الإنسان في هذه الحياة تمرُّ عليه مواقف وشخصيات
عابرة، يتعلَّم منها الكثير، وتبقى عالقة في ذاكرته، خاصة إذا كانت تلك الشخصيات
تتَّسم بشيء من التميُّز في جانب من جوانب الشخصية الإنسانية، وتحمل خصلة حميدة من
خصال قيمنا الرفيعة.
كَمَا تعدُّ الحياة المدرسية في جميع مراحلها مَحطة
مُهمة من محطات حياة الإنسان، لا يعرف قيمتها وأهميتها وجمالها إلا بعد ما يأخذه مُعترك
الحياة في دواماتها اليومية ومحطاتها المتراكمة والمُتتالية.
لهذا؛ تجدُ للحياة المدرسية والجامعية ذكرى طيبة
في النفوس، ولها أيضًا ذكرٌ على الألسن متى ما عادت ذكرياتها بين الأصدقاء
والزملاء عند اللقاء.
قَبْل أيَّام، استمعتُ في مجلس أخوي إلى حُوار
الذكريات بين جيلين، جمعتهما مهنة سامية كمعلمين في قطاع التربية والتعليم، أحدهم
ينتمي إلى جيل ما قبل السبعينيات وما بعدها بعقد من الزمن، والآخر إلى جيل
الثمانينيات وما بعدها.
كلاهما اتَّفق على أنَّ الولاء الوظيفي لهذه
المهنة في العقود الثلاثة الأولى ما بعد السبعينيات -بداية التعليم العصري في
عُمان- كان أكثر تضحية وثراءً وعطاءً وإحساسًا بالمسؤُولية، مقارنة بما عليه الآن،
كما أنَّ المناهج التعليمية في تلك الحقبة كانت الأكثر تركيزا وجودة ومضمُونا قيميًّا،
مُقارنة بالمناهج الحالية الأكثر اتساعًا وعُمقا وتعدُّدا.
وتطرَّقا أيضًا إلى مواضيع عديدة شيقة فيما يتعلق
بالولاء الوظيفي، ومسألة الإخلاص للمهنة، وما يواجهه قطاع التعليم من تحديات
عديدة، وكذلك فيما يتعلق بالقناعات وتغيُّر القيم والمفاهيم بين الأجيال، ونظرة كل
جيل إلى الحياة ومُتطلباتها.
حَدِيثُهم هذا عن الولاء الوظيفي والتعليم، وأيام
المدرسة، أعَاد بي الذاكرة إلى شخصية بسيطة في عِملِها، لكنها أعطتْ درسًا كبيرًا
في الولاء الوظيفي وحب العمل والإخلاص فيه، شخصيَّة لها قيمة كبيرة في العطاء
والمُثابرة والتواضع وحب الوطن.
هَذِه الشخصية عاصرْتُها في مراحل دراستي الأولى..
رجلٌ عشق عمله وأخلص له، تجدُه في مدرسته في ساعات الصباح الباكر، ولا يغادرها إلا
في المساء، كان حريصًا على سلامة محتويات المدرسة ونظافتها، ينظرُ إلى المدرسة
بمثابة بيته، ويعامِل زملاءه كأنهم إخوته، ويتعامل مع طلاب المدرسة كأنهم أولاده،
أحبَّ عمله وأحبه الجميع.
كُنَّا نتهافتْ على تلك الطباشير الملونة التي كان
يكلف بتوزيعها على الفصول بقياس ومقدار دُون إهدار، كان حريصًا جدًّا على كل شيء،
وكان ناصحًا ومُربيا، ومنظما دقيقا لوقت عمله، يعمل بصمت وهدوء غريب، يعمل بلا كلل
أو ملل، ولم نسمع عنه يوما متذمرا أو شاكيا، وليس له في القيل والقال، المهم أن يُنجز
عمله بإتقان، واستمر في ذلك حتى آخر يوم في عمله.
كان المعلمون ينادونه بالوطني، وهكذا عرف أيضًا
عند الناس، حتى أولاده معروفون أكثر بأولاد الوطني، مات الرجل مُنذ سنوات منتقلاً إلى
رحمة الله، ولكنْ ظلَّ لقبه باقيا، وظلت ذكراه الطيبة باقية في قلوب الجميع إلى
اليوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.