الأمسية الأدبية التي نظَّمتها اللجنة الثقافية بمهرجان
مسقط، بقاعة النادي الثقافي، مساء يوم الثلاثاء الماضي، تكريمًا لسيرة الأديب
والشاعر العُماني الكبير الشيخ هلال بن سالم بن حمود السيابي، أعادت بذاكرة الكثير
من المتعطشين للأدب العُماني القديم إلى حقبة السبعينيات والثمانينيات من القرن
المنصرم، حين كانت الأمسيات الجميلة لروَّاد الأدب في عُمان مُتواصلة، والتي كان
يحتضنها النادي الجامعي (النادي الثقافي حاليا) والمنتدى الأدبي، وسط حضور كثيف من
الجماهير.
شَارك في الأمسية مجمُوعة من فرسان الأدب في عُمان؛
من بينهم: الأديب والمُثقف القدير أحمد الفلاحي، والدكتُور المُبدع الأستاذ سعيد
العيسائي، والدكتُورة الأديبة الراقية سعيدة الفارسية، بحضور نخبة قليلة من
الأدباء والمُثقفين ومتذوقي الأدب والثقافة في عُمان.
بدأ الشيخ أحمد الفلاحي الأمسية بورقة جميلة، طافت
بنا إلى ذكرياته الشخصية والعملية مع المحتفى به، مبينا جوانب إنسانية وأدبية
يتمتع بها الشاعر الشيخ هلال السيابي، مركزا على القيمة الأدبية لنتاجه الأدبي
الواسع ومشاركاته العديدة في مضمار الأدب والحياة العامة.
كما تميَّزت ورقة الأديب الدكتُور سعيد العيسائي
بتطرقها إلى جوانب فنية وقراءة عميقة ورصينة للقيمة الأدبية لبعض نتاجات الشيخ
السيابي، والتي قال عنها: قد تميزت بالكثير من التفرد والتجديد في سياق مسيرة
القصيدة الكلاسيكية في عُمان والعالم العربي، وفي الوقت ذاته أعادت الذاكرة
الزمانية لقيمة الشعر الجاهلي والعربي وقصائد المعلقات في تاريخ الشعر العربي.
بدورها، تداخلتْ الشاعرة القديرة الدكتُورة سعيدة
بنت خاطر الفارسية، بذكاء، في ربط خيوط الأمسية بنعومة الشعر ورقي الأدب وسمو
الإبداع؛ لتخرجها بنجاح متميز، ضمن نسيج أدبي مفعم بالعطاء وتقدير الذات، مُذكِّرة
الجيل الجديد بأن ما سمعوه في هذه الجلسة الاحتفائية من أسلوب في التواضع والطرح
بين المشاركين، هو سمة عُمانية وقيمة مُجتمعية رفيعة، جُبِل عليها الإنسان
العُماني في إطار احترام وتقدير الآخر، مهما وصلت مكانته الاجتماعية والأدبية والثقافية،
داعية للتمسك بهذا الأسلوب الراقي في تقدير الذات الإنسانية المُبدعة.
وكان للشاعر المحتفَى به جولات وُصُولات في بحر
الشعر والذكريات في تلك الأمسية، فأمتع مسامع الحضور، ولامس أوتار القلوب، بمجمُوعة
من قصائده الراقية والشامخة في شتَّى نواحي أغراض الشعر الكلاسيكي الفصيح، وكان
سمتُه التواضع في الطرح والحديث، خاصة عند سماعه عبارات المديح والثناء لمكانته
الأدبية؛ فهو يخاطب الحضور بأن ما قاله أحمد الفلاحي في سيرته هو ما يتميز به
الفلاحي نفسه من مكانة أدبية في عُمان؛ فقد كان يؤثر الآخرين على نفسه على الرغم
من استحقاقه لذلك بجدارة.
ما لفتَ انتباه أحد الأصدقاء هو عدد الحضور لتلك
الأمسية، على الرغم من قيمتها ومكانتها، فهو متابع لأمسيات أدبية لنفس الشاعر ومن
يجاريه في نفس المجال في الثمانينيات، ويرى أن هُناك بونا شاسعا في الإقبال على
مثل هذه الأمسيات اليوم، وقد أبدى تخوفه من انحسار ذائقة الجيل الجديد عن سماع
القصيدة الكلاسيكية، مشيرا إلى أن أصحاب الأقلام المخملية في الأدب الحديث لم يكن
لهم وجود في الأمسية إلا ما ندر منهم، خاصة روادها الكبار، قلت له: لعل توقيت
الأمسية وظرُوف الجو الماطر كان سببا في ذلك، كما من غير المُحبذ والمناسب تصنيف
الأدب: هذه مدرسة قديمة وأخرى حديثة؛ فالأدب كغيره من الظواهر الإبداعية والفكرية
والاجتماعية هو أيضًا يتطور ويتجدد، ولكل جيل أسلوبه في التعبير عن ذائقته ومشاعره
الوجدانية.
بعد الأمسية، فكَّرت كثيرا في مسألة الحضور والمُشاركة
في مثل هذه الأمسيات؛ فهي مسألة شائكة تحتاج إلى دراسة متعمقة، وأرى أنها في
المقام الأول والأخير جانب تسويقي وتنسيقي بحت، فهُناك الكثير من المُؤسسات للأسف
الشديد تغفل عن جانب تسويق أنشطتها وفعالياتها بصُورة تتوافق مع مفهُوم التسويق
المؤسسي الحديث، والذي يقوم على علم وفن في الوقت ذاته.
التسويق لأمسية في هذا الزمان لا يكفيه طرح إعلان
أو دعوة عبر تغريدة في وسائل التواصل الاجتماعي؛ فجيل اليوم ليس كجيل الأمس، كما
قال الدكتُور العيسائي كانت تكتظ بهم القاعة.
فالتسويق، اليوم، هو بوابة مُهمة لنجاح توصيل
المُؤسسات لرؤيتها ورسالتها وأهدافها وأنشطتها مهما كانت أغراضها، ولو قارنا عدد
الحضور في أمسية الأديب البحريني الكبير قاسم حداد، قبل أيام، بعدد الحضور في هذه
الأمسية، لوجدنا أن هُناك سببا عميقا في هذا الاختلاف في عدد حضور هذه الأمسية.
فتلك الأمسية قد تمَّ التسويق لها بذكاء، خاصة من
قبل بعض رواد الأدب؛ فكان التسويق للأمسية عبر صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي
قد بدأ التمهيد لها مبكرا من تاريخ موعدها، وتواصل التذكير بها حتى يوم تنفيذها،
ولو تمعنا في بعض عبارات تلك التغريدات وأسلوب طرحها، فهي قد بُنيت بطريقة تسويقية
ذكية.
على العموم، كانت أمسية ممتعة، وذاكرة أدبية لا تُنسى،
تُشكر عليها بلدية مسقط وإدارة النادي الثقافي، وقد ختمها الشيخ أحمد النبهاني
بحديث شائق من الأب إلى أولاده ومن المُحبوب إلى المُحِب، وهو شخصية عُمانية لها
من العطاء في خدمة الوطن في مجالات مُختلفة، حين تحلَّق حوله بعض الحضور، في مشهد
عُماني جميل يجمع بين جيلين، مُذكِّرا لهم بأنَّ عُمان تعيش ازدهارا فكريا راقيا،
مشيرا إلى إعجابه بالأقلام العُمانية في مُختلف وسائل الإعلام والصحُف المحلية
والعربية. مؤكدا أن عُمان كما نجحت في بناء البنية العُمرانية، هي أيضًا نجحت في
بناء فكر الإنسان، مطالبا النادي الثقافي بأن ينشر الإبداعات العُمانية في الخارج،
خاصة بيروت؛ لأنها بوابة مُهمة للنشر وتسويق الكتاب والفكر في العالم العربي
والأجنبي، ولكي يصل القلم العُماني إلى الآخر يحتاج إلى جهد؛ فهو يرى أنه من
المُهم جدا التعريف بمكانة وتطور الثقافة والأدب في عُمان، وهو بحق قدم رؤية
تسويقية مُتقدمة تستحق أن تقدر وتدرس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.