مِنْ ذكريات السفر: في أواخر الثمانينيات، أو
بداية التسعينيات، تطلَّب سفري إلى بيروت لإنهاء مُتطلبات المرحلة الجامعية الأولى.
بيروت لها قِصَّة لا تُنسى، هُناك حيث الفكر والوجدان مُتعلق بروح أخي الأكبر،
الذي وافتهُ المنيَّة شهيدًا في 22 أكتوبر 1977م، وهو على رأس عمله بسفارة السلطنة
في بيروت.
أخي الذي حَمَل رُوحَه من أجل رِفعة وطن مُنذ
بداية نهضة عُمان؛ حيث كان جنديًّا وضابطًا في صُفوف قوات السلطان المسلحة، وناضَل
ببَسَالة مع إخوانه في حرب ظفار للذَّود عن حياض الوطن، وكان لهم النصر المؤزَّر
في نهاية 1975م بفضل قيادتنا الحكيمة، وهو شرفٌ عظيم ووسامُ شرف، نباهِي به هامات
الرجال.
كانتْ رحلتي إلى بيروت على مَتْن "طيران
الخليج"، كان للسلطنة حينها حصة في هذه الشركة، ضمن عدد من دُول الخليج
العربي، وفي رحلة العودة إلى مسقط تطلب وقوفنا في البحرين ودبي، كان مقعدي خلف
كابينة رُكَّاب الدرجة الأولى، وجلس بجانبِي أحد الأخوة من سوريا الشقيقة، طَوَال
فترة الرحلة من بيروت إلى المنامة في حديث عن الشام، وظرُوف الحياة، وأوضاع الأمة.
نَزَلت الطائرة بسلام في مطار البحرين، قِيل لنا
بأن نبقَى في الطائرة لما يُقَارب السَّاعة حتى يتسنى دُخُول رُكَّاب جدد. استأذنتْ
طاقم الطائرة للنزول لبعض دقائق لأداء صلاة المغرب، وهي فُرصَة للتعرف على حَرَكة
مطار البحرين أيضا، فإنني شغوف دائمًا بالتمعن في تفاصيل المكان، وتَدْوِين ذلك في
ذاكرة الزمان، كصُورةٍ مرسُومة في محطات الحياة.
تمَّ السماح لنا في ذلك ولدقائق محدُودة، وبالفعل
التزمنا بالموعد المحدد،، وأثناء صعودي للطائرة، تبيَّن لي أن المقعد الذي كان مُحدَّدًا
رقمه لي مُنذ بداية الرحلة في بيروت، قد شَغَله أحدُ الأخوة من دولة خليجية قريبة
من البحرين، الشَّخص ملامحُه شاب، ولا يكبرني سنًّا.
لزَمتُ الصَّمت دُون أي ردة فعل، وجال في ذهني
مقولة أحد القيادات العُمانية المخلصة في بناء الوطن، عندما عَلِم بأنَّ هُناك من
شركات الطيران تعمل على إحراج بعض العُمانيين في تقديم غيرهم عليهم في بعض
الرحلات، حتَّى الأمر قد يَصِل إلى إلغاء سفر أحدهم من أجل عيون شخصية معروفة،
وقال عبارته الشهيرة: "مقعد الطائرة عندما يَحْجِز عليه العُماني، ويدفع قيمة
تذكرته، هو ملكه حتى وُصُوله إلى رحلته، ولا يُمكن لأي كان مهما كانت مكانته أن
يعطل هذا المبدأ التجاري والإنساني".
نَظَرتُ إلى رفيقي الذي لازم رحلتي من بيروت، رأيتُ
ملامح وجهِه مُتغيِّرة، وعيونه يطلع منها الشرار، وكذا باقي الركاب القريبين من
المقعد الذي كُنت أجلس عليه. تحدَّثت مع أحد أفراد طاقم الطائرة عن سبب هذا
التغيير، قال لي: "يا أخي، رقم المقعد تمَّ تخصيصه لهذا الشخص، ويُمكنك
الجلوس في مقعد بالخلف"، وكانت حينها تلك المقاعد الخلفية تُخصَّص للمدخنين.
قُلت: يا أخي، أنا أولا مُنذ بداية هذه الرحلة، حُدِّد
لي رقم هذا المقعد مُنذ بداية انطلاقة رحلة هذه الطائرة من بيروت وحتى نهايتها في
مسقط، ثانيا: إذا أردتم شغر هذا المقعد لشخص آخر، كان ينبغي أخذ رأي صاحبه، أو
تحديد مقعد يُناسبني، ثالثا: أنا ليس لي الرغبة في الجلوس مع المدخنين لبعض
الظرُوف.
حاول طاقم الضيافة إقناعي، مُبرِّرين أن المقاعد
واحدة، والذي جالس في مقعدك شخصية معروفة، من الصعب أن يتم تغيير مقعده، قلت: إذا
ترون أنَّ المقاعد واحدة، فأنا أرى أنَّ مقاعد الدرجة الأولى لم يَحْجِز عليها
أحد، وأرى تَخْصِيص مقعد لي ضِمن هذه المقاعد، وهي رحلة قصيرة من البحرين إلى مسقط.
تَبَادل الطاقم النظرات. وبالفعل، أخذتُ نفسي
وجلست في مقاعد الدرجة الأولى، جاء أحدُ أفراد الطاقم لتقديم خدمة ركاب الدرجة
الأولى، وجدتها خدمات راقية، فوطه ساخنة وأخرى باردة لتدليك أصابع يدك.
مرَّ مسؤول طاقم الضيافة في الطائرة من أجل التأكد
من اكتمال كل الركاب؛ فاستغرب جلوسي في مقاعد الدرجة الأولى، سألني عن بطاقة صُعُود
الطائرة، قدَّمت البطاقة له، نَظَر إلى البطاقة وتمعَّن فيها ونظره على وجهي،
قائلا: لو سمحت يا أخي، هذه مقاعد الدرجة الأولى، وحجزك على الدرجة السياحية!
قُلت له: هذا الكلام صحيح، وشرحتُ له القِصَّة.
حاول هو أيضًا إقناعي، ما فيه فائدة. والطيار ينادي قد تأخَّرنا عن موعد الإقلاع،
مُستفسِرا عن الأمر. ذهبوا له، وأكد أن الحق مع العُماني، وأنه يجب أن يعود إلى
مقعده.
ومَا إن عُدت إلى مقعدي، وإذا بالركاب يُصفِّقون
لي، سألت رفيق السفر ما الأمر؟ قال: يا أخي، قبل صُعودك الطائرة، حاولوا أن نخلي
المقاعد الأمامية من أجل المُرافقين للجالس في مِقعدك، وقد انفعلتُ كثيرا، رافضًا
هذا التصرُّف.. بعدها، أقلعتْ الطائرة في طريقها إلى مسقط العامرة، ووصلنا والحمد
لله بسلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.