الأحد، 18 يوليو 2021

ذاكرة صورة

هَذِه الصُّورة تعود لما قبل ثلاثين عاما تقريبًا، وبالتحديد إلى العام 1991م، التقطتُها في جامع السلطان قابوس في قريَّات، وهي لها مكانة خاصة عندي؛ لأنها تضم وتذكِّرنا بشخصيات عزيزة، لم تَعُد بين ظهرانينا اليوم.
وكانتْ بمُناسبة أداء صلاة عيد الفطر المبارك، وهي المرة الأولى في تاريخ قريَّات التي تُؤدَّى فيها صلاة العيد خارج مصلى العيد في وادي مجلاص بقرية المعلاة؛ حيث جَرَى العرف منذ القِدَم أن يؤدي الوالي والقاضي صلاة العيد في هذا المصلى.
لماذا تم نقل صلاة العيد إلى الجامع في ذلك العام؟ وما هي الدواعي التي أدت لاتخاذ هذا القرار في حينه؟
في تلك الأيام شهدتْ الولاية هطولَ أمطار وسيول غزيرة؛ الأمر الذي أدَّى لتأثر مُصلى العيد والطرق المؤدية إليه بتلك السيول، وكان من المتعذَّر تهيئته في تلك الظروف؛ فاتَّخذ الوالي حينها قرارَ نقل الصلاة إلى الجامع، وكان الوالي حينها الشيخ حمد بن عبدالله بن سعيد الجابري-رحمه الله- وكُنت حينها أعمل موظفا في مكتب الوالي.
في البداية، لم يتقبَّل ويستوعب الكثيرُ هذا القرار، لأنه سيلغي عُرفًا قديمًا ومتوارثًا، ولأعذار أخرى مختلفة. ولتفادي هذا الموقف، قام الوالي في ليلة العيد، وكُنت معه، بزيارة بعض المراجع الاجتماعية لتوضيح مُعطيات اتخاذ هذا القرار؛ فواجهنا صعوبة شديدة في إقناعهم، خاصة كِبَار السن، فخرجتُ حينها بنتيجة: "إنَّ ارتباط الإنسان ببيئته وعاداته وقيمه المتوارثة، ومدى تعلُّقه بالمكان، تحكمه عوامل عاطفية ونفسية، يصعُب تغييرها في لحظة، وعملية تغييرها وتجديدها تظل بحاجة إلى ذكاء عاطفي واجتماعي ونفسي، قبل صدور أي قرار إداري".
ومن جانب آخر، جَرَت العادة أيضًا عندنا أنه بعد الانتهاء من شعائر الصلاة، يخرُج الجميع من المخرج في مسيرة، مشيًا على الأقدام، ويتقدَّمهم الوالي حتى الوصول إلى الحصن القديم، وفي ذلك ما يُعزِّز القيم الاجتماعية والعلاقات الإنسانية أيضًا بمناسبة العيد. وكان قديمًا يتم إطلاق المدفع مع وصول المسيرة إلى الحصن ترحيبًا بالمشاركين، وجرتْ العادة أيضًا أن تَصْحَب تلك المسيرة البشرية الأخوية الرائعة فرقُ الفنون الشعبية، ولها في ذلك تنظيمٌ وعُرف يُنظِّم سيرها وموقع تواجدها في تلك المسيرة؛ فبعضها تكون في مقدمة المسيرة والأخرى في نهايتها.
وعادةً، تؤدي تلك الفرق الشعبية فنونَ الرزحة والعازي أثناء المسيرة، ومع وصول المسيرة إلى الحصن وبعد إطلاق المدفع، تلتحم تلك الجموع معًا، ويُؤدَّى حينها فن العازي، فيستقبل الوالي المهنئين في ذلك الصباح حتى قرب الظهر، ويتناول الجميع الحلوى والقهوة في جوٍّ اجتماعي حميم، ثم تُواصل فرقة فنون الرزحة أهازيجها في الفترة المسائية أمام الحصن، طوال الثلاثة الأيام الأولى للعيد، فيما يستقبل الوالي المهنئين بالعيد في الفترة المسائية، طوال أيام العيد الثلاثة أمام الحصن كذلك.
ولفنون الرزحة جمالياتها الفنية، وهي أيضا وسيلة للتعبير عن الرأي ولو رمزا بطريقة غير مباشرة، وأثناء سيرنا في تلك المسيرة كالعادة، كنا نسمع نواحي ومقاصب تُرتجل مباشرة، وفيها من العِتَاب الشديد على كسر قاعدة العرف القديم بتغيير مكان صلاة العيد، كان الوالي يستمع وينظر إليَّ باستغراب، فهمستُ له بأنَّ الأمر يبدو طبيعيًّا، وأنَّ الموقف يتطلَّب نوعًا من التغاضي والتغافل والصفح عن الهفوات، ومن ثم يمكن التفكير في معالجته لاحقا بهدوء.
في العيد الذي تَلى ذلك العيد، أُعِيدت الصلاة إلى مُصلى العيد في المصلى القديم، بعد أن تمَّت تهيئته للصلاة، وقبل يوم العيد تمَّ التواصل مع عقيد (رئيس) فرقة فنون الرزحة، التي تُصَاحب المسيرة بعد صلاة العيد، فأهداه الوالي دست حلوى تكريمًا له؛ فقال له: "لا نريد إلا مقاصب ونواحي (قصائد فنون الرزحة) في حب الوطن والسلطان"، فابتسم الجميع بتقدير واحترام.
تكرَّر المشهد بعد أعوام، إلا أنَّ القناعات كانت قد تغيَّرت واختلفتْ بتغيُّر الأعوام والأيام والأحوال؛ فالبشر بطبيعتهم مُختلفون: ثقافيًّا، ونفسيًّا، وفكريًّا، وفي مستوى إدراكهم وتفكيرهم ونظرتهم وتقديرهم للأمور، وتلك حكمةُ الله في خلقه.
كتبه صالح بن سليمان الفارسي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.