الأربعاء، 18 يونيو 2025

من كتاب "شذرات/ تأملات ومشاهد وذكريات"

ارتبطت لبنان بذاكرة طفولتي المدرسية الأولى في سبعينيات القرن الماضي؛ حيث كنا نردد أنشودة جميلة، ضمن منهج قطري في كتاب القراءة المفيدة: «جاءت مريم من لبنان... حضر شوقي من حوران»، كانت كلمات سهلة محببة إلى النفس، ومخارج نطق حروفها تتسم بالجمال اللغوي والموسيقي، وهي أيضًا محفزة لطرح مزيد من الأسئلة، التي كانت تطارد الخيال والأفكار الطفولية، فكنت أقول: لم لا تأتي مريم من عُمان؟ ولم لا يأتي شوقي من جعلان أو قهوان، كانت خيالاتنا تسرح فيما هي هذه لبنان وحوران، حتى عرفنا أنهما في الشام، وعندما أنشد تلك الكلمات الطفولية في البيت، بعد العودة من المدرسة، كانت مريم أختي هي سيدة المكان.
شاءت الأقدار بعد ذلك أن يعمل أخي خليفة -رحمه الله- في سفارة السلطنة في لبنان، ويستشهد فيها أيضا بتاريخ 22 أكتوبر 1977م، في خضم حرب أهلية وأحداث مؤسفة اجتاحت لبنان منذ العام 1975م، واستمرت حتى مشارف التسعينيات من القرن المنصرم، فتواردت الأخبار حينها عن وفاة أخي، فخيم الحزن الشديد على قلوبنا جميعا، حتى تم إعادته إلينا في نعش، مسجى جسده الطاهر في تابوت من شجرة أرز لبنانية، مع مبررات لا يقبلها منطق ولا عقل، فوضعنا في واقع مرير، تعايشنا معه بالصبر والاحتساب إلى الله. فأخي -رحمه الله- ضحى بجل عمره وحياته، وحمل روحه من أجل رفعة وطنه وخدمة سلطانه منذ بداية النهضة المباركة، فكان جنديا وضابطًا مؤمنا شجاعًا في سوح المعارك، وقد خاض حرب ظفار ببطولة واستبسال وإقدام، للذود عن حياض الوطن وترسيخ الأمن والسلام والاستقرار على أراضيه، وللحفاظ على مكانته التاريخية ومكتسباته التنموية والوطنية؛ وذلك إلى جانب إخوانه رجال قوات السلطان المسلحة البواسل، مع بداية حكم جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور -طيب الله ثراه- وحتى تحقيق النصر المؤزر على جحافل الشر والظلام في العام 1975م، بفضل عزيمتهم وصبرهم وتضحياتهم وفكر ورؤية قيادتنا الحكيمة، وهو شرف عظيم ووسام شرف، نباهي به هامات الرجال، وكان -رحمه الله- أيضا مخلصًا وفيا مجيدًا عندما كلف بعمله الجديد في سفارتي السلطنة في القاهرة، ثم في بيروت، التي فيها فارقت روحه الطاهرة جسده، وإنا نحتسبه عند الله شهيدًا.
وفي شهر نوفمبر من العام 1997م، زرت لبنان لأول مرة بصحبة بعض الأصدقاء من عُمان، وامتدت رحلتنا في بيروت للفترة من 20 نوفمبر وحتى 29 نوفمبر من ذلك العام؛ وذلك بهدف تأدية إحدى فترات اختبارات جامعة بيروت العربية في مقرها الرئيسي، نقلا من فرعها في الإسكندرية، تبعتها زيارة ثانية للدراسة أيضا، خلال الفترة من
5 نوفمبر حتى 14 نوفمبر من العام 1998م، فكانت إقامتنا في الزيارة الأولى في فندق «البيت النمساوي»، وفي الزيارة الثانية في فندق «ماي فلاور» بمنطقة الحمراء في بيروت، المعروفة بنشاطها الاقتصادي والثقافي والفني، والمشهورة بوجود تشكيلة واسعة من الفنادق بمختلف المستويات.
وأثناء خروجنا في طريقنا إلى الجامعة كنا نشاهد آثار الحرب الأهلية وبقايا القذائف والرصاص بادية على البنايات والبيوت والجدران، وظاهرة للعيان في كل الأمكنة، وأنا في طريقي لتأدية اختبار الجامعة كان فكري وخيالي في أخي خليفة -رحمه الله- وذكرياته ومواقفه في الحياة، وفيما حدث له في بيروت، كنت أتأمل الأمكنة والطرقات، لعلها تجيبني عن كل الأسئلة، كنت أشعر بمشاعره وألمه، كانت روحه الطاهرة تظلل وجودي، وتعزز دافعيتي وتحفز مهمتي في الدراسة، كان السؤال الملح، الذي لم يبرح أن يبرد في قلبي ووجداني طوال حياتي: كيف مات أخي؟ ومن تسبب في نهايته المؤلمة تلك في الحياة، وهو ما زال في ريعان شبابه؟ كنت أشعر بدموع جامدة في مقلتي، وبمشاعر حسرة وحزن صامتة تهمس في قلبي، وتتملك فكري ووجداني.
هكذا هي الحياة في لبنان تأسرنا بمتناقضاتها الوجودية على الرغم من أحزانها الكامنة؛ فهي دولة عربية عاصمتها بيروت، إلا أنها متعددة الثقافات والأعراق، وكذلك متعددة الديانات والطوائف والمذاهب، تشغلها الصراعات الطائفية وحالات الاحتقان المستمرة، وبحكم موقعها الإستراتيجي تشكل أيضًا محطة مهمة للقوى الإقليمية المتنافرة، وللتفاعلات السياسية ومجرياتها في محيطها الجغرافي والعالمي، وشهدت على مر تاريخها أحداثًا مؤلمة ومؤسفة، منها حوادث تصفية واغتيالات لزعامات سياسية واجتماعية بارزة، وشخصيات فكرية وثقافية وكتاب صحف متحققة ومشهورة، ولعل أبرزها: اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري ورفاقه في وسط بيروت بتاريخ 14 فبراير 2005م، في مشهد مؤلم ومؤسف، والكثير من هذه الأحداث لم يتضح على العلن من كان يقف وراءها، ومن تسبب بها ونفذها.
فيما يقف النصب التذكاري البرونزي للرئيس رفيق الحريري شامخًا، بعد إزاحة الستار عنه، وافتتاح مساحته الخضراء في العام 2008م، بمناسبة الذكرى الثالثة لاستشهاده، والذي أقيم في مكان اغتياله في منطقة عين المريسة غرب بيروت، بالقرب من فندق سان جورج التاريخي والشهير، وغير بعيد عن فندق فينيسيا ذائع الصيت، على الطريق البحري، المطل على جمال البحر الأبيض المتوسط في وسط بيروت، ويعد هذا النصب أيضًا علامة رمزية فارقة لهول ما حدث وتداعياته المستقبلية على لبنان ومحيطه، ويؤكد أيضا محبة ومكانة ذلك الرجل في قلوب اللبنانيين، ولدوره الكبير في تحقيق التعايش المجتمعي والوطني، ولجهوده الفعالة في النهوض بلبنان تنمويا وإنسانيا منذ العام 1990م، وهي الفترة التي تلت الحرب الأهلية في لبنان، والتي لاحت بوادرها منذ العام 1975م.
وفي العام 1997م، ومع فترة زيارتنا لبيروت لأول مرة، قمت أنا ومعي بعض الأصدقاء بزيارة إلى دمشق عن طريق البر، فأقلتنا سيارة أجرة، ونحن في الطريق كان السائق ينبهنا بعدم الخوض في السياسة أو فيما يتعلق بالظروف السائدة في سوريا، لا أدري ماذا كان يريد أن يوصله لنا حينها، على الرغم من كوننا طلابًا في الجامعة، وأردنا زيارة دمشق للسياحة لبعض الأيام، أوصلنا ذلك الرجل إلى الحدود اللبنانية السورية، ثم أخذنا سيارة أخرى لتوصلنا إلى سوريا، فوصلنا دمشق مع حلول المساء، فاستأجرنا شقة مفروشة، كان الجو حينها شتويا والبرد شديدًا، وأكثر مما اعتدنا عليه في بيروت؛ فقد صدق المتنبي عندما قال: «عقاب لبنان وكيف بقطعها.. وهو الشتاء وصيفهن شتاء». وفي الصباح، تجولنا في معالم دمشق التاريخية والحضارية، وزرنا الجامع الأموي الشهير وصلينا فيه، ثم زرنا سوق الحميدية التراثي الرائع، وقد لاحظنا رجلا غريبا يرتدي لباسا خليجيا يتبعنا أينما ذهبنا، فإذا دخلنا مطعمًا دخل وراءنا، حتى تعب وغاب عن أنظارنا، وتلك الرحلة القصيرة والجميلة إلى دمشق لم تطل إلا عدة أيام؛ حيث عدنا مرة أخرى إلى بيروت، لتكملة مهمة واجب الدراسة، التي أتينا من أجلها والعودة إلى الوطن.
وبعد تلك الزيارات الدراسية إلى لبنان، تكررت رحلاتي السياحية والثقافية إلى بيروت؛ بهدف التعرف على معالمها التاريخية والحضارية ومقوماتها الطبيعية، فقد حباها الله بطبيعة خلابة، وبمناخ متوسطي لطيف، وبطقس منعش طوال العام، وهي ذات عمق تاريخي وحضاري، وتزخر بآثار قديمة وعريقة، وعند زيارتي لها كثيرًا ما أتردد على حديقة الجامعة الأمريكية في بيروت للتأمل في جمال مكوناتها وعناصرها، التي تعد غابة واسعة، وبيئة متنوعة خضراء في حرم الجامعة بوسط بيروت، وتشكل متحفًا طبيعيا للكثير من الأشجار المعمرة والنباتات المزهرة، بعضها جلبت من مختلف بقاع العالم، مع فترة تأسيس الجامعة في العام 1866م، فتكيفت مع بيئتها الجديدة، إضافة لمكتبتها العامرة بأمات الكتب والدوريات الثقافية، والزاخرة بالموسوعات العلمية والمعرفية، وكذلك هو متحفها القديم، المزدهر بالعديد من الآثار والتحف واللقى الأثرية، والتي تحكي تفاصيل العصور القديمة للبنان وبلدان بلاد الشام، وتاريخها الإنساني العريق.
وزرت أيضًا وزارة الثقافة اللبنانية؛ بهدف التعرف على المكتبة الوطنية اللبنانية في بيروت ووضعها المستقبلي، وإمكانية التصريح لزيارتها أثناء عمليات الصيانة والتجديد، فقيل لي إن المكتبة حاليًا في مراحلها النهاية للافتتاح في مبناها الجديد، نقلا من موقعها المؤقت في مبنى المنطقة الحرة من مرفأ بيروت، وسيكون موقعها في مبنى قديم وتاريخي في الصنائع على شارع الحمراء، بقلب بيروت العاصمة، تكفل وتبرع بترميمه وصيانته وإعادة تأهيله وتهيئته، ليكون مقرا رسميا للمكتبة الوطنية، صاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير قطر السابق، إضافة لتشييد مبان وملاحق جديدة بجانبه تخدم المكتبة أيضًا.
فزرت المبنى في مراحل ترميمه عدة مرات؛ فهو تحفة تراثية قديمة، وأحد معالم فنون العمارة العثمانية الراقية في لبنان، ويقع في وسط بيروت في الصنائع، ويعود تاريخ بنائه إلى عام 1905م، وافتتح في العام 1907م كمدرسة للفنون والصنائع وتعليم الحرف اليدوية، سميت حينها بمدرسة الحميدية، نسبة للسلطان عبدالحميد الثاني، واستخدم بعدها لعدة أغراض على مدار تاريخه، وكان آخر استخدام له كمقر لكلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية، منذ العام 1959م وحتى 2006م، ليصبح بعدها مقرا للمكتبة الوطنية، وأحد مراكز الإشعاع الإبداعي والثقافي والمعرفي والتراث الوطني والإنساني في لبنان.
وكان لي تواصل مع المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت، والذي تأسس في العام 1961م في بيروت، ويتخذ من مبنى أنيق وقديم في زقاق البلاط بوسط بيروت مقرا له، ويبذل جهودًا طيبة في مجال الدراسات التاريخية واللغوية، والعلوم الاجتماعية والسياسية، وفي مجال الأدب والتراث الإسلامي والعلوم الإنسانية؛ وذلك في نطاق عدد من دول الشرق الأوسط والمنطقة العربية، كما يدعم المشروعات العلمية والبحثية للباحثين وطلاب الجامعات، وله ندوات ومؤتمرات علمية، وجلسات حوارية دورية، لمناقشة نتائج مختلف الأبحاث التاريخية والدراسات العلمية والثقافية والفكرية. وإضافة إلى ذلك، يضم المعهد مكتبة كبيرة تحتوي على آلاف المجلدات والكتب والدوريات والموسوعات العلمية، وله إصدارات ومنشورات عديدة في شتى مجالات الثقافة والعلم والمعرفة.
وذات زيارة للمعهد أيضا، طلب مني مساعدتهم في ضمان وصول مجلة التسامح (التفاهم لاحقا) الصادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، ومجلة نزوى الثقافية إلى المعهد، مع إمكانية توفير الإصدارات القديمة للمجلتين، وعند استفساري عن سبب هذا الاهتمام، قيل لي إنهما تحملان فكرًا مستنيرًا وتوجهات حضارية راقية، وتشكلان مصدرًا مهما للثقافة العُمانية، وتحظيان بمتابعة واهتمام بالغ من قبل المراكز العلمية والبحثية، وكذلك من قبل الباحثين والدارسين والمثقفين في مختلف الأقطار العربية، ومن قبل رواد مكتبة المعهد أيضا.
وبعد عودتي مباشرة إلى عُمان، شرفت بزيارة سعادة الدكتور إبراهيم بن أحمد الكندي الرئيس التنفيذي لمؤسسة عُمان للصحافة والنشر والإعلان (حينها)، والذي كان شخصية شابة قمة في التواضع، لديه رؤية إعلامية تجاه كافة الأحداث، مطلعًا على كافة التغيرات المجتمعية، لديه تطلع ورؤية لإيصال مطبوعات مؤسسته لكافة المراكز البحثية والقراء في العالم العربي. وهو أيضا مفكر ومنفتح تجاه التطوير والتحسين المستمر للصحافة، مطبقًا بحرفية سياسة الباب المفتوح؛ حيث تجد باب مكتبة مفتوحًا بصورة دائمة للجميع، فحدثته عن رغبة المعهد في الحصول على أعداد مجلة نزوى، فبادر مشكورا بالموافقة الفورية على ذلك. وفي الموضوع ذاته، قابلت الصديق والأديب والصحفي طالب المعمري مدير مجلة نزوى، الذي يعد أحد أركان مجلة نزوى منذ تأسيسها، إلى جانب رئيس تحريرها الأديب المعروف سيف الرحبي، والذي بذل جهدًا كبيرًا في التعريف بالمجلة وتسويقها على المستويين المحلي والإقليمي والعربي، وقام مشكورًا بتجميع مجموعة كبيرة من دوريات مجلة نزوى على مدى أعوام سابقة، وتكفل بإرسالها وشحنها إلى مقر المعهد في بيروت.
وفيما يتعلق بمجلة «التفاهم»، فهي مجلة فصلية تهتم بترسخ مفاهيم وقيم إسلامية وإنسانية راقية، وتضم بين دفتيها دراسات فكرية لعلماء من شتى بقاع العالم العربي والإسلامي، لها توجه وسطي نحو خطاب إسلامي متوازن، وفي هذا الإطار قابلت أيضًا الدكتور عبدالرحمن بن سليمان السالمي رئيس تحرير مجلة «التفاهم»، وهو من الشخصيات العُمانية المجيدة والمبدعة في مجال عملها، ويعد موسوعة علمية وفكرية في عُمان، يحرص دومًا على إيصال التراث الفكري العُماني، وصوت عُمان الثقافي إلى جميع دول العالم، وقد اتسمت إدارته للمجلة بالتجديد والتطوير والتحسين المستمر مضمونا وشكلا، وعندما بادرته بموضوع طلب المعهد كان مرحبا ومتعاونا إلى ابعد الحدود.
هذا.. وتمتاز منطقة وسط بيروت (داون تاون بيروت، أو السوليدير) بنشاطها الاقتصادي الكبير؛ فهي تنبض بالحياة دومًا، وبالحركة والنشاط طوال اليوم، كمركز مالي وتجاري معروف، وكشعاع ثقافي وفني مبهر، يجمع في مزيج فريد بين عراقة الشرق وأصالته وحداثة الغرب وسحره، فيما يقف مبنى السراي الكبير معلمًا حضاريا شامخا، بهيبته ورمزيته وبروعة مبناه وجمال تصميمه على أحد التلال الصخرية الجميلة في وسط بيروت، كما يعد مسرح قصر البيكاديللي ذاكرة فنية وثقافية عريقة في بيروت المحروسة، وتشكل ساحة النجمة في الأشرفية مقصدًا جاذبًا للسياح، للتمتع بمعالمها الحضارية والعمرانية، وكذلك هي ساحتي رياض الصلح والشهداء أو الحرية، تشكلان أيضا وجهة سياحية مهمة في بيروت، لذاكرتهما التاريخية ومكانتهما الجمالية. وفي ساحة الشهداء ينتصب النصب التذكاري أو تمثال الشهداء بتصميمه الفني البديع، وهي زاخرة بالمطاعم والمقاهي والمحلات التجارية في محيطها المكاني، كذا هو شارع الحمراء قلب بيروت النابض بالحركة والحياة؛ حيث تستقطب مقاهيه ومكتباته ومحلاته التجارية السياح، للتمتع بالمأكولات اللبنانية وأجوائه الصاخبة في الهواء الطلق.
وفي باحة قريبة من جامع مُحمَّد الأمين، المطلة على ساحة الشهداء، دفن الرئيس رفيق الحريري مع حراسه، وإلى فترة قريبة كانت تحيط بقبورهم خيام مظللة، ومكسوة بزهور جميلة، تهدى إليهم بشكل يومي من أقرباء لهم، مع تلاوة مستمرة للقرآن الكريم في محيطهم المكاني، يتم بثها عبر جهاز تسجيلي في تلك الخيام، مع حراسة مشددة للمكان، إلا أنه في زيارتي الأخيرة لبيروت رأيت تلك الخيام غير موجودة، وأصبحت قبورهم وحيدة في المكان، ومكشوفة للعيان بلا زهور أو تلاوة قرآن، فهكذا حال الدنيا لا شيء فيها يبقى بتشكله. ولأكثر من مرة زرت تلك الأمكنة، وصليت في مسجد العمري الكبير، وهو تحفة إسلامية ومعمارية قديمة، تعود لبداية القرن الأول الهجري، وكذلك زرت جامع مُحمَّد الأمين الواسع، المتميز بتصميمه المعماري العثماني القديم، وزخارفه المملوكية البديعة، ومآذنه الأربع المرتفعة، وقبابه الجميلة ذات اللون الأزرق السماوي اللامع.
كما يشكل الطريق البحري أو الكورنيش في بيروت معلمًا حضاريا وسياحيا، يمتد من خليج الزيتونة وحتى الرملة البيضاء، مرورا بعين المريسة، والمنارة، والروشة أو رأس بيروت، والمطل على البحر بزرقته الواسعة ومياهه الفيروزية الصافية، وهو أيضًا ملتقى اجتماعي للأسر والأصدقاء، لممارسة رياضة المشي، وللتأمل في جمال تكويناته وألوانه الأخاذة، كما تبهرك الروشة بروعة صخور الطيور العملاقة، التي نحتتها الطبيعة وسط البحر بأشكال بديعة، لتشكل معلمًا طبيعيا فريدًا، وتضفي جمالًا ساحرًا على مدينة بيروت الغربية، خاصة في وقت الأصيل والغروب؛ حيث تعانق الشمس بأشعتها الذهبية زرقة البحر الخالدة وأمواجه البيضاء اللامعة في جو يأسر الألباب، مفعم بالجمال والهدوء.
فيما يعد جبل لبنان المزدان بالخضرة والعمران القديم نقطة جذب سياحي، ويشكل «تليفريك» خليج جونية روعة وجمالا، بإطلالته الساحرة على أشجار الأرز والصنوبر وصولا إلى حريصا ومزار سيدة لبنان، كذلك هي المدن اللبنانية الأخرى تزهو بمقومات سياحية وتاريخية وطبيعية، كما تمثل مغارة جعيتا بطبقتيها وكهوفها ومداخلها وتكويناتها الصخرية النادرة أحد أسرار الجمال الرباني في لبنان، فتجد فيها تشكيلات واسعة من الصواعد والهوابط والرواسب الكلسية، تتدلى بأشكال فنية رائعة كبلورات فضية، وتزين جدرانها وسطحها الداخلي، إضافة لهدير المياه القوي، وخريرها الموسيقي الجذاب في دهاليزها المخفية، كما أكسب موقعها على ضفاف وادي نهر الكلب ميزة سياحية مهمة.
ومن جانب آخر، فقد زرت لبنان عدة مرات، إبان دراستي الجامعية الأولى، وبعدما أنهيت الجامعة أيضًا، ومن خلال زيارتي وتأملي وقراءتي في تاريخها وحاضرها، تابعت ودرست التحولات التي شهدتها، وعلى الرغم من صغر مساحتها ومحدودية ثرواتها، تبقى دولة قوية وكبيرة بفضل موقعها وإرادة شعبها، حيث تتهافت عليها كل ثقافات وساسة العالم.
ومن الجانب التاريخي للبنان، يقال إن الفينيقيين أو الكنعانيين بنوا حضارتهم هنا، بعد أن هاجروا من عُمان وشبه جزيرة العرب، حيث تؤكد الكثير من المصادر التاريخية وجود علاقة إنسانية قديمة بين عُمان وبلدان بلاد الشام، يقدرها بعض العلماء بأكثر من خمسة آلاف سنة...
كتبه/ صالح بن سليمان الفارسي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.