السبت، 7 يناير 2017

ذكريات غافة

عندما أرادت وزارة التربية والتعليم بناء أول مدرسة بالمواد الثابتة في قُريات، مع مطلع عقد السبعينيات من القرن المنصرم، لتحل محل مدرسة الخيام في الساحل، اعترضتْ حينها شجرة غاف ضخمة ومعمرة المكان -لها من العمر الطويل في العطاء والكرم- فكان موقعها في وسط الأرض التي تمَّ اختيارها لتحتضن مشرُوع تنوير الحياة.
تلك الأرض التي وقع عليها الاختيار لاحتضان تلك المدرسة -لتوسطها مركز المدينة- هي ضمن مساحة تُسمى طوي الجهامي بالمعلاة. فهكذا درج العُمانيون عليه مُنذ القدم تسمية الأمكنة والمساحات المسكونة والمزروعة حتى الجبال والحجر والتلال بأسماء؛ لها دلالات وصفية ومعنوية وتاريخية عن المكان، وهي أيضًا دليل عنونة لسكان وجُغرافية المواقع والبلدان.
بعد تفكير واعٍ وعميق لمن يُشرف على التعليم حينها، قرَّرت الشركة المُصمِّمة والمنفذة للمشرُوع، الإبقاء على تلك الشجرة الجميلة لتتوسَّط فناء المدرسة؛ فبُنيت صفوف المدرسة بطريقة متقنة وبجودة عالية، وفي وقت قياسي لا يتجاوز أشهر وأيامًا، جعلها تعمر حتى عهد قريب، وذلك على شكل حرف U، ووفقا لتصميم ذلك المبني كان موقع الغافة يتوسط فناء المدرسة بجمالها الأخاذ.
كانتْ خضراء حتى النخاع، وشامخة وممتدة الأغصان، حتى يكاد ظلُّها يسع كل طلاب المدرسة في يوم قيظ شديد الحر؛ حيث لا كهرباء ولا تكييف حينها في الفصول.
كانتْ تحنُو علينا بنسمات باردة حينما تفُوح جدران الأسمنت، وتوهج الشمس في كبد السماء في فصل صيف لاهب.
كانتْ شاهدةً على كلِّ يوم دراسي جديد، وعلى كلِّ حركة وسكنة فيما يدور في تلك المدرسة، كانتْ سِجلًّا للأيام والأعوام، ولذكريات حفرت في جذعها الشايخ وعلى أغصانها المناطحة للسماء لأجيال مُتعاقبة من الطلاب والمعلمين الكرام، كان الطلاب يهزون الأرض هزا في محيطها الواسع عند رفع راية بلادهم، وترديد نشيد الوطن والسلام في كل صباح.
وُضع تحت جذعها الضخم والمعمر خرس كبير، يملأ بطنه بالماء كل يوم وحين، يتهافت عليه الطلاب زرافات وبانتظام للارتواء، كنا ندلق يدنا من فمه الضيق الدائري للولوج إلى بطنه الواسع والعميق، كنا نضطر إلى الوقوف على أصابع أقدامنا لكي ننزل يدنا الغضة والقصيرة لننزف الماء من قعره بواسطة مشرب (كوب) وحيد، صُنع من معدن وحديد.
استمرت تلك الغافة حية خضراء وارفة الظلال، مُحتفظة بأسرار وذكريات كل من ولج إلى صفوف تلك المدرسة، حتى قُرِّر في السنوات القريبة الماضية هدم مبنى تلك المدرسة، بعد توسع عدد المدارس لزيادة كثافة الطلاب، وانتقال طلاب تلك المدرسة إلى مدرسة جديدة بنيت في الجنين حملت نفس اسم تلك المدرسة الأولى في قُريات "مدرسة راشد بن الوليد"، فاقتلعت حينها تلك الشجرة واقتلع معها ذكريات تلك المدرسة لتصبح أرض فضاء.
عندما ولجنا المدرسة الجديدة في الجنين مع بداية الثمانينيات، أو أواخر السبعينيات، كانت الغافة أيضًا لها حكاية جديدة معنا، الغافة الجديدة لم تتوسط المدرسة كما عهدناها في مدرستنا الأولى، لكنها كانت على مقربة من مبنى المدرسة الجديد، لها اسم قديم سميت به يحمل "غافة الخروس"، هذه الغافة أيضًا هي محل استراحة لنا مع بداية ونهاية كل يوم دراسي جديد؛ فكان الطلاب يأتون من بيوتهم مشيا من كل مكان؛ فتجمعهم تلك الغافة كاستراحة وراحة للأبدان؛ وذلك قبل أن يهز العم "الوطني" -رحمه الله- جرس الطابور، ليلبي الجميع نداء العلم.
غافة الخروس هي أيضًا ذاكرة المكان والإنسان مُنذ ما يزيد على مائتي عام، كان ينزف من قربها الماء كموارد، لكون الأرض التي عليها هي رملية تحتفظ بالمياه الفرات الزلال عند مسيل المطر.
أجيال، وأجيال، وأجيال مرُّوا عليها وجلسوا تحت ظلها، ومناسبات عديدة احتضنتها، فتَحت ظلها كانت حفلات الأعراس وولائم العزائم والصدقات، وتحت أغصانها تصدح فُنُون الرزحة واللال إلى ما بعد مُنتصف الليالي، خاصة الأيام القمرية من كل شهر.
كانت تُشكل منتدى أدبيا لشعراء الفُنُون وهواة الأدب والجمال، كان الشعراء يتهامسُون تحت ظلها في سباق أدبي لا تجد له مثيلا اليوم، كانوا يرتَجِلون القصائد والمقاصب والنواحي والمزافن في مناظرات أدبية فيها من المتعة والإبهار، يجمعهم فيها مشاعر المحبة والأخوة والصفاء والسلام.
فها هِي غافة الخروس -كما تبدو في الصورة- لا تزال تحنو بأغصانها وأوراقها الخضراء الوارفة بحب وعطاء وحنية على من يتذكرها، ويتفيأ ظلها الواسع، ويتمتع بنسمات كوسها العليل، ورمالها الناعمة البيضاء، لتبقى ذاكرة وشاهدة لتعاقب الأجيال والأعوام والأحداث.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.