الجمعة، 4 نوفمبر 2016

ذكريات صُورة


الصُّورتان لهما ذكريات تستحق التأمل:
الأولى تعود إلى العام 2014م:
في ظهيرة يوم جمعة بعد الصلاة، توجهت وحيدا إلى موقع يتوسط مدينة قُريات، عبارة عن كثبان رملية نسميها الكتل أو الكتول، تزهو بأشجار من الغاف المعمرة، والأشجار المزهرة، والنباتات الحولية الفواحة، أضف إلى ذلك أنَّ تلك الكثبان الرملية تُشكل أيضًا سدا مانعا لمياه الأودية والبحر من التوغل إلى قرى عفا والجنين وما جاورها.
ذلك المكان له ذكرى في سن طفولتي، فكان مرعى ومسرحا للأغنام والماشية والحيوانات الفطرية الأخرى كالغزلان، وموردا لمياه الشرب، فرماله الناعمة الفضية تختزن مياه المطر في الأيام المطيرة، فكنا نحفر في تلك الرمال بأعماق بسيطة للتزود بالمياه العذبة الفرات.
كان الوُصُول إليها يحتاج إلى عبور مجرى مائي يمتد كلسان عميق من البحر إلى المعلاة على مشارف الجنين في جهتها الجنوبية، فهو مصب مياه وادي المسفاة، وفيه تتمُّ ظاهرتا المد والجزر لمياه البحر، وهو أيضًا غني بالمسطحات السبخية والنباتات البحُرية والكائنات الطينية الرخوية والدقيقة.
كَان عُمرِي حينها لا يتجاوز العاشرة، عبرتُ حينها الخور على ظهر حمار أبيض شديد الجمال للتزود بالمياه. تزودت بالماء، وأثناء عودتي كانت المفاجأة، فقد تغيرت معالم الخور، فالمياه تملأ المجرى، فعبرت مغامرا، وإذا المياه تصل إلى عنق الحمار وظهره، تماسكت جيدا بظهره محاولا تحفيزه على العبور، وبعد مشقة تجاوزت الخطر ووصلت البيت بسلام.
المهم.. قرَّرتُ في العام 2014م زيارة تلك الكثبان لسبب: وهو محاولة توثيق المكان بالصور؛ لكونه سيتحول إلى مخطط سكني، وكذلك للتأمل والتمعُّن فيه بعد سنوات طويلة من الانقطاع بهدف الكتابة عن مكانته الطبيعية ضمن محتويات كتاب أصدرته عن قُريات.
توغَّلت في عمق تلك الكثبان بسيارتي، فالمكان كان موحشا ورائعا كأنك في عالم آخر بعيدا عن ضجة المدينة، لا تسمع إلا حركات الدواب وحفيف الشجر وسفي الرياح للرمال وتغريدات الصفاردة وهديل الحمام وزقزقة الصناصرة والعصافير.
واجهتُ صعوبةً في التوغل بالسيارة بسبب ارتفاع كثبان الرمل، فقررتُ العودة إلى نقطة البداية، كان الطريق ضيقا بين رمال ناعمة متنقلة، حاولت تعديل مسار السيارة وإذا بها تغوص في الرمل، حاولت مرة ثانية وثالثة ورابعة دُون فائدة، نظرتُ إلى هاتفي لطلب النجدة والمساعدة وإذا بطاريته قد انتهت، كانتْ الحرارة في عزِّ الظهيرة قوية، فقررت المشي لطلب المساعدة.
مشيتُ مسافةً بين تلك التلال المتموِّجة ذات المنظر الجميل حتى وصلت سيف البحر، فلمحَني شابٌّ فسلم علي، معقوله! عمِّي صالح، فقصصتُ عليه القصة. قال: تصدق عمي صالح عندما ظهرتْ من وراء الكثبان خفت. قلت له: كيف تخاف. قال: حسبتك مغيب أو ....، وبعد ما ظهرت ملامحك وعرفتك ارتحت وهدأ قلبي.
ركبتُ معه للبحث عمَّن يُخرج السيارة من تلك الرمال المتحركة، قصدنا أولاد الرندي؛ فلي معهم قصة أيضًا في وادي ضيقة مع ضيوف أجانب في زيارة لتغطية إعلامية لوادي ضيقة في بداية التسعينيات من القرن الماضي، وكانت لهم وقفة في إخراج سيارتنا من حفرة عميقة سقطنا فيها في مجرى الوادي بين الخبيل والمزارع على مشارف الحصن.
لم نجدهم في ورشتهم، فأخذنا القنص، وبحثنا عن معدة شيول أو جي.سي.بي، فوجدنا أحد الوافدين، فاستثمر أو استغل حاجتنا بطلب أجرة مبالغ فيها، فرضخنا لطلبه، فالحاجة كما يقال مسودة وجه، فركبنا على ظهر تلك المعدة للوُصُول للمكان، كانت تغلي بنا صعودا وهبوطا بين الكثبان، حتى وصلنا المكان قبل حُلُول المساء، فتم إخراج السيارة وإذا بها على غير عادتها، فمحركها على غير طبيعته وقوته، وكذلك الإطارات، فتم عرضها على وكالة السيارات، فطلب ضرُورة إجراء عملية جراحية لها، ولمواضع أخرى في السيارة.
فتمَّ تنزيل محركها وتفكيكه ليعود إلى عافيته، ولكوني عميلًا قديمًا للوكالة فكان المبلغ المطلوب أكثر من ألفين ونصف ريال، وبعد رجوع السيارة إلى عافيتها قرَّرت استبدالها بسيارة جديدة، فعرضتها على نفس الوكالة لتثمينها، فثمَّنوها بألف ونصف، قلت لهم: أنا دفعت لكم قبل أيام لصيانة هذه السيارة ما يُقارب ثلاثة آلاف، فكيف تشترونها بهذا المبلغ، قيل لي: هكذا النظام عندنا وسيارتك قديمة، وهي تجارة تريد حياك، ما تريد بالسلامة والعافية. قلت: السلامة والعافية أفضل. يقول المثل: "اركب الهزيلة لين تلحق السمينة"، فرجعت بسيارتي القديمة.

الصُّورة الثانية قصتها شيِّقة أيضا: 
ففي هذا العام 2016م، قررتُ زيارة عدد من قرى الوُلاية بهدف تحديث صور الطبعة الثانية لنفس الكتاب عن قُريات، وكان من بين مخطط الكتاب الحديث عن بلل، وهي قرية جميلة ولها تاريخ زراعي مشرق، تقع بين عرقي والسواقم، وأثناء مروري لمحت عدة أبراج على قمة جبل، حاولت تصويرها من بعيد فلم ترقَ لي تلك الصور، فحدَّثتني نفسي الصعود إلى الجبل للتعرف عليها عن قرب، فحاولت وإذا بخندق عميق يمتد على مسار الشارع يفصل الشارع عن الجبل، حفرته شركة تمديدات المياه ضمن مشرُوع ضخم سيعم مسقط بأكملها عن قريب، حاولت إيجاد ثغرة لعبور ذلك الخندق للضفة الأخرى فلم أفلح في ذلك. ترددت على المكان لأكثر من شهر أسبوعيا فلم أجد وسيلة للوُصُول إلى الضفة الأخرى للخندق المواجهة للجبل.
يوم جمعة أيضًا، بعد الصلاة، توجهتُ للمكان، فوجدت ثمة فرجة في مسار ذلك الخندق، فعبرته، بعد قطع مسافة طويلة من المشي، لم أكن أرتدي حذاءَ رياضة إلا بملابسي العادية، فنزلت في عمق الوادي ثم صعدت تلك التلال الصخرية، كلما وصلت مسافة وشعرت بالتعب وأذى سلا الشكاع وشوك السمر، حدثتني نفسي بالتراجع فأدفعها بمواصلة المشوار، حتى حققت الهدف، وإذا بي أرى مجمُوعة من الأبراج الصخرية يعود تاريخها إلى آلاف السنين، كنت وحيدا في ذلك المكان المنزوي بين الجبال، فجلستُ طويلا متأمِّلا المكان وجهد ذلك الإنسان القديم ومهارته وإبداعه في التصميم والبناء، وكذلك جمال تلك الصخور وتنوعها في الشكل والحجم واللون، وصوتها الموسيقي البهيج عند ملامستها لبعضها، فصوَّرت تلك المعالم، وقد كتبت عنها بإسهاب في هذه الصفحة وفي الكتاب أيضا، وهي لأول مرة يتم التطرق إليها إعلاميًّا في تاريخ الوُلاية.
رجعتُ إلى البيت مُنهكًا من التعب بسبب الحرارة الشديدة، وإذا بقدمي تدمي من الوجع بسبب التواء أصابها أثناء الصعود والنزول، ضللت أسبوعًا ملفوفة بالجزع والملح، وعندما حدَّثت أحد الأصدقاء بالقصة، قال لي: تصدق لو شفتك هُناك وما أعرفك، سأقول إن هذا مغصوب (مسحور) موه طلعك هُناك، أسميك شقي، وأنا أسمع منه الكلام، حبست في عيني دمعة وفي قلبي سعادة لا توصف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.