الخميس، 2 أبريل 2015

سوقة

للمكان ذاكرة وان تقادم الزمان، وتعاقبت الأيام.. ذكريات عايشتها في سُوقة..
 سُوقة.. قرية وادعة في أحضان الجبال الشاهقة، تلك السلسلة الجبلية التي تحيط بسوقة من جميع الجهات أكسبتها مهابة وجمال؛ فهي متنوعة الصخور والألوان والتكوينات الطبيعية، وعلى الرغم من وعورتها وصعوبة العيش فيها، إلا أن الإنسان العُماني قد كون فيها مستوطنة بشرية مُنذ قدم التاريخ.
فقد تحدَّى تلك الطبيعة وصعوبتها، وعمل بجد وعزم من أجل تطويع تلك التضاريس الصعبة لخدمته؛ فشقَّ فيها فلجًا يسيل كسلسبيل رقراق بين حواف الجبال والصخور الصماء، ليسقي مزارعها وحدائقها الغناء، والأفلاج في عُمان في حدِّ ذاتها معجزة وهندسة عُمانية حارت أمامها العقول والعلوم الحديثة.
سُوقة.. هي أيضًا واحة خضراء، تكسُوها السكينة والهدوء والصفاء، لا تسمع فيها ضجيجا ولا حركة مزعجة، تسمع فيها تغريدات الطيور، وحركة الرياح بين جنادل الصخور، وتشعر فيها بنسمات الهواء وحفيف أغصان الأشجار المتمايلة، خاصة نخيلها الباسقة في عنان السماء الصافية، كنخلة البونارنجة والنغال، وهي أشهرها على الإطلاق.
قديمًا، كان طريق حباسة، هو الطريق الوحيد المؤدِّي إلى سوقة، يسلكه البشر سيرًا على الأقدام، عَبْر ممر مائي لوادي العربيين رائع الجمال، ومن ثم تسلق ذلك الجبل الفاصل بين القريتين.
اختَرَع القدماء طريقة لمساعدة السالك لذلك الممر الجبلي، فمدُّوا حبالًا سبعة متفرقة على ارتفاع ذلك الجبل، وتمَّ ثقب بعض الصخور؛ حيث رسغت فيها أطراف تلك الحبال، فمتى واجه الماشي صعوبة لتخطي تلك الصخور والجنادل العملاقة على ارتفاع الجبل مسك الماشي بذلك الحبل لمساعدته؛ سواءً كان ذلك أثناء الصعود أو الهبوط.
يُحدِّثني أحد شياب سُوقة أنَّه في الأزمنة الغابرة سقط رجل وابنه من أعلى ذلك الجبل؛ فقد كان يحملُ ابنه على كتفيه عند نزوله من الجبل، وهو يُمسك بالحبل اختلَّ توازن ذلك الطفل، فأراد الوالد أن يُمسك طفله وإنقاذه قبل نفسه، فإذا الاثنان تتلقفهما صُخُور قاع الوادي لتعلن نهايتهما في الحال.
استمرَّ استخدامُ تلك الحبال عقودًا من الزمن، وفي السبعينيات من القرن الماضي استُبدلت تلك الحبال عدة مرات بحبال وسلاسل حديدية أكثر قوة ومناعة، إلا أن الطائرة العمودية أو المروحية قد حلت الكثير من إشكاليات التنقل إلى تلك القرية الجميلة، وكان حينها يتم بالطائرة نقل الركاب والمؤن ومستلزمات السكان ومواد البناء، وكذلك يتم علاج المرضى عبر الطبيب الطائر ضمن برنامج دوري ومُستمر يزور سوقة والقرى الجبلية المجاورة لها، وجميعها خدمات تقدمها الحُكُومة الرشيدة بالمجان.
حُمُود بن راشد بن سالم الربخي، أحد سُكان سُوقة وأعيانها، شخصية متزنة وهادئة، وصاحب خُلق رفيع ومُحب لبلده، عمل جاهدا على التعريف بقريته، وكان يقضي الأيام متنقلا بين قُريات ومسقط لقضاء حوائج جماعته وتلبية طلباتهم، تجده متنقلا من مُؤسسة إلى أخرى للمطالبة بتوفير الخدمات المُختلفة لسوقة وسكانها، لم يترك مسؤولا إلا وطرق باب مكتبه من أجل توفير خدمة لقريته؛ لهذا أصبح معروفا لدى العامة والخاصة، وبسببه زار سوقة العديد من المسؤولين من أجل معاينة واقع أهل سوقة وتقديم الخدمات اللازمة لهم.
رَفَض أنْ يترك سُوقة عندما عُرِض عليه وسكانها الانتقال إلى موقع آخر أكثر سهولة في التنقل وراحة في الحُصُول على الخدمات، فقد كان مُرتبطا بالأرض والمكان، فهو يرى أن تلك الجبال المحيطة بقريته فيها أسرار الحياة والبقاء، وعلى الرغم من وعورتها وصعوبتها، إلا أنه يستمد منها الطاقة والنشاط، ويشعر فيها بالراحة والاستقرار.
كَانَ مُصرًّا على أن يشق طريق لسوقة، كان لديه حلم أن يرى السيارة تتجول في أرجاء قريته لتنقل الأطفال إلى المدرسة، وبعد مطالبات مُلحَّة وعديدة قرَّرت البلدية في التسعينيات أن يُشق لسُوقة طريق جبلي، وبعد الدراسة والمعاينة من قبل المُهندسين لتلك الجبال، تقرَّر أن يكُون مساره من قرية إسماعية، وهي قرية تطل على وادي الطائيين وإبراء، وقد شق ذلك الجبل بصعوبة كبيرة لطبيعة صخوره الصلدة، فراحة وخدمة الإنسان في عُمان هي الأولى دائما مهما كانت صعوبة التضاريس.
بَعدما انتهى شقُّ ذلك الطريق الترابي عبر الجبال، أصبحت سوقة مزارا للجميع، وأدخلت إليها أيضًا لاحقا خدمة الكهرباء، وارتفعت فيها المباني الحديثة. كَمْ كانت السعادة ظاهرة على حُمود الربخي وجماعته يوم دُخُول أول سيارة إلى عُمق سوقة، وبحكم علاقتي الشخصية به فقد كان يحلم دوما بأن لا يفارق سوقة سُكانها، وأن تتطوَّر قريته وتتوافر فيها كافة الخدمات، وكان في ذلك ساعيا دُون كلل أو ملل.
مُنذ سنوات، وفي ذات يوم ماطر، يعبر حمود الربخي بسيارته يقودها أحد أبنائه، مُتوجها إلى قريته الجميلة سوقة، يتخطَّى ذلك الممر والخانق الجبلي، لتنحرف بهم السيارة بين الصخور وتهوي بهم في قاع ذلك الوادي السحيق، وتَتَناقل الأخبار أنَّ حمود الربخي وابنه قد فارقا الحياة في حادث سير في ذلك الطريق، الذي كان يومًا بالنسبة له حلمًا، وقد سعى وطالب بتحقيقه طوال سنوات عمره.
رَحْمَة الله عليك أيُّها الشيخ الجليل؛ فقد كُنتُ مثالًا للحب والوفاء والإخلاص وخدمة أبناء بلدتك. (الصورة تعود إلى بداية التسعينيات، زيارة لبعض المسؤولين لقرية سوقة، وحمود الربخي في وسط الصورة التاسع من اليمين، وكان لي شرف مرافقتهم).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.