سُنن الكون؛ فالمتأمِّل
في حركة الكون الذي نعيش فيه، يجد أنه قائم أساسًا على عملية التكامل، وهذا
التكامل هو قائم أيضًا على مُرتكز أساسي وهو النظام، كلٌّ يُؤدي دوره وفق مسير
محدد، بلا مسابقة، ولا تعدي، ولا تزاحم، وإنَّما تكامل وتعاوُن من أجل تحقيق هدف
مشترك وغاية واحدة.
الكَثير من عُلماء الإدارة وفقهاء القانُون في هذا
العصر يُؤكدون على منهج جديد ضِمن توجُّهات المدارس الإدارية في الفكر الإداري
الحديث؛ بما يُسمى بمدرسة النظم، وهي في حقيقتها مدرسة إسلامية أصيلة تغافلنا عنها
كثيرًا، وركَّز عليها الغرب، واستفاد منها أيُّما استفادة، وهذا الفكر يقوم على أنَّ
أيَّ كيان في الحياة هو عبارة عن عناصر مترابطة ومتداخلة ومتفاعلة في بعضها البعض،
تسعى جميعها لتحقيق هدف مشترك، وإن تفاعل أي جزء من هذه العناصر (سلبا أو إيجابا)
سيكُون له تأثير على كافة العناصر الأخرى المكونة لهذا الكيان؛ بمعنى أن هذا
التأثير سوف ينعكس أيضًا على النتائج النهائية لهذا الكيان، ولا ينجح هذا الكيان
في تأدية مهمته إلا بروح التعاوُن والتكامل بين جميع أجزائه.
ولتقريب هذا المنهج ننظُر مَثلا إلى جسم الإنسان؛
فهو خير مثال على هذا التوجه؛ حيث لا يُمكن أبدا فصل دور أي جزء من جسم الإنسان عن
غيره، وإنَّما هي عملية تكاملية مُستمرة وفق وتيرة محددة ونظام متقن، يعمل بدقة
وبتناسق وانسجام؛ فإذا اختلَّ جُزء منه تأثَّر الكل.
هَكَذا هي الأمة أيضًا، لا تقوم إلا على التماسك
والترابط والتعاوُن والتكامل، ويُؤكد ذلك قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "مثل
المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له
سائر الجسد بالسهر والحمى".
كَذَلك هي المُنظمات والمُؤسسات، يجب أن يسود
عملها روح جديدة تقوم على مبدأ التكامل؛ لتحقيق غايات وأهداف الدولة ومُتطلبات
المُجتمع؛ وذلك وفق مُرتكزات إستراتيجية التنمية الإنسانية؛ بتفرعاتها المُختلفة: الأمنية،
والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمعرفية؛ بحيث تقوم كل مُؤسسة على منهجية
إستراتيجية وإدارية تتكامل مع باقي توجهات المُؤسسات الأخرى؛ حيث إنَّ ذلك التكامل
هو الضمانة الحقيقية لانسيابية تنفيذ البرامج والخُطط بسهولة ويسر، إضافة لقُدرتها
على استثمار الموارد المتاحة بطريقة أكثر جودة وبعائد اقتصادي أفضل.
ويَعني هذا أنَّ كل قطاع وظيفي يتكامل مع كافة
القطاعات الوظيفية الأخرى في الدولة؛ فمثلا قطاع التعليم يجب أن يتكامل في توجهاته
وسياساته مع قطاعات أخرى كالصحة والثقافة والتنمية السكانية والاجتماعية والاقتصاد
والأمن.. وغيرها من القطاعات، وهكذا أيضًا يتكامل قطاع الإسكان مع الصحة والتنمية
الاجتماعية والترفيه والثقافة، وكذلك هو مجلس عُمان من المُهم أن يعمل في تكامل مع
مُختلف قطاعات الدولة؛ بحيث يكُون مُعِينًا في تأدية رسالتها ومهمتها؛ وذلك ينطبق
أيضًا على مُؤسسات المُجتمع المدني... وهكذا.
وهَذا لا يقتصر على سياسات وتوجهات مُؤسسات الدولة
فحسب، وإنما ينطبق أيضًا على مُستوى التقسيمات التنظيمية الداخلية لكل مُؤسسة؛ فلم
تعُد اليوم الهياكل التنظيمية الرأسية أو العمودية، القائمة على إجراءات
بيروقراطية عقيمة، وقرارات فوقية مجدية لمواجهة تحديات الحاضر والمُستقبل؛ فالتوجُّه
العصري يجب أن يقوم على علاقات تنظيمية تكاملية داخل كل وحدة، وهياكل أفقية وشبكية
متداخلة كفريق عمل واحد، تتناسب مع بيئة العمل المُعاصرة والعولمة بأبعادها
التكنُولُوجية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وتحدُّ من الحواجز الرسمية
والسلطوية، وتَكسَر حواجز العزلة وأسوار الاغتراب الوظيفي، وتقوم على ثقافة
تنظيمية جديدة، يسودها التكامل والتعاوُن والمُشاركة والتمكين وصناعة المعرفة
والتواصل الإنساني والاجتماعي في تأدية الأدوار والأعمال، واتخاذ القرارات وُصُولا
لتحقيق الأهداف والغايات.
كَذَلك هو القطاع الاقتصادي أيضًا، عليه مسؤُولية
تكاملية مع الحُكُومة في صناعة وتحقيق التنمية الإنسانية. وعليه، أن يعمل وفق منظُومة
تكاملية مع بعضه بميزة تنافسية؛ فهُناك الكثير من الدول المُتقدمة هي قائمة اليوم
على اقتصاد تكاملي، فمعظم الشركات العالمية، مُنتجاتها عبارة عن حلقات تكاملية مع
مُؤسسات مُتعددة، وهذا التوجُّه يعتبر دعامة أساسية ومؤثرة في دعم المُؤسسات
الصغيرة والمُتوسطة، انظروا إلى الشركات المنتجة للطائرات أو السيارات، وغيرها من
المُنتجات، فهي عبارة عن أجزاء من مُؤسسات مُختلفة، تعمل وفق منظُومة تكاملية
مشتركة، هذا الأسلوب قد سَاعد كثيرا على إنعاش اقتصاديات الدول المُتقدمة القائمة
على اقتصاد تكاملي يقوم على المعرفة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.