شَكَّل مَسْجِد السَّوَاقِم القَدِيم، وشَريعَة
فَلجِه المَعْرُوف ذَاكِرة الكَثِير مِن أَبْنَاء مَسقَط ومَطرَح وقُريَّات؛ فهُو مَحطَّة
استراحَة للقَادِمين مِن مَطرَح ومَسقَط إلى قُريَّات ومَا جَاورهَا؛ سَوَاء كَان ذَلِك
عَلى ظُهُور الدَّواب كالجِمَال والحَمِير، أو عَبْر سيَّارات الدَّفع الرُّبَاعي بَعد
ظُهورِها فِي عُمان، التي كَانَت تَشقُّ طَريقًا تُرابيًّا وعِرًا عَبْر الجِبَال ووَادِي
مِجلَاص، شَقَّته دَائِرة التَّحسِينات فِي ذَلِك العَهْد؛ فكَانَ الرُّكاب عِندَ وُصُولهم
إلى السَّواقِم يَتنفَّسون الصُّعدَاء، ويَنغَمِسون فِي فَلَجِها الدَّائم الجَريَان،
فيُنعِشُون أَجسَادَهم بتِلك المِيَاه البَارِدة الزُّلَال مِن لَهِيب الغربِي، ولإِزَالَة
رَضَّات الطَّرِيق وغُبَاره العَالِق فِي الوُجُوه والثِّيَاب، وللتَّخلُّص مِن تَعَب
وإِرهَاق طُول المَسَافة بمِقيَاس ذَلِك الزَّمَان.
هَذَا المَسَاء.. كَانتْ لِي زِيَارة للسَّواقم،
للتمعُّن فِي ذَاكِرة المَكَان، فَلَم يَعُد الفَلَج كَمَا كَان، كَمَا أنَّ السِّدرَة
التي كَان يَستظلُّ أَغْصَانها الوَارِفَة الرُّكبان قَد شَاخَت وهَرمَت، ولكِنَّها
مُقَاومَة لتَقلُّبَات الزَّمَان.. فكَان مِن يُمنِ الطَّالِع اللِّقَاء بالوَالِد
مُحمَّد الغمَّاري، الذِي استَقْبَلَني بابتِسَامَته المَعهُودَة ووَجْهِه المُشْرِق،
وعَلَى الرَّغْم مِن كِبَر سِنِّه فهُو لا يُفَارِق مَسْجِد السَّواقِم أبدًا، يَقطَع
مَسَافة طَويلَة مِن بَيتِه مَشيًا، للوصُول إلى المَسْجِد، فتَجدهُ مُؤذِّنا أو قَارِئ
للقُرآن.
استَمتَعتُ بصَوْتِه الرَّخِيم العَذْب وهُو
يَرفَع أَذانَ المَغْرِب، فذَكَّرنِي بصَوْت أبِي، يَتردَّد صَوتُه على امتِدَاد وَادِي
مِجلَاص الغَزِير، ويُعَانِق صَوتُه جَبلَ «الحجُو» الشَّاهِق، فهُمَا ذَاكِرَة طُفُولتِه،
وفِيهِمَا تَفَاصِيل أيَّام عُمرِه، ويَستَمدُّ مِنهُما فِي هَذَا العُمر المُتقدِّم
عُنفُوانَ شَبَابِه وقُوَّته، فكَان يَومًا يتسلَّق ذَلِك الجَبَل المُعَانِق للسَّحَاب
كالغَزَال، لجَلْب عَسَل النَّحل، فالغَرْشَة مِنهُ كَان يَبيعَها بنِصْف قِرش، كَمَا
قَال.
يَقُول: تعلَّمتُ القرآن عَلى يَدِ المُعلِّم
حِميد الهَادي؛ وذَلِك فِي فَتْرَة حَرْب هِتلَر (يَقصُد أيَّام الحَرْب العَالمِيَّة
الثَّانِية)، يتَذكَّر جَيدًا تَفَاصِيل تِلكَ الحَرْب، وتَأثِيراتِها على الاقتِصَاد
العَالمِي، والمَعِيشَة الصَّعبَة التِي صَاحبتْهَا، وذَلِك خَيْر دَلِيل عَلَى اتِّسَاع
فِكرِه ومُتَابعتِه للأَحْدَاث وقُوَّة ذَاكِرتِه مُنذ طُفُولتِه الأولَى.. يَفْتَخِر
كثيرًا بمُنجَزَات جِيلِه، الذين تَغلَّبوا على جَمِيع الصُّعُوبات والتَّحدِّيات التِي
وَاجهُوها فِي ذَلِك الزَّمَن بالصَّبْر وبالعَمَل والإِنتَاج، خَاصَّة فِي مَجَال
الزِّراعَة والإِنتَاج الحَيَوانِي، والاهتِمَام بخَيْرَات البَحْر، فهِي الضَّمَان
الحَقِيقِي والأَمن الغِذَائِي فِي عُمان عَلَى مَرِّ تَاريخِها - حَسْب قَولِه.
يُضِيف: فِي زَمَنِنا وَصَلتْ قِيمَة 11 صِيدَة
سَهْوَة بقِرْش، كُنَّا نَحمِل 66 صِيدَة سَهْوَة مَشويَّة عَلى النَّاقَة، ونَقصُد
بِهَا سَمَايل عَبْر الأودِيَة والجِبَال، ونَظل فِي الطَّرِيق لَيلَ نَهَار، ولِمُدَّة
ثلاثَة أيَّام مُتَتابِعة حتَّى نَصِل، وكَانَت أُجرتُنا هِي ثَلَاثة قُرُوش، ولَكِن
فِيهَا الخَيْر والبَرَكَة، وكَانَتْ أُجرَة النَّقل عَبْر الحَمِير والجِمَال مِن
قُريَّات إلى مَسْكَد (مَسقَط) بقِرشِين، وإلى الحَج بـ 300 قِرش.
يَقُول أيضًا: يُبَاع القَت 25 مَنْ بقِرش
(المَنْ يُعَادِل 4 كِيلُوجرَامَات)، و4 غَرشَات سَمْن البَقَر بقِرش، و6 غَرشَات سَمْن
الهُوش (الغَنَم) بقِرش، فلَمْ نَعرِف فِي حَيَاتِنا سَمنَ الفِلندِي والمَقشُود، فكَانَ
كُلُّ شَيء نَأكُلُه طَازجًا، كُنَّا نَزْرَع القَمْح والفِندَال والعَدَس والذُّرَة
والقُطن... وغَيْرِها، وجَمِيعُها بأَرْخَص الأسعَار، ولَكِن الزَّمَان يَرَاه قَد
تَغيَّر.
يَدعُو الوَالِد محُمَّد إلى: الاهتِمَام بالصِّناعَات
المَحليَّة، وعَدَم الاعتِمَاد على صِنَاعة الغَيْر، فمِن وَاقِع خِبرَتِه فِي الحَيَاة،
الاعتِمَاد عَلى الغَيْر غَيْر مَضمُونَة العَوَاقِب.
ودَّعتُ الوَالِد مُحمَّد الغماري، بَعْد أنْ
سَعِدتُ بالتِقَاط صُورَة لَه مَعِي، حَامِدًا اللهَ عَلَى نِعمَة الصِّحَة والعَافِيَة
والأَمن والأَمَان، وخَيْرَات النَّهضَة المُبَاركَة التِي عَمَّت الجَمِيع، وتَركتُه
مُنكَّبًا عَلَى مُصحَفِه، حتَّى يَحِين وَقْت العَتِيم، وتَحضُر صَلَاة العِشَاء،
ليَصدَح صَوتُه مِن جَدِيد فِي مَسْجِد تِلكَ القَريَة الجَمِيلَة، المُنزَويَة بَيْن
الجِبَال والأَوْدِية، التِي لَهَا فِي قَلبِي ذِكرَى جَمِيلَة لا تُنسَى.. فتَحيَّة
مَحبَّة للوَالِد مُحمَّد الغمَّاري، وبَارَكَ اللهُ لَنَا فِي حَيَاتِه وعُمرِه.