في العشرينيات من القرن الماضي، قَدِم إلى عُمان
الشيخ سليمان بن عبدالله بن يحيى الباروني، المعروف بسليمان باشا الباروني، وهو
أحد قادة الفكر والسياسة في العالم العربي، ينتمي إلى القطر الليبي الشقيق.
وقد استقبله أهل عُمان -حُكُومة وشعبا- بحفاوة
وتكريم وتقدير، وله مواقف طيبة تجاه تقديم بعض المُقترحات التطويرية في الجوانب
الإدارية والتنموية في ذلك الوقت.
هَذِه الشخصية -ومُنذ فترة مُبكرة- أزعجته مسألة
تشتت الأمة الإسلامية والعربية، وتفرُّقها إلى مذاهب، والذي كان سببًا في ضعفها
واختلافها المُستمر، وعمل جاهدا على وحدتها، وكانت له في هذا المجال مراسلات مع
العلامة الشيخ عبدالله بن حميد السالمي؛ حيث وجَّه له عدة أسئلة في سؤال واحد،
وكان ذلك في العام 1326هـ، قال فيه:
هَل تُوَافِقون على أنَّ من أقوى أسباب اختلاف
المسلمين تعدد المذاهب وتباينها؟ على فرض عدم الموافقة على ذلك، فما هو الأمر
الآخر الموجِب للتفرق؟ على فرض الموافقة، فهل يُمكن توحيدها بالجمع بين أقوالها
المتباينة، وإلغاء التعدُّد في هذا الزمن الذي نحن أحوج فيه إلى الاتحاد من كل
شيء؟ وعلى فرض عدم إمكان التوحيد، فما الأمر القوي المانع منه في نظركم؟ وهل
لإزالته من وجه؟ على فرض إمكان التوحيد، فأي طريق يُسهل الحُصُول على النتيجة
المطلوبة؟ وأي بلد يليق فيه إبراز هذا الأمر؟ وفي كم سنة ينتج؟ وكم يلزم من المال
تقريباً؟ وكيف يكُون ترتيب العمل فيه؟ وعلى كلِّ حال، فما الحكم في الساعي لهذا
الأمر شرعاً وسياسة؟ مُصلح أم مفسد؟
فكَان جوابُ الشيخ السالمي كما يَلِي: نعم، نُوافق
على أن منشأ التشتيت اختلاف المذاهب وتشعب الآراء، وهو السبب الأعظم في افتراق
الأمة على حسب ما اقتضاه نظركم الواسع. وللتفرُّق أسباب أخرى؛ منها: التحاسد
والتباغض، والتكالُب على الحظوظ العاجلة، ومنها طلب الرئاسة.
جَمْع الأمَّة على الفطرة الإسلامية بعد تشعُّب
الخلاف مُمكن عقلاً، مُستحيل عادةً، وإذا أراد الله أمراً كان "لو أنفقت ما
في الأرض جميعًا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم".
والساعي في الجمع مُصلِح لا محالة، وأقرب الطرق له أنْ يدعو الناس إلى ترك الألقاب
المذهبية، ويحضُّهم على التسمي بالإسلام "إن الدين عند الله الإسلام"،
فإذا أجاب الناس إلى هذه الخصلة العظيمة ذهبتْ عنهم العصبية المذهبية ولو بعد حين؛
فيبقى المرء يلتمس الحق لنفسه، ويكون الحق أولاً عند آحاد من الرجال، ثم يفشو
شيئاً فشيئاً حتى يرجع إلى الفطرة.
وهِي دِعَاية الإسلام التي بُعِث بها مُحمَّد -عليه
الصلاة والسلام- وتضمحلُّ البدع شيئاً فشيئاً، فيصير الناس إخواناً "ومن ضل
فإنما يضل عليها"، ولو أجاب الملوك والأمراء إلى ذلك لأسرع الناس في قبوله،
وكفيتم مئونة المغرم، وإن تعذر هذا من الملوك فالأمر عسير والمغرم كثير.
وأوْفَق البلاد لهذه الدعوة مَهْبَط الوحي ومُتردَّد
الملائكة، ومقصد الخاص والعام، حرم الله الآمن؛ لأنه مرجع الجميع.
ولَيْس لنا مذهب إلا الإسلام؛ فمِن ثمَّ تجدُنا
نقبل الحق ممن جاء به وإن كان بغيضاً، ونرد الباطل على من جاء به وإن كان حبيباً،
ونعرف الرجال بالحق؛ فالكبير عندنا من وافقه والصغير من خالفه، ولم يشرع لنا ابن
إباض مذهباً، وإنما نسبنا إليه لضرُورة التمييز حين ذهب كل فريق إلى طريق.
هَكَذا كان ردُّ الشيخ السالمي العُماني من أقصى
المشرق العربي على نظيره الباروني في أقصى المغرب العربي، كَمْ نحنُ بحاجة الآن
إلى مثل هذا الفكر المستنير في ظلِّ ما يشهده العالم الإسلامي والعربي من تراجع
كبير في مجال التسامح والتفاهم وتقبل الآخر، وانتشار الكراهية والحقد بين أبناء
الأمة؛ الأمر الذي أتاح لأعداء الأمة الفُرصة للتوغل في مقدرات الشعُوب المادية والفكرية،
والتأثير في توجهاتها المُستقبلية، بصُورة جعلت منها مُجتمعات ضعيفة ومترهلة
وتابعة، معتمدة على غيرها في صناعة مُستقبل أجيالها، مُتَّخِذة من نشر الغلو
والتشدد والاختلاف مسارًا لشغل أفكار الشباب وهدر طاقاته ووقته الثمين؛ وذلك بحِجج
في ظاهرها الإصلاح والتعمير، وفي باطنها التخريب والتدمير.
لِهَذا، مِنَ المُهم جدًّا أن ينتبه العُلماء
والمُفكرون والمُثقفون لهذا الأمر، والعمل على مُعالجة هذه المشكلات والتحديات، بحكمةٍ،
ورؤيةٍ، واقعيةٍ.