كان بين الحين والآخر أيضًا يزور قريتنا رجل كبير السن من قرية الوغلة في نفعا بولاية بدبد اسمه المعلم علي بن سيف السيابي -رحمه الله- فكان يقصده البعض لطلب العلاج والرقية، ويزورنا في بيتنا بدعوة من والدي. كان ذلك الرجل يحمل كفنه أينما ذهب، يضعه في الجزء الداخلي من دشداشته من جهة الصدر والبطن، وتجده يزور المقابر في الليل، ويفضل المبيت بالقرب من القبور، خاصة بالقرب من قبر الرجل الصالح ناصر بن مالك القلهاتي على تلة في أطراف المعلاة، بالقرب من طوي النفيسيّة وطوي السدور من جهة الغرب، الذي كان في حياته يسكن طوي المخاشنيّة القريبة من جامع السلطان قابوس حاليا، كان أهل المعلاة يتسابقون على دعوة الوالد
علي بن سيف السيابي -رحمه الله- للمبيت في ضيافتهم أو في أحد المساجد، إلا أنه يفضل العزلة بالقرب من عالم الأموات، فذكر لأحدهم أنه نام يوما في أحد المساجد، ونسي أن يعزم أو يحوط على نفسه، فإذا برجلين من عالم آخر -دون أن يراهم- يجرونه إلى خارج المسجد، فعاهد نفسه بعدم النوم في المساجد مرة أخرى، كان رجلا متدينا وطيبا ومتواضعا وخدوما.
هذا.. وإذا ما تعذرت سبل العلاج في قُريَّات، سواء كان ذلك بالعلاج الشعبي، أو عبر العيادة الصحية الصغيرة، التي أفتتحت في نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم بالقرب من الحصن القديم، كان المرجع الصحي الوحيد في عُمان هو مستشفى الإرسالية العربية الأمريكية في مدينة مطرح، المعروف بمستشفى «طومس» - أو «تومس»- نسبة لاسم الطبيب المشرف على ذلك المستشفى، أو مستشفى الرحمة لاحقًا، وله أهداف خفية وظاهرة، وهو التبشير بالنصرانية أو المسيحية، فكان في أحد مرافق المستشفى كنيسة نصرانية، كانت هناك أيضًا بجانب مستشفى «طومس» مروحة هوائية ضخمة تزين المكان، تستخدم لرفع المياه من البئر، وقد أدى مستشفى «طومس» دورا مهما في التخفيف عن آلام الناس، وفقا للإمكانات المتاحة أمامه بمقياس ذلك الزمن.
وهناك أيضًا عيادة أخرى تعرف بـ«مستشفى السعادة» للولادة في مدينة مسقط، وأخرى تسمى مستشفى «ولجات» - أو «مغب»- قريبة من قصر العلم في مسقط، وللأسف قد تم إزالة مبنى مستشفى الرحمة في مطرح قبل سنوات، ومحيت ذاكرته من الوجود، وهو مبنى قديم وواسع، له تفاصيل جميلة في الذاكرة الصحية في عُمان.
كان الوصول إلى مستشفى «طومس» بمثابة سفر طويل، فقبل ظهور السيارات كان الوصول إليه بالدواب كالإبل والحمير، أو عبر البحر بالهواري والبدانة. يخبرني أحد كبار السن من سكان بلدة السمير، قائلا: كانت وسيلة تنقلاتنا في ذلك الزمن من مكان لآخر بالمشي، أو استخدام الدواب الرّاحلة كالإبل والحمير، وذات يوم كانت زوجتي حاملًا، فشعرت بآلام المخاض والولادة، وطال ألمها وتعسرت ولادتها، فحملتها على مطية بغية علاجها في مستشفى «طومس» بولاية مطرح.. كان الوصول إلى مطرح يتطلب يومًا كاملًا، وهي مسافة أقل من سبعين كيلومترًا، وأنا أرى زوجتي بتلك الصورة من الألم، كان قلبي يتحسر ألمًا وحزنًا، وما إن وصلت وادي عدي وإذا بالمرأة تلفظ أنفاسها الأخيرة، ومات الولد في بطنها، ففقدت الزوجة والولد معًا، فواريتهما التراب في وادي عدي، وعدت بحزني وألمي، متحسرا على الوضع الذي كنا نعيشه.
هذا.. وبعد ظهور السيارات في قُريَّات، كان التنقل بها أيضًا صعبا وشاقا، بسبب وعورة الطرق، فكان الوصول إلى مستشفى «طومس» يحتاج إلى ساعات طويلة، وقد يتخلل الرحلة إلى مدينتي مطرح ومسقط توقفات عديدة في الطريق لإصلاح السيارة، يذكر لي أحد كبار السن من قرية المعلاة، قائلا: مرضت امرأة من أهلنا، كان مرضها شديدا، فقمنا بإسعافها إلى مستشفى الرحمة في مطرح، فأخذنا سيارة ذات الدفع الرباعي مزدحمة الركاب، فعبرت بنا طريق وادي مجلاص القديم، وتوقفنا عدة مرات لإصلاح تلك السيارة، فتأخرنا في إسعافها بسبب وعورة الطريق، وما أن وصلنا أمام الطبيب وإذا بالمرأة تلفظ أنفاسها الأخيرة وتموت بين يدي الطبيب، بسبب تأثير المرض وشدة الألم وتعب السفر بالسيارة، فقررنا دفنها في مطرح لصعوبة العودة بجثمانها، لمشقة الطريق أيضًا وطول مدة السفر.
وعودة إلى سرد الذاكرة.. كثيرًا ما كنا نتردد على هذه العيادات الطبية في مطرح ومسقط، وحينها كانت السيارات التي تقلنا من قُريَّات إلى مدينتي مطرح ومسقط تسلك الطريق القديم، وكان ترابيا ووعرًا ومرهقًا، ويمر عبر وادي مجلاص، وصولا إلى المخاضة والسواقم، ثم السليل وجحلوت فحاجر الخفيجي، ثم بلدان سيح حطاط وصولًا إلى وادي عدي، ثم مطرح فمسقط عبر عقبة ريام، وكان طريق وادي مجلاص لا تسلكه إلا السيارات ذات الدفع الرباعي، التي ظهرت في قُريَّات منذ بداية عقد الستينيات من القرن المنصرم، وكانت هناك نقاط استراحة على هذا الطريق في المخاضة والسواقم والحاجر، حيث كانت المياه تتدفق في جداولها.
كتبه/ صالح بن سليمان الفارسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.