تعُود هذه الصُّورة الفوتوغرافية إلى مَا قَبل أكثر من ربع قرن، وعلى مَتْن القارب الخشبي القديم الظاهر في الصورة، يعتليان بشموخ وفخر الصديقان: علي بن سالم البلوشي، وأحمد بن مبارك السناني، الفائزان بالمركز الأول في سباق قوارب الغادوف على مستوى قرى الولاية الواقعة على الساحل، ضِمْن مهرجان قريَّات البحري في بداية التسعينيات من القرن الماضي.
وعلى مدار سنوات طويلة، شكَّل البلوشي والسناني ثنائيًّا أخويًّا في رياضة البحر، ويُشار إليهما بالبنان مع كل سباق للقوارب التقليدية؛ لما لهما من خبرة ومعرفة واسعة بالبحر، ولقوِّتهما الجسمانية أيضًا بفضل الممارسة اليومية لنشاط البحر.
وكانت الجماهير الغفيرة التي تشهد هذا السباق البحري، وتتواجد على طول ساحل قريَّات الممتد، يرفعونهما على الأكتاف مع كل فوز، ويُزفَّان بالفنون الشعبية لدى وصولهما إلى شاطئ البحر.
فقد اعتدنا سنويًّا في قريَّات على إقامة المهرجان البحري في ساحل قريَّات، ضمن فعاليات وبرامج العيد الوطني المجيد، وكان يتضمَّن فعاليات بحرية، وسباقات تقليدية عديدة؛ منها: سباق لهواري الشراع، وسباق لقوارب وبدانة خشبية تجر بالغادوف والمجداف، إضافة للسباحة، مع فنون شعبية متنوعة، كفنون البحر والتنجيليه... وغيرها من الفنون، وكانت المنافسة حميمة وقوية بين قرى الولاية الساحلية، للظفر بجوائز هذه السباقات.
وفي العام 1993م، وبمناسبة عام الشباب العُماني، وبهدف المحافظة على تراثنا البحري العريق، وتعريف الأجيال المتعاقبة بأمجاده التليدة، بادرتُ حينها بتقديم مقترح -بصفتي رئيسا للجنة الثقافية والفنية بنادي قريَّات- إلى بعض المسؤولين بالهيئة العامة لأنشطة الشباب الرياضية والثقافية (حينذاك)، بنقل فكرة المهرجان البحري ليكون على مستوى أندية محافظة مسقط، وكان الصديق صالح بن خليفة الخصيبي -رحمه الله برحمته الواسعة- خيرَ من ساند ودعَّم هذه الفكرة لدى قيادات الهيئة، فتم اعتماد وقبول الفكرة، فتوسَّعت الفكرة لتكون مجموعة من الأنشطة الثقافية والفنية والتراثية، ومعرضًا لمنتجات الحرف التقليدية، ومعرضًا للفنون التشكيلية، تم الإعداد لها بحرفية، لتكون ضمن الأسبوع الشبابي لأندية محافظة مسقط في عام الشباب.
فشُكِّلت حينها لجنة شبابية لهذا الغرض، سُمِّيت "لجنة أندية محافظة مسقط"، ضمَّت ممثلين عن جميع أندية محافظة مسقط؛ من بينهم: الصديق سعيد بن مُحمَّد آل جمعة من نادي سداب (قبل دمجه)، والصديق زاهر بن ناصر الحسني من نادي بوشر، والصديق صالح بن مُحمَّد الفهدي من نادي السيب، والصديق عبدالله بن مزار الرئيسي من نادي الأهلي (قبل دمجه)، والصديق علي بن سعيد البوصافي من نادي البستان (قبل دمجه)، وكان معي في هذه اللجنة الصديق خليفة بن عبدالله الغماري من نادي قريَّات.
استعانَ النادي حينها بفريق استشاري من أهل الخبرة والدراية بالبحر وفنونه؛ من بينهم: الأخوة علي بن سالم البلوشي ومحُمَّد بن سالم الحسني ومُحمَّد بن عبدالله السناني المعروف بود الصقر، ومُحمَّد بن علي المالكي، وسالم بن خميس الزهيمي -رحمه الله برحمته الواسعة- ومبارك بن مُحمَّد العامري -رحمه الله برحمته الواسعة- وناصر بن سعيد الفارسي وعبدالله بن سالم الرحبي... وغيرهم، فكُنا نجُوب الطرق بين مسقط وقريَّات في سياراتنا لحضور الاجتماعات واللقاءات؛ للاستعداد لهذا السباق الأول من نوعه؛ فتم تشكيل الفريق الذي يمثل الولاية من البحارة، وتم اختيار ذلك الفريق بعناية فائقة ومحترفة، وخاض حينها تمارين يومية حتى موعد السباق.
اشتكَى البعض من قدم ونقص عدد القوارب الخشبية المقرَّر المشاركة بها في هذا السباق، فقام بعض المخلصين من أبناء الولاية بالسفر إلى كيرلا في الهند لاستجلاب وشراء قوارب جديدة؛ لتوسيع قاعدة المشاركة وتمثيل النادي خير تمثيل، فكان لشباب الولاية مشاركة مجيدة ونتائج باهرة في هذا المهرجان.
وبعد انتهاء ذلك المهرجان البحري، الذي أقيم على شاطئ فندق البستان، تمَّ تهيئة المكان المناسب والمظلَّل لحفظ تلك القوارب الخشبية؛ وذلك في ساحة النادي القديم في الساحل، وكان هناك من يرعاها ويدعكها بالصل بين الحين والآخر، لتكون أكثر إشراقة وفاعلية في تمثيل الولاية بالسباقات البحرية.
وفي العام 1995م، وبمناسبة اليوبيل الفضي للسلطنة واحتفالات العيد الوطني المجيد، أسهمتْ مُحافظة مسقط بدعم وتنظيم المهرجان البحري بحلته الجديدة؛ فتوسعت فكرته ليكون على مستوى ولايات المحافظة، وأُوكِلت للشيخ خالد بن أحمد الأغبري والي قريَّات حينها، رئاسة اللجنة الرئيسية المنظمة للمهرجان البحري، وقد تشرَّفتُ بعضوية هذه اللجنة؛ فشمل المهرجان سباقات بحرية متنوعة، وفنونا شعبية، ومسيرة بحرية بسفن وقوارب تقليدية، كان على متنها فرق الفنون الشعبية من جميع ولايات المحافظة، وقد أقيم المهرجان على شاطئ فندق قصر البستان أيضًا.
فالتقيتُ حينها بالصديقين علي البلوشي وأحمد السناني، وقُلت لهما: ترى السباق ليس كما تعودتما عليه، فهو أكثر منافسة وقوة. فقالا: لا يُرضينا إلا تحقيق المركز الأول لقريَّات، فوفَّيَا بما وعدا.
ركنتْ تلك القوارب الجميلة بعدها في وَكْرِها في ساحة النادي القديم لسنوات طويلة، مُشتاقة لزُرقة البحر وحنان يد الصياد، ولمسات مساج زيت الصل، وبعد انتهاء عُضويتي في مجلس إدارة النادي، وتركي النادي بصَمْت لوجوه جديدة، لا أدري أين هي اليوم تلك القوارب الجميلة، التي لا تزال مُنجزاتها شَاخِصة في الذاكرة، وذكرياتها ومحبتها مغروسة في حنايا القلب والوجدان؟؟!!
كتبه: صالح بن سليمان الفارسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.