المقطعُ الصوتيُّ المُرفق هو تلاوةٌ مباركة من آيات الله العزيز الحكيم، بصَوْت شيخنا ومعلمنا عبدالله بن سالم اللزامي -رحمه الله تعالى- يعود تاريخه إلى ما قبل ثلاثين عاما تقريبا.
أدركتُه -رحمه الله- في مراحل تعليمنا الأولى -بمدرسة راشد بن الوليد- مُعلِّمًا فذًّا وفيًّا متمكنًا، ومربيًا ومؤدبًا وقدوةً مخلصًا فاضلًا متميزًا، فارتقى سنامَ مهنة التعليم وواجباتها ومبادئها وقيمها بجدارة، وهي مهنة شريفة ورسالتها عظيمة، تَعَاطى معها -رحمه الله- بحبٍّ والتزام، وبتفانٍ واقتدار، إلى جانب نُخبة وفيَّة من أبناء الولاية الكرام.
قَرَن تعليمَه النظريَّ بالتطبيقِ العمليِّ، خاصة فيما يتعلق بغرس الأخلاق الحميدة، والقيم العُمانية والإنسانية الرفيعة، وأداء واجبات العبادات الدينية، كالصلاة... وغيرها من عبادات.
ومنَ الأمور التي عايشتها لهذه الشخصية العزيزة على قلوبنا أيضًا، عندما كان مُدرِّسا: اهتمامه الشديد بالكتاب والقراءة وريادة المكتبة، وتشجيع الطلاب والشباب على ذلك، وكانت لديه -رحمه الله- طرائق راقية ومحفِّزة للوصول إلى هذا الهدف؛ فعندما آلتْ إليه مسؤوليَّة الإشراف على مَكتبة المدرسة، كان -رحمه الله- يحثُّ طلابَه على كتابة مُلخصٍّ عن كلِّ كتاب قرأناه، وكان يُحفِّزنا ببعض الهدايا من جيبه الخاص، وهذا المنهج المُتقدِّم، والتوجُّه الراقي له أثرُه إيجابي على الارتقاء بقيمة القراءة، وأهمية الاطلاع في نفوس الطلاب ووجدانهم ورُقِي فكرهم، إضافة لتعزيزِ تحصيلهم العلميِّ، كما يُساعد على ربط مُكوِّنات ومُحتوى المنهج المدرسيِّ بمعارف المكتبة الواسعة؛ الأمر الذي يُسهِم بجلاء في زيادةِ البناءِ المعرفي، والاتساعِ الإدراكي للطلاب.
هذا الاهتمامُ بالكتاب تَوَاصل معه طوال عمره -رحمة الله عليه- حتى عندما تزُور مجلسَه العلمي والاجتماعي ترى الكتاب جليسه ورفيقه، وكثيرًا ما يطلبُ من أحد الشباب القراءة، ويتولَّى هو الشرح والإجابة عن الأسئلة والاستفسارات. وفي ذلك رُؤية طيبة، ورسالة راقية، وأهداف نبيلة: نفسيًّا، وعقليًّا، وعلميًّا، ومعرفيًّا، واجتماعيًّا وإنسانيًّا. وفي هذا الإطار أيضًا، كانت له -رحمه الله- جهودٌ مُخلصة ومُقدَّرة ومُثمرة في تأسيس مكتبة قريات الثقافية العامة.
كما كان -رحمه الله- مهتمًّا باللغة العربية وعلومها وآدابها، خاصَّة علم النَّحو والصرف، وله في ذلك حلقات علم وتدريس في جامع السلطان قابوس بولاية قريات، عندما عُيِّن إماما له وخطيبًا للجمعة؛ فكان عطاؤه جزيلًا وواسعًا.
وكان -رحمه الله- في حلقاتِ التلاوة شَرِح النَّفس واسعَ البال في توجيه وتصحيح من يُخطئ في القراءة أو التلاوة أو التجويد.. لا يُشعِرك بأي حَرَج أو مَلَل أو تذمُّر، مهما احتاج من وقتٍ للتعليم وتصحيحِ المسار، حتى يُتقِنَ القارئ أحكامَ التلاوة وتجويدها.
ذاتَ يومٍ، اعترضَ أحدُهم على أسلوبه هذا؛ حيث كان يُصحِّح لشاب كَثرة أخطاء التلاوة، مُبديًا تذمُّرِه بأنَّ هذا الأسلوب يُضيِّع فرصة التلاوة على مَن في الحلقة، كُنتُ أنظر إلى وجه الشيخ اللزامي الكريم، فكانتْ مَلامح وجهه وصَمته ونَظَراته خيرَ جواب على ذلك المُعتَرِض، دون أن يُعلِّق عليه بكلام.
كان -رحمه الله- صبورًا على كلِّ من كان يتعلَّم في مدرسته ومجلسه العلمي، مهما كان مُستواه وعُمره واتِّساع إدراكه وفهمه، عنده سِعة بال وصَبر وَاسِع على من كان فهمُه بطيئًا حتى يَفهَم ويَستوعِب، طريقتُه في التدريس تتَّسم دومًا بالهدوء والسكينة وسِعَة الأفق، مَقرُونة بأسلوب التَّرغِيب والتَّشجِيع، والتَّحفِيز وإِثَارة الدَّوافع، وكذلك بالنُّصح والوَعظ والإرشَاد، وبالمدَاومَة والتَّكرَار والمُتابعَة، همُّه في ذلك بناء شخصيَّة الإنسان الصَّالح، القادر على العمل الجاد والأداء المتميز.
كان -رحمه الله- مُتواضعًا في قوله وتعامله، راقيًا في سلوكه وأفعاله، كان حليمًا كريمًا مُحِبًّا للجميع، مُفعَمًا بالنشاط والحيوية، لطيفَ المعشر والمحيَّا، يستقبلُك بصدرٍ رَحب، وابتسامةٍ صافية، ووجهٍ طلقٍ بشوش، مهما كانت ظرُوفه وأحوالُه، يحبُّ الخيرَ لكل الناس؛ لهذا نالَ احترامهم وتقديرهم. وعلى الرَّغم من اتِّساع علمه ومعارفه لا يتردَّد أن يحضر الدروس، التي كان يُلقِيها بعضُ طلابه، فتجدُه مستمعًا مع الحاضرين بتواضعِه الجم، وكأنَّه طالبُ علم ومعرفة.
له مَوَاقف عظيمَة في مُعَالجة الكثير من القضايا: الاجتماعيَّة، والفقهيَّة والإنسانيَّة.. تجد حكمته سبَّاقة في إنهاء ما يُعكِّر صفو النفوس، ومن بين هذه المواقف: كُنَّا نحتفلُ بمُناسبة دينية في الجامع -قد تكون مُناسبة الإسراء والمعراج- وضِمن فقرات هذه الاحتفالية انبرَى من الحضور شخصيَّة تربويَّة من دولةٍ عربيةٍ، كان يعملُ في الحقلِ التعليميِّ في الولاية، فطلب أنْ يُشَارك بكلمةٍ أو مُحَاضَرة في المناسبة، ففُتِح له مَجال المشاركة بترحيبٍ وتقدير، فتحدَّث وأسهبَ الرجلُ في الحديث عن أمرٍ فقهيٍّ، فيه من الآراء المُختلفة بين علماء المدارس الإسلامية، فإذَا بأحد الشباب ينهَض مُعتَرِضًا على أسلوب وفكر وتوجُّه ذاكَ المتحدِّث، فأسهبَ في حديثٍ تداخلتْ فيه الآراء بين الحضور، عِندَهَا تجلَّت حكمة الشيخ اللزامي بهدوئه المعهود، فطلَب وقرَّر إنهاءَ الحفل، دُون أي تأنيب أو تَوبيخ، أو رأي فيما دار في الجلسة، فعلمتُ بعدَها أنَّ الحكمةَ أنهَتْ الاختلافَ وهدَّأت النفوس.
مِن بَيْن مواقف تواضعه الطيبة، ومعانِي إنسانيته الرَّاقية: سمعتُه يومًا يتحدَّث إلى المُصلِّين إنْ كانت لديهم ملاحظات على صَلَاتِه بهم، يَسألهم: هل يُطيل القراءة في الصلاة عندما يكُون إمامًا؟! قِمَّة في التواضع والاحترام والتقدير، وأسلوب رَاقٍ في المشاركة واحترام الرأي الآخر، على الرَّغم من علمهِ الرَّفيع في مُختلف العلوم، ومَكَانته الاجتماعيَّة المُقدَّرة.
كُنتُ أعرضُ عليه ما أكتبه، فكانَ خيرَ مُعِين ومُحفِّز في كل خير، وعِندما كُنت رئيسًا للجنةِ الثقافية والفنية بالنادي، كان -رحمه الله- خيرَ داعمٍ ومُحفِّز للشباب، ولأنشطة النادي الثقافيَّة والدينيَّة، خاصَّة في مجال المُحاضرات والندوات التثقيفيَّة والتوعويَّة، وإقامة المُسابقات الثقافيَّة والدينيَّة، وكذلك مُسابقة حفظ القرآن الكريم، التي عَنِي بها النادي، كأوَّل مُسَابقة في تاريخه على مُستوى الولاية، ضِمن توجُّه النادي ورُؤيته ورِسَالته وأهدافه، ليكُون حَاضِنًا لمختلفِ شرائح المجتمع، وبيتًا مفتوحًا، يتَّسع الجميع.
قبل أشهر من وفاتِه -طيَّب الله ثراه- زُرته في مَجلسه العامِر دومًا بالخيِّرين، فخَصَّني -رحمه الله- بجلسةٍ مُنفردةٍ، أو خلوةٍ خاصَّة، في غُرفة بجانب ومُقابل مجلسه في منزله، كان يخلُو فيها للدرس والمُراجعة والتأمُّل والعبادة، فحدَّثنِي عن أمرٍ كان يشغل باله، فكان حديثَ الأب إلى ولده بمحبَّة وفخر، والتلميذ إلى مُعلِّمه بوفاء وتقدير واعتزاز واحترام.. وكأنَّه كان حديثَ ولقاءَ الوداع!!!
صالح بن سليمان بن سالم الفارسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.