الشَّايب مرهون -رحمه الله- أحد سُكان قريتنا الجميلة المعلاة، كان ضرير البصر، لكنه حاد البصيرة، وقمة في التواضع والقناعة وعفة النفس وراحة البال، عاش هو وزوجته ضعيفة البصر أيضًا في خيمة مُتواضعة من سعف النخيل، كان محلَّ احترام وتقدير من قبل جميع أهل قريتنا، الجميع يكن له محبة غير عادية، ويتسابق كل جيرانه على خدمته وتوفير بعض مُتطلباته، يلقِّبونه بمرهون الشنجي، ولا أدري ما معنى هذا اللقب، على الرغم من سؤالي عنه عدة مرات.
فِي عَهْد النهضة المُباركة، تغيَّرت طبيعة الحياة في قريتنا، وانتشرت بيوت الأسمنت في كل مكان، إلا أنَّ الشايب مرهون لم تؤثر فيه تلك التغيرات الحياتية، ظلَّ مُحافظا على طبيعته وأسلوب حياته، حاوَل أصحاب الخير مُساعدته لبناء منزل له، إلا أنَّ الخيمة السعفية كانت مبتغاه وراحته.
كَان يَشعُر بسعادة غامرة في طريقة حياته، حَظِي بالضمان الاجتماعي من قبل الحُكُومة الرشيدة، وأتيحت له فُرصة التقدم للحُصُول على مسكن اجتماعي متكامل الخدمات إلا أنَّه لم يتقدَّم إلى ذلك، كان -رحمه الله- قنوعا ببساطة الحياة.
كَان يَصْرف راتب الضمان لتوفير مُتطلبات حياته وزوجته، كان يزور محلَّ والدي ليبتاع راشن بيته، إلا أنَّه الوحيد والأول من زبائن الدُّكان المُسدِّدين قيمة مشتريات الشهر في آخره، كان حريصًا على دفع ما عليه أولًا بأول، كان أمينًا بمعنى كلمة الأمانة، يحفظ كل ما اشتراه.
زَرَع أمام منزلِه نخلة قدمي، كان يرعاها هو وزوجته خير رعاية، كبرا معا حتى أصبحت النخلة عوانة، كانا يقتاتان من خير تلك النخلة: الرُّطب والتمر.. فنخلة القدمي عندنا مُبكِّرة الثمار وغزيرة الإنتاج، كان للقدمي شُهرة كبيرة عكس هذه الأيام؛ حيث تُقدَّم ثماره للحيوانات في ظل التنوع الكبير لثمار النخيل في وقتنا الحاضر.
كُنتُ أشعُر بسعادة غامرة عند زيارته، ما إن يسمع صوتي إلا ويناديني بالاسم بلهجته البدوية الجميلة، مُرحِّبًا بمحبَّة غامرة، كان حَسِن العشرة كثيرَ الاحترام للصغير والكبير، ليس له في القيل والقال، دائما ما يسلي نفسه ببعض المقاصب من الشعر والفُنُون العُمانية، إضافة لحديثه مع شريكة حياته الوفية.
كَانَتْ زوجته تعتمدُ على نفسها في تحضير بعض الوجبات، على الرغم من ضعف بصرها وكِبر سنها، وفي الكثير من الأحيان تجد من يُساعدها في ذلك من نساء الحارة.
دَخَلتْ الكهرباء القرية، وعمَّت المكيفات كلَّ بيت، إلا أنَّ الشايب مرهون فضَّل أن يحافظ على طبيعة حياته في تلك الخيمة والكرجين والعريش، كانت الطبيعة مَطْلبه طوال حياته.
فِي آخر أيام حياته، ظلَّ مُتشبثا بالقناعة والتواضع، لم تتغير طبيعة حياته ومعيشته أبدا رغم عُرُوض المساعدة من الجميع.
قَبْل سنوات، تُوفِّي الشايب مرهون الوفي وزوجته الطيبة إلى رحمة الله، وبعد أيام قليلة من وفاته وجدنا نخلة القدمي حانِية رأسها يابسة، ماتَت النخلة واقفة لتلحق بالجميع.
أُزِيلَت الخيمة الوحيدة في قريتنا، وكذلك تلك النخلة المُرتبطة بحياة الشايب مرهون الوفي، ومعها أيضا فقدت المعلاة ذاكرة للمكان والإنسان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.