شخصياتٌ طَوَاها الزَّمان لا تغيبُ عن الذاكرة..
في ذكرى الوالد سليمان بن خميس البلوشي - رحمه الله..
اعتدتُ مُمارسة رياضة المشي، لمسافة تمتد ما بين بيتي وسيف البحر، فالمشي يتيح لك التأمل واستعادة ذكريات المكان، وفي الوقت ذاته قد تلتقي صُدفة بأصدقاء باعدتْ بينكم الأيام وصُروف الحياة، فتستعيد معهم ظروف الزمان والذكريات.
تُشكِّل الجنين محطة استراحة لي، لتوسُّطها تلك المسافة التي أمشيها، وبين أسبوع وآخر لا بد لي من زيارة المسجد الشمالي في الجنين، وأحد أسباب زيارتي لذلك المسجد إلى جانب تأدية واجب الصلاة، هو لقيا الوالد سليمان بن خميس البلوشي، والسلام عليه وعلى أصدقاء له، لم تغيِّرهم ظروف الأيام وصروف الدهر؛ من بينهم: علي البلوشي، ومُحمَّد الجلنداني، وجمعة الصخبوري، وسعيد السيابي.. وغيرهم.
هم جميعًا على قلب واحد، بصدق ووفاء في السراء والضراء، تجمعهم علاقة أخوة وصداقة ممتدة، وبعد أنْ كُفَّ نظر الوالد سليمان -رحمه الله- كان الوالد علي بن سليم البلوشي خيرَ الأخ والصديق، ونِعْم القرين والمعين له في حركاته ومشاويره، فحركتهما معا في كل الأوقات.
تَربُطني بالوالد سليمان -رحمه الله- ذكريات طفولتي الأولى، بحكم علاقة أسرية وجيرة قديمة، لهذا ما إنْ يسمع صوتي حتى يُرحِّب بي، مناديا: "أهلا صُويلح ولدي"، هكذا كان يُحب أن يُناديني تمليحًا وتحبُّبا، مع ابتسامة تريح القلب وتسعد المشاعر، ذات مرة قال لي: "يا صالح، أنت بمقام أحد أبنائي وقريب إلى نفسي، لهذا أُنَادِيك بصويلح"؛ فكانت تلك الكلمة بمثابة وسام محبة على صدري من إنسان عزيز على قلبي.
كان -رحمه الله- على صدر المجلس الصباحي والمسائي المجاور لبيته، تُظلهم أغصان شجرة شريش مُعمِّرة، خضراء وارفة الظلال، تلك الشجرة بمثابة ذاكرة العمر والأيام، تهب عليها هبوب الكوس وريح الشمالي المنعشة، يفترش هو وأصدقاء العمر الأرض ورمال الجنين الفضية الناعمة، التي تسري فيها برودة الأرض ونسيمها، وتتميز بسعة المكان، مُحمَّلة تلك الجلسة بصدق المشاعر وحسن التعامل، مقرونة برحابة الصدر وطيب الكلام.
تدُور القهوة بينهم بتواضع، وسط حديث لا يمل، تسمع حكايات الصيرة، وقصص البحر وخيراته، وذكريات حصاة أو قلعة برامة، وتستعيد أيام البدانة والهواري والغدافة، وخواضة البرية، والصيد بالتدوير والضغوة والناصول والزانة، وتتذكر شماصة وطراقة ووشاعة الليوخ بخيوط البج تحت غافة الخروس، وتستعيد ذكريات مراخي الهضيب والعيدان والمطلع، ومراخي الغضنة والظهر والجنور والرثلة والغبة، هكذا كان -رحمه الله- عَاشِقًا للبحر وجماله.
وما إنْ يَحِيْن وقتُ الصلاة تَجِده مهرولًا إلى المسجد بقلب خاشع ومطمئن، لا تفوته صلاة في المسجد رغم ظروفه وضعف بصره، تَجِدهُ في زاويته الشمالية من المسجد مُتأمِّلا، مُسبِّحا ذاكرا لله، إلى أن تُقام الصلاة، تُزيِّن يده الكريمة تلك السبحة الجميلة، بخرزاتها الخضراء اللامعة، وما إن تنتهي الصلاة حتى يضع يده على كتف صديق عمره علي بن سليم البلوشي في مشهد أخوي وإنساني عظيم، ليعودا معا إلى البيت، أو إلى مجلس الشريشة من جديد.
كان -رحمه الله- كريمًا مِضْيَافا مُحِبًّا للجميع، عطوفا على كل من قصده وطلب مشورته، لا تفارقه الابتسامة والضحكة حتى في أوقات مرضه. ذات مرة أهديتُه نسخة من كتاب "قريَّات.. ملامح من التراث الزراعي والبحري"، فعِندَما وضعته بين يديه الكريمة، وشرحت له ما يحتويه الكتاب، ضمَّه إلى صدره مع ابتسامة لا تخلو من فرح وألم، وقال لي: "ولدي صالح ذهب البصر، أنا الآن ما أشوف"، قلت له: "لا تقل هذا، ستبقَى بصيرتك دائمة لا تنتهي بإذن الله"، ابتسمَ ورَبَت على كتفي بيد كلها حنية ومحبة وتشجيع، قال عندها: "سأعطي هذا الكتاب لأحد الأولاد ليقرؤوه".
منذ أيام، مررتُ بمجلس شجرة الشريشة، فلم تَعُد تلك الابتسامات والضحكات قائمة كما كانت، مررتُ بمسجد الشمالي فنظرتُ إلى تلك الزاوية المفضَّلة لجلوسه وتأملاته، فتذكرتُ حينها ذاك الرجل الطيب، الذي عاش في هدوء وتواضع مُعتَمِدًا على ذاته، ورحل أيضًا عن الدنيا في صمتٍ وهدوءٍ بلا ضجيج، بينما ذِكرياته الطيبة لا تزال عالقة في ذاكرة المكان والأذهان، ومحفُورة في حنايا القلوب والوجدان، مهما تباعدتْ الأيام، وتزاحمتْ الأحداث، وتغيَّرت الأزمان.. نسألُ الله له الرحمة وفسيح الجنان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.