لَقَد زُرت هَذَا المَعْلَم عِدَّة مَرَّات، ولَكِن تَقصِّي مَسَاره بتَمعُّن وتَفكُّر هي الزِّيارَة الثَّانِية فِي حَيَاتي؛ حَيثُ كَانَت الأولَى مَعَ بِدَايَة التسعِينيَّات مِن القَرْن المُنصَرم، بصُحبَة مَجمُوعَة مِن الإعلَامِيِّين، وقَد كَتبتُ عَن أَحْدَاث تِلكَ الزِّيَارَة وتَحدِّياتِها ومَا حَدَث لَنا فِيهَا، إلَّا أنَّ هَذِه الزِّيارَة كَانَت مُختَلفَة تَمامًا، فكَانَت مَشيًا عَلَى الأقدَام ولسَاعَات طَويلَة مِنَ الزَّمَن؛ الأمَر الذِي أَتَاح لَنَا رُؤيَة بَصَريَّة وَاسِعة، وسَاعَدتنَا عَلى التَّأمُل فِي مُكوِّنات هَذا المَكان، المُزدَهِرة بجَمَال التَّضَاريس والجُغرَافيا الطبيعِيَّة.
إنَّه الخبِيل.. أَحَد المَوَاقِع الطبيعِيَّة الجَمِيلَة فِي قُريَّات، الذِي يَبعُد عَن مَدِينة مَسقَط العَاصمَة بحَوَالي 120 كيلومترًا، ويَقَع بَيْن قَريتيْ حِيل الغَاف والمزارِع، وهُو مَجْرَى طَبيعِي لوَادِي ضِيقَة، أحَد أَكبَر وأغَزر أَودِية سَلطنة عُمان تَدفُّقا، وَعلَى ضِفَّتيه تَمتدُّ سلسلَة مِن الجِبَال الشَّاهِقة، أكسبَت المَكان رَوعَة وجَمَالًا بألوانِها الزَّاهِية وتَشكِيلاتِها البَديعَة، وَهِي فِي عُمرِها وتَكوينِها الجيُولوجِي تَعُود إلى مَلايين السِّنين.
الخبِيل يَزدَهِر بالحَيَاة الفطريَّة والتنوُّع الإحيائِي مِن حَيَوانَات وطُيور وحَشَرات، إِضَافَة إلى الأشجَار الخَضْرَاء، والنَّباتَات المُورِقة، وتَكثُر فِيه البِرَك المَائيَّة الدائِمَة؛ لهَذَا كَان البَدو رُعَاة الأغنَام يتَّخِذون ضِفَافه سَكنًا ومَرعَى لمَاشِيتِهم، يُحدِّثني أَحدُهم: «كُنَّا نُربِّي أكثَر مِن خمسمَائَة مِن المَاشِية فِي هَذَا المَكَان، فكَان الخبِيل أكثَر حَيَاة مِن اليَوْم»!!
الخبِيل فِي تَارِيخه القَدِيم كَان مَسَارًا لقَوافِل الإِبِل المُحمَّلة بالتُّمُور والبُسُور، والقَادِمة مِن شَرقِية ودَاخِلية عُمان، عَبْر الطُّرق القَدِيمَة فِي سلسِلَة الجَبَل الأسوَد الأَشم، ووَادِي ضِيقَة العَظِيم، والمُتَّجهَة إلى سُوق قُريَّات القَدِيم، ومِنْ ثَمَّ إلى فرضَة المِينَاء، لإِتمَام عَمليَّات التَّصدِير إلى مُختَلف الولَايَات العُمانيَّة، ودوَل العَالَم المُختَلِفة.
تَكثُر فِي فَوَالِق الجِبَال الصَّخريَّة المُطِلَّة عَلى ضِفَاف الخبِيل جِدَاريَّات صَخريَّة قَدِيمة جدًّا، وَثَّق وعَبَّر مِن خِلَالِها العَابرُون عَبْر الزَّمَن عَن مَشَاعِرهم بطَرِيقَة فَنيَّة ورَمزيَّة رَاقِية، تَغلُب تِلك الرُّسومَات الصَّخرِية فِي دَلَالاتِها عَلَى أهميَّة هَذا المَكَان كطَرِيق لقَوافِل التِّجَارة، وكمُلتقى لطُرُق التِّجَارة إلى أَسوَاق قُريَّات ومطَرح، ومَا زَالت الكَثِير مِن هَذِه الرُّسُومات الصَّخريَّة وَاضِحة حتَّى الآن، إلَّا أنَّ الاهتمامَ بِهَا مُحَافَظة ودِرَاسَة وتَوثِيقًا يُعدُّ مَطلبًا مُهمًّا.
آثَار قَدِيمَة يَختَزنُها الخبِيل؛ مِن أَهمِّها آثَار مَسَار فَلَج حِيل الغَاف القَدِيم، بهَنَدستِه المِعمَاريَّة الرَّائِعة، الذي سَاقِيَته مَا زالتْ تَحتَضِن الجَبَل، تَحكِي لنَا تِلكَ الأسطُورَة القَدِيمَة، التِي عَجَّلت وتَسبَّبت فِي اندِثَاره، ومَن أَرَاد مَعرِفة تَفَاصِيلها، فلَيرجِع إلى كِتَاب «قُريَّات عَرَاقة التَّارِيخ ورَوْعَة الطَّبِيعَة» فِي طَبعَتِه الثَّالثة 2018م.
كَمَا يُشكِّل الخبِيل اليَوْم آمَة فَلَج حِيل الغَاف الحَالي، الذي تمَّ تَأسِيسُه فِي عَهْد السُّلطان السيِّد سَعِيد بِنْ سُلطَان عَلى يَدِ أَحَد رِجَالَات البُوسعِيد، المُؤسِّسين لبَسَاتِين حِيل الغَاف الغنَّاء.. هَذَا المَكَان بِمَا يتميَّز بِه مِن جَمَال الطَّبيعَة وعَرَاقة التَّارِيخ لجَدِير بالاهتِمَام والعِنَاية، مُنَاشِدًا وَزَارة البِيئَة والشُّؤون المنَاخيَّة وبَلديَّة مَسقَط بمُتابعَة المَكَان ورِعَايته؛ لأنَّ عَمليَّات جَرف ونَقل الرِّمَال مِن هَذَا المَوقِع الأثريِّ بطَرِيقَة عَشوائيَّة قَد تسبَّب في تَغِيير مَعَالِمه التُّراثيَّة والطبيعيَّة، بَل هُنَاك أَجزَاء مِن سَاقِية الفَلج القدَيِم قَد أُزِيلَت بسَبَب هَذَا الجرف المُؤذِي لطَبيعَة المَكَان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.