الاثنين، 30 يونيو 2025

علاقة الصخر بالماء علاقة أزلية.. هكذا تبدو الصيرة عندما ينحسر عنها الماء

زوايا تاريخية

ذاكرة رياضية

مبارك بن صالح الحسني شخصية رياضية مخضرمة في ولاية قريات، وهو أحد الشخصيات المساهمة في وضع اللبنات الأولى لتأسيس نادي قريات في فترة ما قبل السبعينيات في دولة الكويت، وكذلك في الفترة اللاحقة، التي تم فيها إشهار النادي رسميا في بداية حقبة السبعينيات من القرن الماضي.
قاد فريق النادي لاعبا ومدربا، وكانت له بصمات رائعة لا تنسى.
كما كان له الريادة في تأسيس فريق دغمر، الذي يعد أحد أقدم الفرق الرياضية التابعة للنادي في ولاية قريات.
تشكل الرياضة لمبارك الحسني كالدم التي تجري في الشرايين، محبا ومتابعا لها، وفي الوقت ذاته مشجعا ومحفزا للشباب.
تحية تقدير ومحبة لمبارك الحسني على جهوده المتواصلة في خدمة الرياضة والشباب.
كتبه/ صالح بن سليمان الفارسي

الجمعة، 27 يونيو 2025

بيت الوقيف

 

أحد البيوت التاريخية في قرية محيا، والوقيف في لهجتنا المحلية القديمة تعني: الموضع المرتفع، والأكثر ارتفاعا يسمى: وقفان.

الخميس، 26 يونيو 2025

مدرسة وبيت العبادي

 

قبل أكثر من مائة وخمسين عاما، استقبلت قرية محيا بولاية قريَّات بترحاب المعلم حمد العبادي، الذي أتى هو وزوجته من ولاية نزوى، بهدف نشر العلم وتعليم القرآن الكريم.
فتح مدرسة تحت شجرة سدر خضراء ورافة الظلال، يسيل بجانبها مياه الفلج عذبة رقراقة صافية، وظل في محيا سنوات طويلة، يعلم الناس بإخلاص ومحبة ووفاء، وتخرج على يديه الكثير.
وذات يوم قرر العبادي أن يعود إلى نزوى، فسر زوجته بحديث مهم، قال لها: سأعود إلى نزوى، وكوني أنت هنا في محيا، وأرى ختامتي تكون هناك، وأنت هنا! فودعها كأنه الوداع الأخير .
عاد حمد العبادي إلى نزوى، وبعد فترة من الزمن توفي هناك، فظلت زوجته تواصل مشواره الخيري حتى وفاتها في محيا.
ظلت آثار بيته ومدرسته باقية من ذلك الزمن البعيد، يتذكرها الجميع، فحنت تلك السدرة الوارفة أغصانها الحانية، كأنها تقبل وتعانق ذلك المكان.
كتبه/ صالح بن سليمان الفارسي

الثلاثاء، 24 يونيو 2025

مسجد المعولية

 

أحد المساجد القديمة في قرية محيا بولاية قريَّات، بنته امرأة معولية من ولاية وادي المعاول، تزوجت في محيا، وكانت امرأة ثرية وصاحبة أموال، ولها سيرة طيبة، يتذكرها كبار السن بالخير والصلاح.

الخميس، 19 يونيو 2025

نزهة في قريَّات.. من كتاب "شذرات/ تأملات ومشاهد وذكريات"

في العام 1979م، افتُتِح الطريق المسفلت الرابط بين مسقط وقُريَّات، يعبُر على أطراف السواقم من جهة الجنوب، سالكا جبل المعمرية أو كما نسميها عقبة قُريَّات -وكلمة العقبة مفردة عربية فصيحة؛ تعني الطريق الجبلي الوعر، وتسمى عندنا أيضا بـ«الدباة»؛ ومن أشهرها: «دباة المعمرية» أو عقبة المعمرية، و«دباة ضباب»، و«دباة المزارع»، و«عقبة الموت» في حيل الغاف، وعقبة النجمية، و«نجد البوش» في الطابة- وبافتتاح أول طريق مسفلت مؤدِّي إلى مدينة قُريَّات طويت صفحات طريق وادي مجلاص القديم، بعد عقود من الحركة والنشاط، ليبقى ذاكرة تاريخية ومكانية لدى أبناء ولاية قُريَّات، ذا مسحة تراثية وجمالية، متناغما ومنسجما مع حداثة الطريق الجديد.
والمتعمِّق في تكوينات هضبة الدباة أو عقبة المعمرية بمساحتها المنبسطة والجبلية، يجد فيها ثراء طبيعيا، كما تعد متحفا مفتوحا لتراثنا الطبيعي والجيولوجي، من المهم جدا المحافظة على مكوناته النادرة؛ فذات يوم عبرتُ مسالكها ودروبها القديمة مشيا على الأقدام، عبر ما يُسمى قديما «العقبة السودا»، فوصلت إلى وادي الأسود، الذي يتوسط سفح جبل العقبة، فبهرني ذلك التكوين الصخري بألوانه الداكنة، والتنوع الكثيف للأشجار والغطاء النباتي الأخضر؛ من بينها: نباتات وأشجار طبية عريقة، وأخرى كانت تستخدم في أغراض مختلفة.
كذا هو سيح مويغط الواقع على سفحها الشرقي، غني بالتنوع النباتي البري والجبلي، كان هذا السيح يوما محطة استراحة لقوافل الجمال؛ حيث كانت تمغط وتستريح في جوها الطبيعي الرعوي البديع، كذا هي الفليج في سفحها الغربي الجنوبي بجمالها الأخاذ، تتوسطها بئر قديمة عامة للورد، كان يورد منها الرعاة والقوافل العابرة في مسار العقبة، كذلك هو وادي العين، تتنوع فيه جمال الطبيعة وروعة التضاريس، كان يسمى قديما «وادي العنين»، نسبة إلى «العنة» تجمع على «عنين»، وهي نوع من مساكن البدو ورعاة الأغنام المتنقلين، كانت تبنى بالحجر وأعواد الشجر، وتسقف بالقش وأعواد العسبق وأوراق الصخبر.
كذلك هي قطنيت، ضمن امتدادات العقبة في جهتها الجنوبية، تتميَّز بالهدوء والسكينة، بعيدا عن صخب الحياة وضجيجها، تتدفَّق فيها المياه في برك غزيرة، تكثر فيها الزواحف والثعابين الكبيرة، ترعى فيها الظباء والوعول، وبها نقوش ورسومات صخرية قديمة، يعتقد العامة أنها موطن للجن وسكان الأرض، فكانوا لا يباتون إلا بجانبهم بخور المقل، لطرد هوام الأرض وسكانها، خوفا من أذية زواحفها وثعابينها، ويمكن الوصول إلى قطنيت من مسار يبدأ من قرية عباية، أو عبر سلسلة جبلية، يبدأ مسارها من جنوب عقبة المعمرية، مرورا بعريد السود، ووادي الضريبات، وشرجة العروقية، ودحي العروقية، ووادي قطنيت طلع، ومقضى وادي العذان، ثم اللبدة، والمقحام، وعيون حقم (نسبة لثمار النبق، شوبها كعيون الحقم)، ومزرع بوكليب، والطراح المنيزل، والطرف، فقطنيت، ومنها أيضا يمكن بلوغ قمة الجبل الأسود، مرورا عقبة الليجال، والهامة، ولظلاع، والنصيبات، وعناي، وحيل بوضريط، والحامي، واللصيت، والكنفوت، والحيل الكبير.
اشتهرت قطنيت قديما بنخلة الفرض، خاصة في ضواحي بوكليب والنطالة، فكانت أجود نخيل الفرض تعرف بـ«فرض بوكليب»، فثمار النخلة الواحدة فيها تزيد عن أربعين عذقا، يقال: إن ضيفا حل على أهل قطنيت، فبات على ربوة صخرية، في الهواء الطلق، وتحت السماء الصافية، المزدانة بنور القمر ولمعان النجوم، وبالقرب من نخيل الفرض الباسقة، وما إن حل الليل وهبت هبوب الكوس بهوائها العليل، تنفس غدر الفرض ودار، فأحدث دويا كأنه ضربة تفق، فهب الضيف من رقاده خوفا، فهدي من روعه، وقيل له: إن هذا الصوت هو دوران غدر فرض بوكليب مع هبوب الكوس.
هذا.. والدباة أو عقبة المعمرية عبارة عن هضبة جبلية تلفها سلسلتا جبل السعتري والجبل الأسود؛ ارتفاعها أكسبها ميزة رائعة، وموقعها جعل منها ممرا رئيسًا لقُريَّات وقراها، وكذلك إلى محافظتي جنوب وشمال الشرقية. تمتاز هذه الهضبة بالتباين في تكوينها الصخري؛ فهناك المنحدرات الصخرية الحادة؛ التي تشكل مجاري لتصريف مياه الأمطار لتصب في أودية الحيلين ومجلاص والمسفاة المشهورة، ولها منظرٌ بهي بتنوع ألوان الصخور والتشكيل الصخري.. تلك الهضبة أيضًا لها امتدادات مسطحة صالحة لمخططات سكنية تضاهي مرتفعات القرم. الهضبة تغطيها الخدمات بما فيها الشوارع المسفلتة؛ وهي مهيأة فعلا للسكنى متى ما تم الاهتمام بذلك، موقع متوسط في مركز الولاية، ومرتفع عن مجاري الأودية، تمتاز بجو مريح لنقاء الطبيعة، إطلالة بانورامية ساحرة على الجغرافيا الطبيعية.
ما يشدُّ انتباه الزائر والسالك لطريق العقبة، وما بعدها في قرى الولاية الشرقية اتجاه ولاية صور، تلك الوسائد والطيات الصخرية المائلة، التي تمد جذورها في أعماق الأرض، والألوان الزاهية التي تكتسيها صخور تلك الجبال، والتدرج والتنوع الفريد لتلك الألوان، تتجلى فيها عظمة الخالق، وهي زاخرة بحياة فطرية نادرة.
فمستخدم الطريق الذي يربط محافظة مسقط بمحافظتي جنوب وشمال الشرقية يمكنه الاستمتاع بتلك الألوان البصرية الطبيعية، وهي مختلفة من موقع لآخر. وتمثل الجدارية الزاهية والطبيعية على جانبيْ الطريق الجديد بعقبة قُريَّات (جبل المعمرية) -والواقعة عند نهاية الجبل في اتجاه مدينة قُريَّات، وقادما من العامرات- مثالا حيا لروعة الطبيعة في قُريَّات؛ حيث تجد ألوانا بديعة ومتنوعة، بل غلبت روعة الطبيعة تلك الخرسانة الأسمنتية الموضوعة من أجل الحماية من تساقط الصخور؛ وذلك باكتسائها بألوان تتماشى مع مكونات تلك الصخور الطبيعي، فذلك الطريق فرصة للتأمل والتفكر في قدرة الخالق -سبحانه وتعالى.
كتبه/ صالح بن سليمان الفارسي

من كتاب "شذرات/ تأملات ومشاهد وذكريات"

كان بين الحين والآخر أيضًا يزور قريتنا رجل كبير السن من قرية الوغلة في نفعا بولاية بدبد اسمه المعلم علي بن سيف السيابي -رحمه الله- فكان يقصده البعض لطلب العلاج والرقية، ويزورنا في بيتنا بدعوة من والدي. كان ذلك الرجل يحمل كفنه أينما ذهب، يضعه في الجزء الداخلي من دشداشته من جهة الصدر والبطن، وتجده يزور المقابر في الليل، ويفضل المبيت بالقرب من القبور، خاصة بالقرب من قبر الرجل الصالح ناصر بن مالك القلهاتي على تلة في أطراف المعلاة، بالقرب من طوي النفيسيّة وطوي السدور من جهة الغرب، الذي كان في حياته يسكن طوي المخاشنيّة القريبة من جامع السلطان قابوس حاليا، كان أهل المعلاة يتسابقون على دعوة الوالد
علي بن سيف السيابي -رحمه الله- للمبيت في ضيافتهم أو في أحد المساجد، إلا أنه يفضل العزلة بالقرب من عالم الأموات، فذكر لأحدهم أنه نام يوما في أحد المساجد، ونسي أن يعزم أو يحوط على نفسه، فإذا برجلين من عالم آخر -دون أن يراهم- يجرونه إلى خارج المسجد، فعاهد نفسه بعدم النوم في المساجد مرة أخرى، كان رجلا متدينا وطيبا ومتواضعا وخدوما.
هذا.. وإذا ما تعذرت سبل العلاج في قُريَّات، سواء كان ذلك بالعلاج الشعبي، أو عبر العيادة الصحية الصغيرة، التي أفتتحت في نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم بالقرب من الحصن القديم، كان المرجع الصحي الوحيد في عُمان هو مستشفى الإرسالية العربية الأمريكية في مدينة مطرح، المعروف بمستشفى «طومس» - أو «تومس»- نسبة لاسم الطبيب المشرف على ذلك المستشفى، أو مستشفى الرحمة لاحقًا، وله أهداف خفية وظاهرة، وهو التبشير بالنصرانية أو المسيحية، فكان في أحد مرافق المستشفى كنيسة نصرانية، كانت هناك أيضًا بجانب مستشفى «طومس» مروحة هوائية ضخمة تزين المكان، تستخدم لرفع المياه من البئر، وقد أدى مستشفى «طومس» دورا مهما في التخفيف عن آلام الناس، وفقا للإمكانات المتاحة أمامه بمقياس ذلك الزمن.
وهناك أيضًا عيادة أخرى تعرف بـ«مستشفى السعادة» للولادة في مدينة مسقط، وأخرى تسمى مستشفى «ولجات» - أو «مغب»- قريبة من قصر العلم في مسقط، وللأسف قد تم إزالة مبنى مستشفى الرحمة في مطرح قبل سنوات، ومحيت ذاكرته من الوجود، وهو مبنى قديم وواسع، له تفاصيل جميلة في الذاكرة الصحية في عُمان.
كان الوصول إلى مستشفى «طومس» بمثابة سفر طويل، فقبل ظهور السيارات كان الوصول إليه بالدواب كالإبل والحمير، أو عبر البحر بالهواري والبدانة. يخبرني أحد كبار السن من سكان بلدة السمير، قائلا: كانت وسيلة تنقلاتنا في ذلك الزمن من مكان لآخر بالمشي، أو استخدام الدواب الرّاحلة كالإبل والحمير، وذات يوم كانت زوجتي حاملًا، فشعرت بآلام المخاض والولادة، وطال ألمها وتعسرت ولادتها، فحملتها على مطية بغية علاجها في مستشفى «طومس» بولاية مطرح.. كان الوصول إلى مطرح يتطلب يومًا كاملًا، وهي مسافة أقل من سبعين كيلومترًا، وأنا أرى زوجتي بتلك الصورة من الألم، كان قلبي يتحسر ألمًا وحزنًا، وما إن وصلت وادي عدي وإذا بالمرأة تلفظ أنفاسها الأخيرة، ومات الولد في بطنها، ففقدت الزوجة والولد معًا، فواريتهما التراب في وادي عدي، وعدت بحزني وألمي، متحسرا على الوضع الذي كنا نعيشه.
هذا.. وبعد ظهور السيارات في قُريَّات، كان التنقل بها أيضًا صعبا وشاقا، بسبب وعورة الطرق، فكان الوصول إلى مستشفى «طومس» يحتاج إلى ساعات طويلة، وقد يتخلل الرحلة إلى مدينتي مطرح ومسقط توقفات عديدة في الطريق لإصلاح السيارة، يذكر لي أحد كبار السن من قرية المعلاة، قائلا: مرضت امرأة من أهلنا، كان مرضها شديدا، فقمنا بإسعافها إلى مستشفى الرحمة في مطرح، فأخذنا سيارة ذات الدفع الرباعي مزدحمة الركاب، فعبرت بنا طريق وادي مجلاص القديم، وتوقفنا عدة مرات لإصلاح تلك السيارة، فتأخرنا في إسعافها بسبب وعورة الطريق، وما أن وصلنا أمام الطبيب وإذا بالمرأة تلفظ أنفاسها الأخيرة وتموت بين يدي الطبيب، بسبب تأثير المرض وشدة الألم وتعب السفر بالسيارة، فقررنا دفنها في مطرح لصعوبة العودة بجثمانها، لمشقة الطريق أيضًا وطول مدة السفر.
وعودة إلى سرد الذاكرة.. كثيرًا ما كنا نتردد على هذه العيادات الطبية في مطرح ومسقط، وحينها كانت السيارات التي تقلنا من قُريَّات إلى مدينتي مطرح ومسقط تسلك الطريق القديم، وكان ترابيا ووعرًا ومرهقًا، ويمر عبر وادي مجلاص، وصولا إلى المخاضة والسواقم، ثم السليل وجحلوت فحاجر الخفيجي، ثم بلدان سيح حطاط وصولًا إلى وادي عدي، ثم مطرح فمسقط عبر عقبة ريام، وكان طريق وادي مجلاص لا تسلكه إلا السيارات ذات الدفع الرباعي، التي ظهرت في قُريَّات منذ بداية عقد الستينيات من القرن المنصرم، وكانت هناك نقاط استراحة على هذا الطريق في المخاضة والسواقم والحاجر، حيث كانت المياه تتدفق في جداولها.
كتبه/ صالح بن سليمان الفارسي

الأربعاء، 18 يونيو 2025

من كتاب "شذرات/ تأملات ومشاهد وذكريات"

ارتبطت لبنان بذاكرة طفولتي المدرسية الأولى في سبعينيات القرن الماضي؛ حيث كنا نردد أنشودة جميلة، ضمن منهج قطري في كتاب القراءة المفيدة: «جاءت مريم من لبنان... حضر شوقي من حوران»، كانت كلمات سهلة محببة إلى النفس، ومخارج نطق حروفها تتسم بالجمال اللغوي والموسيقي، وهي أيضًا محفزة لطرح مزيد من الأسئلة، التي كانت تطارد الخيال والأفكار الطفولية، فكنت أقول: لم لا تأتي مريم من عُمان؟ ولم لا يأتي شوقي من جعلان أو قهوان، كانت خيالاتنا تسرح فيما هي هذه لبنان وحوران، حتى عرفنا أنهما في الشام، وعندما أنشد تلك الكلمات الطفولية في البيت، بعد العودة من المدرسة، كانت مريم أختي هي سيدة المكان.
شاءت الأقدار بعد ذلك أن يعمل أخي خليفة -رحمه الله- في سفارة السلطنة في لبنان، ويستشهد فيها أيضا بتاريخ 22 أكتوبر 1977م، في خضم حرب أهلية وأحداث مؤسفة اجتاحت لبنان منذ العام 1975م، واستمرت حتى مشارف التسعينيات من القرن المنصرم، فتواردت الأخبار حينها عن وفاة أخي، فخيم الحزن الشديد على قلوبنا جميعا، حتى تم إعادته إلينا في نعش، مسجى جسده الطاهر في تابوت من شجرة أرز لبنانية، مع مبررات لا يقبلها منطق ولا عقل، فوضعنا في واقع مرير، تعايشنا معه بالصبر والاحتساب إلى الله. فأخي -رحمه الله- ضحى بجل عمره وحياته، وحمل روحه من أجل رفعة وطنه وخدمة سلطانه منذ بداية النهضة المباركة، فكان جنديا وضابطًا مؤمنا شجاعًا في سوح المعارك، وقد خاض حرب ظفار ببطولة واستبسال وإقدام، للذود عن حياض الوطن وترسيخ الأمن والسلام والاستقرار على أراضيه، وللحفاظ على مكانته التاريخية ومكتسباته التنموية والوطنية؛ وذلك إلى جانب إخوانه رجال قوات السلطان المسلحة البواسل، مع بداية حكم جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور -طيب الله ثراه- وحتى تحقيق النصر المؤزر على جحافل الشر والظلام في العام 1975م، بفضل عزيمتهم وصبرهم وتضحياتهم وفكر ورؤية قيادتنا الحكيمة، وهو شرف عظيم ووسام شرف، نباهي به هامات الرجال، وكان -رحمه الله- أيضا مخلصًا وفيا مجيدًا عندما كلف بعمله الجديد في سفارتي السلطنة في القاهرة، ثم في بيروت، التي فيها فارقت روحه الطاهرة جسده، وإنا نحتسبه عند الله شهيدًا.
وفي شهر نوفمبر من العام 1997م، زرت لبنان لأول مرة بصحبة بعض الأصدقاء من عُمان، وامتدت رحلتنا في بيروت للفترة من 20 نوفمبر وحتى 29 نوفمبر من ذلك العام؛ وذلك بهدف تأدية إحدى فترات اختبارات جامعة بيروت العربية في مقرها الرئيسي، نقلا من فرعها في الإسكندرية، تبعتها زيارة ثانية للدراسة أيضا، خلال الفترة من
5 نوفمبر حتى 14 نوفمبر من العام 1998م، فكانت إقامتنا في الزيارة الأولى في فندق «البيت النمساوي»، وفي الزيارة الثانية في فندق «ماي فلاور» بمنطقة الحمراء في بيروت، المعروفة بنشاطها الاقتصادي والثقافي والفني، والمشهورة بوجود تشكيلة واسعة من الفنادق بمختلف المستويات.
وأثناء خروجنا في طريقنا إلى الجامعة كنا نشاهد آثار الحرب الأهلية وبقايا القذائف والرصاص بادية على البنايات والبيوت والجدران، وظاهرة للعيان في كل الأمكنة، وأنا في طريقي لتأدية اختبار الجامعة كان فكري وخيالي في أخي خليفة -رحمه الله- وذكرياته ومواقفه في الحياة، وفيما حدث له في بيروت، كنت أتأمل الأمكنة والطرقات، لعلها تجيبني عن كل الأسئلة، كنت أشعر بمشاعره وألمه، كانت روحه الطاهرة تظلل وجودي، وتعزز دافعيتي وتحفز مهمتي في الدراسة، كان السؤال الملح، الذي لم يبرح أن يبرد في قلبي ووجداني طوال حياتي: كيف مات أخي؟ ومن تسبب في نهايته المؤلمة تلك في الحياة، وهو ما زال في ريعان شبابه؟ كنت أشعر بدموع جامدة في مقلتي، وبمشاعر حسرة وحزن صامتة تهمس في قلبي، وتتملك فكري ووجداني.
هكذا هي الحياة في لبنان تأسرنا بمتناقضاتها الوجودية على الرغم من أحزانها الكامنة؛ فهي دولة عربية عاصمتها بيروت، إلا أنها متعددة الثقافات والأعراق، وكذلك متعددة الديانات والطوائف والمذاهب، تشغلها الصراعات الطائفية وحالات الاحتقان المستمرة، وبحكم موقعها الإستراتيجي تشكل أيضًا محطة مهمة للقوى الإقليمية المتنافرة، وللتفاعلات السياسية ومجرياتها في محيطها الجغرافي والعالمي، وشهدت على مر تاريخها أحداثًا مؤلمة ومؤسفة، منها حوادث تصفية واغتيالات لزعامات سياسية واجتماعية بارزة، وشخصيات فكرية وثقافية وكتاب صحف متحققة ومشهورة، ولعل أبرزها: اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري ورفاقه في وسط بيروت بتاريخ 14 فبراير 2005م، في مشهد مؤلم ومؤسف، والكثير من هذه الأحداث لم يتضح على العلن من كان يقف وراءها، ومن تسبب بها ونفذها.
فيما يقف النصب التذكاري البرونزي للرئيس رفيق الحريري شامخًا، بعد إزاحة الستار عنه، وافتتاح مساحته الخضراء في العام 2008م، بمناسبة الذكرى الثالثة لاستشهاده، والذي أقيم في مكان اغتياله في منطقة عين المريسة غرب بيروت، بالقرب من فندق سان جورج التاريخي والشهير، وغير بعيد عن فندق فينيسيا ذائع الصيت، على الطريق البحري، المطل على جمال البحر الأبيض المتوسط في وسط بيروت، ويعد هذا النصب أيضًا علامة رمزية فارقة لهول ما حدث وتداعياته المستقبلية على لبنان ومحيطه، ويؤكد أيضا محبة ومكانة ذلك الرجل في قلوب اللبنانيين، ولدوره الكبير في تحقيق التعايش المجتمعي والوطني، ولجهوده الفعالة في النهوض بلبنان تنمويا وإنسانيا منذ العام 1990م، وهي الفترة التي تلت الحرب الأهلية في لبنان، والتي لاحت بوادرها منذ العام 1975م.
وفي العام 1997م، ومع فترة زيارتنا لبيروت لأول مرة، قمت أنا ومعي بعض الأصدقاء بزيارة إلى دمشق عن طريق البر، فأقلتنا سيارة أجرة، ونحن في الطريق كان السائق ينبهنا بعدم الخوض في السياسة أو فيما يتعلق بالظروف السائدة في سوريا، لا أدري ماذا كان يريد أن يوصله لنا حينها، على الرغم من كوننا طلابًا في الجامعة، وأردنا زيارة دمشق للسياحة لبعض الأيام، أوصلنا ذلك الرجل إلى الحدود اللبنانية السورية، ثم أخذنا سيارة أخرى لتوصلنا إلى سوريا، فوصلنا دمشق مع حلول المساء، فاستأجرنا شقة مفروشة، كان الجو حينها شتويا والبرد شديدًا، وأكثر مما اعتدنا عليه في بيروت؛ فقد صدق المتنبي عندما قال: «عقاب لبنان وكيف بقطعها.. وهو الشتاء وصيفهن شتاء». وفي الصباح، تجولنا في معالم دمشق التاريخية والحضارية، وزرنا الجامع الأموي الشهير وصلينا فيه، ثم زرنا سوق الحميدية التراثي الرائع، وقد لاحظنا رجلا غريبا يرتدي لباسا خليجيا يتبعنا أينما ذهبنا، فإذا دخلنا مطعمًا دخل وراءنا، حتى تعب وغاب عن أنظارنا، وتلك الرحلة القصيرة والجميلة إلى دمشق لم تطل إلا عدة أيام؛ حيث عدنا مرة أخرى إلى بيروت، لتكملة مهمة واجب الدراسة، التي أتينا من أجلها والعودة إلى الوطن.
وبعد تلك الزيارات الدراسية إلى لبنان، تكررت رحلاتي السياحية والثقافية إلى بيروت؛ بهدف التعرف على معالمها التاريخية والحضارية ومقوماتها الطبيعية، فقد حباها الله بطبيعة خلابة، وبمناخ متوسطي لطيف، وبطقس منعش طوال العام، وهي ذات عمق تاريخي وحضاري، وتزخر بآثار قديمة وعريقة، وعند زيارتي لها كثيرًا ما أتردد على حديقة الجامعة الأمريكية في بيروت للتأمل في جمال مكوناتها وعناصرها، التي تعد غابة واسعة، وبيئة متنوعة خضراء في حرم الجامعة بوسط بيروت، وتشكل متحفًا طبيعيا للكثير من الأشجار المعمرة والنباتات المزهرة، بعضها جلبت من مختلف بقاع العالم، مع فترة تأسيس الجامعة في العام 1866م، فتكيفت مع بيئتها الجديدة، إضافة لمكتبتها العامرة بأمات الكتب والدوريات الثقافية، والزاخرة بالموسوعات العلمية والمعرفية، وكذلك هو متحفها القديم، المزدهر بالعديد من الآثار والتحف واللقى الأثرية، والتي تحكي تفاصيل العصور القديمة للبنان وبلدان بلاد الشام، وتاريخها الإنساني العريق.
وزرت أيضًا وزارة الثقافة اللبنانية؛ بهدف التعرف على المكتبة الوطنية اللبنانية في بيروت ووضعها المستقبلي، وإمكانية التصريح لزيارتها أثناء عمليات الصيانة والتجديد، فقيل لي إن المكتبة حاليًا في مراحلها النهاية للافتتاح في مبناها الجديد، نقلا من موقعها المؤقت في مبنى المنطقة الحرة من مرفأ بيروت، وسيكون موقعها في مبنى قديم وتاريخي في الصنائع على شارع الحمراء، بقلب بيروت العاصمة، تكفل وتبرع بترميمه وصيانته وإعادة تأهيله وتهيئته، ليكون مقرا رسميا للمكتبة الوطنية، صاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير قطر السابق، إضافة لتشييد مبان وملاحق جديدة بجانبه تخدم المكتبة أيضًا.
فزرت المبنى في مراحل ترميمه عدة مرات؛ فهو تحفة تراثية قديمة، وأحد معالم فنون العمارة العثمانية الراقية في لبنان، ويقع في وسط بيروت في الصنائع، ويعود تاريخ بنائه إلى عام 1905م، وافتتح في العام 1907م كمدرسة للفنون والصنائع وتعليم الحرف اليدوية، سميت حينها بمدرسة الحميدية، نسبة للسلطان عبدالحميد الثاني، واستخدم بعدها لعدة أغراض على مدار تاريخه، وكان آخر استخدام له كمقر لكلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية، منذ العام 1959م وحتى 2006م، ليصبح بعدها مقرا للمكتبة الوطنية، وأحد مراكز الإشعاع الإبداعي والثقافي والمعرفي والتراث الوطني والإنساني في لبنان.
وكان لي تواصل مع المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت، والذي تأسس في العام 1961م في بيروت، ويتخذ من مبنى أنيق وقديم في زقاق البلاط بوسط بيروت مقرا له، ويبذل جهودًا طيبة في مجال الدراسات التاريخية واللغوية، والعلوم الاجتماعية والسياسية، وفي مجال الأدب والتراث الإسلامي والعلوم الإنسانية؛ وذلك في نطاق عدد من دول الشرق الأوسط والمنطقة العربية، كما يدعم المشروعات العلمية والبحثية للباحثين وطلاب الجامعات، وله ندوات ومؤتمرات علمية، وجلسات حوارية دورية، لمناقشة نتائج مختلف الأبحاث التاريخية والدراسات العلمية والثقافية والفكرية. وإضافة إلى ذلك، يضم المعهد مكتبة كبيرة تحتوي على آلاف المجلدات والكتب والدوريات والموسوعات العلمية، وله إصدارات ومنشورات عديدة في شتى مجالات الثقافة والعلم والمعرفة.
وذات زيارة للمعهد أيضا، طلب مني مساعدتهم في ضمان وصول مجلة التسامح (التفاهم لاحقا) الصادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، ومجلة نزوى الثقافية إلى المعهد، مع إمكانية توفير الإصدارات القديمة للمجلتين، وعند استفساري عن سبب هذا الاهتمام، قيل لي إنهما تحملان فكرًا مستنيرًا وتوجهات حضارية راقية، وتشكلان مصدرًا مهما للثقافة العُمانية، وتحظيان بمتابعة واهتمام بالغ من قبل المراكز العلمية والبحثية، وكذلك من قبل الباحثين والدارسين والمثقفين في مختلف الأقطار العربية، ومن قبل رواد مكتبة المعهد أيضا.
وبعد عودتي مباشرة إلى عُمان، شرفت بزيارة سعادة الدكتور إبراهيم بن أحمد الكندي الرئيس التنفيذي لمؤسسة عُمان للصحافة والنشر والإعلان (حينها)، والذي كان شخصية شابة قمة في التواضع، لديه رؤية إعلامية تجاه كافة الأحداث، مطلعًا على كافة التغيرات المجتمعية، لديه تطلع ورؤية لإيصال مطبوعات مؤسسته لكافة المراكز البحثية والقراء في العالم العربي. وهو أيضا مفكر ومنفتح تجاه التطوير والتحسين المستمر للصحافة، مطبقًا بحرفية سياسة الباب المفتوح؛ حيث تجد باب مكتبة مفتوحًا بصورة دائمة للجميع، فحدثته عن رغبة المعهد في الحصول على أعداد مجلة نزوى، فبادر مشكورا بالموافقة الفورية على ذلك. وفي الموضوع ذاته، قابلت الصديق والأديب والصحفي طالب المعمري مدير مجلة نزوى، الذي يعد أحد أركان مجلة نزوى منذ تأسيسها، إلى جانب رئيس تحريرها الأديب المعروف سيف الرحبي، والذي بذل جهدًا كبيرًا في التعريف بالمجلة وتسويقها على المستويين المحلي والإقليمي والعربي، وقام مشكورًا بتجميع مجموعة كبيرة من دوريات مجلة نزوى على مدى أعوام سابقة، وتكفل بإرسالها وشحنها إلى مقر المعهد في بيروت.
وفيما يتعلق بمجلة «التفاهم»، فهي مجلة فصلية تهتم بترسخ مفاهيم وقيم إسلامية وإنسانية راقية، وتضم بين دفتيها دراسات فكرية لعلماء من شتى بقاع العالم العربي والإسلامي، لها توجه وسطي نحو خطاب إسلامي متوازن، وفي هذا الإطار قابلت أيضًا الدكتور عبدالرحمن بن سليمان السالمي رئيس تحرير مجلة «التفاهم»، وهو من الشخصيات العُمانية المجيدة والمبدعة في مجال عملها، ويعد موسوعة علمية وفكرية في عُمان، يحرص دومًا على إيصال التراث الفكري العُماني، وصوت عُمان الثقافي إلى جميع دول العالم، وقد اتسمت إدارته للمجلة بالتجديد والتطوير والتحسين المستمر مضمونا وشكلا، وعندما بادرته بموضوع طلب المعهد كان مرحبا ومتعاونا إلى ابعد الحدود.
هذا.. وتمتاز منطقة وسط بيروت (داون تاون بيروت، أو السوليدير) بنشاطها الاقتصادي الكبير؛ فهي تنبض بالحياة دومًا، وبالحركة والنشاط طوال اليوم، كمركز مالي وتجاري معروف، وكشعاع ثقافي وفني مبهر، يجمع في مزيج فريد بين عراقة الشرق وأصالته وحداثة الغرب وسحره، فيما يقف مبنى السراي الكبير معلمًا حضاريا شامخا، بهيبته ورمزيته وبروعة مبناه وجمال تصميمه على أحد التلال الصخرية الجميلة في وسط بيروت، كما يعد مسرح قصر البيكاديللي ذاكرة فنية وثقافية عريقة في بيروت المحروسة، وتشكل ساحة النجمة في الأشرفية مقصدًا جاذبًا للسياح، للتمتع بمعالمها الحضارية والعمرانية، وكذلك هي ساحتي رياض الصلح والشهداء أو الحرية، تشكلان أيضا وجهة سياحية مهمة في بيروت، لذاكرتهما التاريخية ومكانتهما الجمالية. وفي ساحة الشهداء ينتصب النصب التذكاري أو تمثال الشهداء بتصميمه الفني البديع، وهي زاخرة بالمطاعم والمقاهي والمحلات التجارية في محيطها المكاني، كذا هو شارع الحمراء قلب بيروت النابض بالحركة والحياة؛ حيث تستقطب مقاهيه ومكتباته ومحلاته التجارية السياح، للتمتع بالمأكولات اللبنانية وأجوائه الصاخبة في الهواء الطلق.
وفي باحة قريبة من جامع مُحمَّد الأمين، المطلة على ساحة الشهداء، دفن الرئيس رفيق الحريري مع حراسه، وإلى فترة قريبة كانت تحيط بقبورهم خيام مظللة، ومكسوة بزهور جميلة، تهدى إليهم بشكل يومي من أقرباء لهم، مع تلاوة مستمرة للقرآن الكريم في محيطهم المكاني، يتم بثها عبر جهاز تسجيلي في تلك الخيام، مع حراسة مشددة للمكان، إلا أنه في زيارتي الأخيرة لبيروت رأيت تلك الخيام غير موجودة، وأصبحت قبورهم وحيدة في المكان، ومكشوفة للعيان بلا زهور أو تلاوة قرآن، فهكذا حال الدنيا لا شيء فيها يبقى بتشكله. ولأكثر من مرة زرت تلك الأمكنة، وصليت في مسجد العمري الكبير، وهو تحفة إسلامية ومعمارية قديمة، تعود لبداية القرن الأول الهجري، وكذلك زرت جامع مُحمَّد الأمين الواسع، المتميز بتصميمه المعماري العثماني القديم، وزخارفه المملوكية البديعة، ومآذنه الأربع المرتفعة، وقبابه الجميلة ذات اللون الأزرق السماوي اللامع.
كما يشكل الطريق البحري أو الكورنيش في بيروت معلمًا حضاريا وسياحيا، يمتد من خليج الزيتونة وحتى الرملة البيضاء، مرورا بعين المريسة، والمنارة، والروشة أو رأس بيروت، والمطل على البحر بزرقته الواسعة ومياهه الفيروزية الصافية، وهو أيضًا ملتقى اجتماعي للأسر والأصدقاء، لممارسة رياضة المشي، وللتأمل في جمال تكويناته وألوانه الأخاذة، كما تبهرك الروشة بروعة صخور الطيور العملاقة، التي نحتتها الطبيعة وسط البحر بأشكال بديعة، لتشكل معلمًا طبيعيا فريدًا، وتضفي جمالًا ساحرًا على مدينة بيروت الغربية، خاصة في وقت الأصيل والغروب؛ حيث تعانق الشمس بأشعتها الذهبية زرقة البحر الخالدة وأمواجه البيضاء اللامعة في جو يأسر الألباب، مفعم بالجمال والهدوء.
فيما يعد جبل لبنان المزدان بالخضرة والعمران القديم نقطة جذب سياحي، ويشكل «تليفريك» خليج جونية روعة وجمالا، بإطلالته الساحرة على أشجار الأرز والصنوبر وصولا إلى حريصا ومزار سيدة لبنان، كذلك هي المدن اللبنانية الأخرى تزهو بمقومات سياحية وتاريخية وطبيعية، كما تمثل مغارة جعيتا بطبقتيها وكهوفها ومداخلها وتكويناتها الصخرية النادرة أحد أسرار الجمال الرباني في لبنان، فتجد فيها تشكيلات واسعة من الصواعد والهوابط والرواسب الكلسية، تتدلى بأشكال فنية رائعة كبلورات فضية، وتزين جدرانها وسطحها الداخلي، إضافة لهدير المياه القوي، وخريرها الموسيقي الجذاب في دهاليزها المخفية، كما أكسب موقعها على ضفاف وادي نهر الكلب ميزة سياحية مهمة.
ومن جانب آخر، فقد زرت لبنان عدة مرات، إبان دراستي الجامعية الأولى، وبعدما أنهيت الجامعة أيضًا، ومن خلال زيارتي وتأملي وقراءتي في تاريخها وحاضرها، تابعت ودرست التحولات التي شهدتها، وعلى الرغم من صغر مساحتها ومحدودية ثرواتها، تبقى دولة قوية وكبيرة بفضل موقعها وإرادة شعبها، حيث تتهافت عليها كل ثقافات وساسة العالم.
ومن الجانب التاريخي للبنان، يقال إن الفينيقيين أو الكنعانيين بنوا حضارتهم هنا، بعد أن هاجروا من عُمان وشبه جزيرة العرب، حيث تؤكد الكثير من المصادر التاريخية وجود علاقة إنسانية قديمة بين عُمان وبلدان بلاد الشام، يقدرها بعض العلماء بأكثر من خمسة آلاف سنة...
كتبه/ صالح بن سليمان الفارسي

حديث الذَّاكرة.. من كتاب "شذرات/ تأملات ومشاهد وذكريات"

ذات يوم، دعاني الصديق المصري المهندس عبدالجليل، وهو زميل دراسة أيضًا في مرحلة الماجستير في الإدارة بكلية الدراسات العليا في الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري، لمرافقته لزيارة محافظة مطروح، وكان حينها يعمل في مجال المقاولات، وهو شخصية متواضعة وخدومة، وصاحب دين وأخلاق عالية، وصادق وأمين في تعامله مع عملائه، ويتعامل بعلاقة إنسانية حميمة مع الجميع، وله سيرة وسمعة طيبة مع الناس، وله علاقة حسنة مع زملاء دراسته، ومن طيبته ومحبته عرض علي مرارا شراء شقة في الإسكندرية من عمارة كان يبنيها في الإسكندرية، قريبة من البحر وبأسعار مغرية، إلا أن تركيزي كان حينها على دراسة الماجستير فقط دون غيرها، وجاءت زيارته تلك إلى مطروح لمتابعة بعض المشاريع التابعة لشركته، إضافة إلى مقابلة بعض عملائها هناك، فوافقت حينها على مرافقته وصحبته الطيبة، للتعرف على تلك المدينة ذائعة الصيت في مصر سياحيا.
فمطروح أو مرسى مطروح بوابة حدودية مهمة لمصر على الصحراء الغربية منها، وهي مدينة عريقة تقع غرب الإسكندرية وتبعد عنها بحوالي 290 كم، ويربطهما طريق قديم، وتتصل مطروح أيضا بعد مدينة السلوم بالحدود الليبية من جهة الشرق، وبها كتل قبلية عربية قديمة، ينتمي بعضها لبني سليم وبني هلال، وعلى أرضها معابد وآثار عريقة، يعود بعضها إلى ما قبل الميلاد، وأخرى إلى مختلف العصور الحضارية القديمة في مصر، وكذلك إلى العصرين اليوناني والروماني، وتضم مطروح أيضا ظواهر جيومورفولوجية عديدة، تتميز بتنوع في أشكالها النادرة، وشهدت أرضها كذلك أحداثًا عظيمة في فترة الحرب العالمية الثانية، فتجد في منطقة العلمين مقابر واسعة، لجنود وضحايا من دول الكومنولث وألمانيا وإيطاليا... وغيرها، وتكتسي مساحة واسعة من أرضها بالألغام المخفية تحت الرمال، وهي من بقايا معركة العلمين الحاسمة في نهاية الحرب العالمية الثانية، التي دارت بين قوات دول الحلفاء بزعامة بريطانيا، وقوات دول المحور بقيادة ألمانيا، في العام 1942م.
وأكثر ما شد انتباهي في مطروح هو ساحلها الممتد على البحر الأبيض المتوسط، فتلك الألوان الفيروزية المتدرجة لزرقة البحر، وصفاء مياهه الساحرة، ونعومة رماله البيضاء الدافئة، ونسماته العليلة هي تحفة بيئية وطبيعية نادرة في مصر، قد لا تجد لها مثيلًا في أي مكان من العالم؛ لهذا فهي مقصد السياح طوال العام، فالجزء الجميل للساحل الشمالي في مطروح يعد مستقبلا ثريا للسياحة في مصر، لمقوماته السياحية المبهجة، وموائله الطبيعية النادرة، وموقعه الإستراتيجي المهم.
هذا.. وبعد ما أن أنهى الصديق المهندس أحمد عبدالجليل أعماله ومراجعاته الإنشائية، الذي لاقى ترحيبًا حارا من الناس، لتواضعه ورقة قلبه، ولجهوده وطيب تعامله وتعاونه معهم، دعينا إلى وجبة غداء من قبل أحد أصدقائه وعملائه في مجال العقارات، فقدم لنا سفرة عامرة وتشكيلة واسعة من مختلف المأكولات البحرية، التي تشتهر بها مطروح، بعدها عدنا إلى الإسكندرية في نفس اليوم مع حلول المساء، فكانت رحلة ممتعة جدا على الرغم من قصر مدتها، ستبقى مرسومة في الذاكرة.
كتبه/ صالح بن سليمان الفارسي

حديث الذَّاكرة.. من كتاب "شذرات/ تأملات ومشاهد وذكريات"

خلال فترة إقامتنا في الإسكندرية توطدت علاقة أخوية مع عدد من الأخوة، سواء جيرة السكن أو زمالة الدراسة، فكان الصديق حمدان العامري خير رفيق في المذاكرة والتحضير للدروس والعروض التقديمية، فكنا نجتمع سويا شبه يومي للمذاكرة أو في المشاوير والرحلات الشبابية، وكانت الدراسة والمذاكرة أكثر ما يشغل وقتنا حتى في الإجازات الأسبوعية، وهو شخصية مجتهدة محبة للعلم والتعلم، ومجيد في نتائجه العلمية، وفي فترة وجوده هناك تزوج من امرأة فاضلة ليبية الأصل، هناك أيضا زملاء دراسة من مصر وليبيا، ترسخت بيننا علاقة أخوة وصداقة وقواسم مشتركة، وكثيرا ما نلتقي أثناء المحاضرات في الكلية، وفي فترة ما بعد الكلية أيضا للمذاكرة والترفيه.
ذات يوم، دعانا صهر الصديق حمدان العامري إلى وجبة غداء في بيته في ميامي، وهو من أصل ليبي استوطن والده الإسكندرية من زمن طويل، فكان كريما وودودا ومحبا للعُمانيين، وأهل ليبيا بطبعهم أهل مروءة ونخوة وشهامة وكرم، تجمعنا بهم علاقات تاريخية قديمة، وعادات وتقاليد عربية مشتركة، ضاربة العمق في التاريخ الإنساني، فقدمت لنا في تلك العزيمة تشكيلة رائعة من الأكلات الليبية ذات الطعم اللذيذ، تميزت بوجبة الأرز مع اللحم بالطبخة الليبية، وكذلك هو الخبز الليبي الفريد في طعمه ونكهته، عقبها تناولنا الشاي أو الشاهي الأخضر بالطريقة الليبية، فالليبيون يعشقون الشاي الأخضر، ويعد أحد أساسيات تقديم واجب الضيافة عندهم، حتى إنه يتم تحضيره في نفس مكان جلسة الشاي على موقد غاز صغير. وقديمًا، كان يتم تحضيره على موقد من الفحم يسمى «الكانون»، وفي تحضيره وتقديمه طقوس وطرائق قديمة، ويتم غليه في إبريق نحاسي لفترة طويلة، وللشاي الليبي مذاق مختلف ونكهة خاصة، له رغوة جذابة ولذيذة عند صبه في الأكواب، ويقدم عادة في أكواب صغيرة، وتسمى عملية تحضير الشاي عندهم بـ«شاهي العالة»، ولإعداد شاي العالة أدوات معروفة وعادات متوارثه، فكانت تلك الدعوة الكريمة تجربة أخوية لا تنسى.
كانت الشقة التي أسكنها في عمارة «قصر ميامي»، تشترك معها شقتان في نفس الدور أو الطابق، فهي تقع في الدور الثاني، ويمكن الصعود إليها بالمصعد أو الدرج (السلم)، كانت الشقة المجاورة لمعلم فاضل كان يوما يعمل مدرسا في إحدى مدارس عُمان، ولكنه يزور الشقة بين حين وآخر ليتخذها مصيفا، فهو يسكن في منطقة بعيدة من المكان، يوما نسي أن يغلق الباب عند خروجه إلى سكنه الأصلي، وعند عودتي من الكلية شاهدت باب الشقة الرئيسي مشرعًا مفتوحًا، والشقة مؤثثة بأثاث ثمين وراق متعوب عليه، عندها أخبرت رجل الأمن أو البواب بأن يحضر، وعند حضوره منعته من الدخول إلى الشقة، وأمرته بقفل الباب بحضوري، وأن يتصل بصاحب الشقة ليبلغه بالأمر، وعندما وصل الخبر صاحب الشقة شكرني وغمرته البهجة والفرح بتصرفي هذا، فقال: «هذا الذي فعلته ليس بغريب على العُمانيين».
كتبه/ صالح بن سليمان الفارسي