حملتُ ذكرياتي، هذا المساء، وولجت القرية التراثية
بمتنزه العامرات؛ التي بدأت فعالياتها قبل أيام ضمن برامج وأنشطة مهرجان مسقط
2017م.
كانتْ بذرة غُرست عام 1993م، بساحة نادي قُريات
بمناسبة عام الشباب، وكانت من يُمن الطالع أن تكُون فعاليات تلك القرية بداية
مشرقة لعام مجيد حمل "عام التراث" في العام 1994م.
انتقلت تلك البذرة بعد أن أصبحت شجرة خضراء،
وتعهدتها مُحافظة مسقط برعاية كاملة، ضمن فعاليات وطنية لعدة أعوام لاحقة في حديقة
القرم الطبيعية.
كبُرَت حينها تلك الشجرة الجميلة، المعتقة بالتراث
مع الانطلاقة الفعلية لمهرجان مسقط في العام 1998م، وباهتمام كبير من قبل بلدية
مسقط، حتى تفرعت وقوت أغصانها؛ وأصبحت أيقونة المهرجان حتى اليوم.
تطورت القرية التراثية كمًّا وكيفًا على مسار
تاريخ مهرجان مسقط، وهي بحقّ علامة فارقة ومُهمة في مجال التسويق للتراث الثقافي
في عُمان.
منذ الانطلاقة الأولى للقرية التراثية، ارتبطتْ فعالياتها
بوجوه معروفة، مثَّلت مرحلة عمرية من الزمن لتاريخ بعض المهن والتقاليد العُمانية.
اليوم، الكثير من هذه الوجوه التي ألفناها خلال السنوات الماضية من عمر المهرجان
لم تعد بين ظهرانين تلك الأمكنة؛ فقد رحلوا ورحلت معهم تلك البصمات والذكريات الجميلة
من تاريخ المهرجان.
وقفتُ مُتأمِّلا الوجوه؛ فلم أجد الوالدَ عبدالله
بن سعيد البلوشي وهو يُرخِي شباكه، مُحتضنا تلك الثمار اليابسة المجوفة من الوعا،
وتلك الحجارة والأصداف البحُرية القديمة، كأنها تحفة ذهبية نادرة لم يعد لها
وُجُود في زمننا هذا.
لم أجد العم سعيد البوصافي مادًّا ذراعيه فوق تلة
من الملح القُرياتي الناصع البياض، كأنه من الذهب الأبيض، شارحا لزوار المهرجان عن
خور الملح وتاريخه وخيراته الواسعة.
لم أجد العم ناصر الكمالي يُقلِّب تلك الحصيات
البيضاء والصقل في سباق حميم وممتع مع رفيق دربه محمد في لعبة الحواليس التقليدية،
في وسط لمة من الشياب والشباب للتشجيع وتعلم تلك الألعاب الجميلة، المُرتبطة
بالطفولة أيام زمان.
لم أجد أيقونة القرية البحُرية خلفان، لم أسمع صَوْت
الكارجة بصوتها الموسيقي الشجي، ولم أرَ خيوط البريسم مُمتدة بألوانها الزاهية، لم
أُشاهد راعي الحظية المنقوشة بجمال الزري والخوصة والبرسيم والصوف الناعم الملمس،
لم أجد الفراجي مجبر الكسور، لم أجد راعي الحجامة بطريقته التقليدية.
لم أَسْمَع الصوت الباسم لبركات، ولم تعد دلته
الفخارية وقهوته العدينية تفوح على موقدها المعروف بوسط القرية، لم أسمع صوت محماس
القهوة على التوافي الحجرية.
أين ولد بردان بقفشاته المرحة؟ أين أصحاب الكناز؟
أين هم رعاة زفانة الدعون، أين راعي الخناجر الصايغ سعيد بن هديب؟ وجوه عطَّرت تلك
القرية بأناملها الذهبية - عليهم رحمة الله.
قضيتُ ساعات في حديث شائق مع عدد من الحرفيين،
استمعت إلى ذكرياتهم الجميلة مع البحر والفُنُون، تعرفت على مهنهم وأعمالهم
القديمة، يقول أحدهم: زمان كانت الأعمال فيها مشقة وتعب، ولكن كانت تؤدَّى بحب
وإخلاص؛ لهذا بقيت معهم إلى اليوم.
كانوا في قِمَّة السعادة باهتمام البلدية
بذكرياتهم ومهنهم، يشرحون للشباب والسياح بطريقة المحب للمحب، هم بحق سجل ذهبي
لتاريخ مشرق، ما زالوا يُشكلون أحد صُنَّاعه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.