بَدَأ الصَّيف يزحف بخيراته، وأصبح لاهوب الغربي
يعصف بحرارته المتصاعدة، إلا أن تلك الواهيب يتبعها خير وفير؛ فلولاها ما ذُقنا
حبة رطب، تلك حكمة ربانية، وعلينا أن نتأقلم مع متغيرات الطبيعة؛ ففيها الخير
دائما.
زَمان، كان الأمر أصعَب، فيما نحن اليوم ننعم
بنعمة الكهرباء والمكيفات الباردة في كل مكان، ووسائل النقل أصبحتْ مُرِيحة أيضا،
جيلٌ ينعم بخيرات ورفاهية لم تعهد الأجيال السابقة الرُّبع منها.
وعَلى الرغم من هذا العيش الرغيد، إلا أنَّ الكثير
يحن إلى أيام زمان، أيام مياه الجحلة الباردة، ومياه الخرس والحب الزلال، أيام
الانغماس في مياه الطوي أو الفلج؛ حيث الشعور بطبيعة المياه وبرودتها، أيام الرقاط
وطلوع النخيل. أيَّام حبل الطلوع والميراد والمخلاه والقفير والزبيل والمخرافة
والجراب أو الظرف، أيَّام السفة وقلادة الحبال وخياطة الظرُوف بالمسلة والسرد، أيَّام
العساوة ولعبة طلوع النخيل ودوامة الخلال، أيَّام العريش والسجم والمسطاح، أيَّام
الهمبارة والزفانة.
فِي مثل هذه الأيام، يستعدُّ أهل الساحل للانتقال
من مساكنهم الأصلية، إلى حيث ظلال النخيل وأشجار اللمبا والفُرصاد والزيتون
والنبق، ويطلق على الذين يفدون لموسم القيظ بالحُضَّار أو الحضور، فيما يستقبلهم أصحاب
المزارع والفلاحون -والذين يطلق عليهم الحضر- بترحاب كبير، ويفتحون لهم مزارعهم
لإقامة مساكنهم المؤقتة (العرشان)، ويفرشون الأرض بمساطيحهم، دُون أي تذمُّر أو
أجر من المال.
مَوْسم القيظ مليء بالتقاليد والعادات الكثيرة؛ وأهمها:
تلك القناعة والصفاوة بين الناس، الجميع مستفيد من هذا الموسم، والجميع أيضًا يعمل
حتى الأطفال والنساء، حتى الفقير الذي لا يملك شيئًا من النخيل تكفيه الهدايا
والصدقات، والمَزَارع مفتوحة له على مصراعيها دُون وُجُود أي سياج أو شبك، الجميع
له الحق في أن يرقط (يلتقط) ما يتساقط من النخيل؛ سواءً كانت الثمار خلالا، أو
بسرا، أو رُطبا، أو سِحا.
هُناك أيضًا عادة طِناء النخيل، وهي عادة في
طريقها للانقراض، تتجلى فيها قيمة الاقتصاد الاجتماعي؛ بحيث يُتاح لجميع سُكان
القرية شراء ثمار النخيل بأسعار عادلة، هُناك عادات الجداد والخرافة والتبسيل
والكناز وزفانة الدعون وتبادل الهدايا وتسميها النساء بالسهايم، عادات تتجلى فيها
قِمَّة التعاوُن بين الناس، وأسمى أهداف مُؤسسات المُجتمع المدني بمفهُوم ذلك
الزمان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.