هذا المساء، كان لي جولة إلى المزارع، فتعمَّقت مشيًا في مجرى وادي ضيقة باتجاه الخبيل؛ فبدأ مسيري من ضفاف الوادي بجانب الحصن ومسيلة الرينز، ومسيلة القياض، كانت خطة مسيري بهدف توثيق أحد المعالم الطبيعية، يسمى "المراجل"، أخبرني عنه أحد كبار السن منذ سنوات طويلة، وهو نحتٌ في حجارة الوادي الملساء على شكل مراجل، وكأنها قد أُعِدَّت للتو للطبخ.
كان صُدفة أن ألتقي سعادة السفير الروسي وحرمه في ذلك المكان؛ فكان بيننا حديثٌ عن طبيعة المكان وجماله وملاحظاته؛ فهو يتحدث العربية بطلاقة، وقد قَطعَا مسافة مشيًا للتمتع بهذا الفج العميق والمعلم الجغرافي الرهيب، أكبرتُ فيهما هذا الحماس على رغم كبر سنهما.
بعد توديعهما، واصلتُ مشواري في عمق الوادي، وبحيث أني قد عبرت هذا الممر المائي قبل أكثر من ثلاثين عاما بالسيارة، فقد هالني التغيُّر الطبيعي لملامح جغرافية المكان ومعالمه؛ الأمر الذي حال من مواصلة المشي فيه لمسافة أطول.
وفي طريقي، وقفتُ مُتأمِّلا لذلك المجرى المائي الجميل، وتذكرت حينها قصتي وحكايتي مع المكان في أول زيارة له مع فريق إعلامي، كان ذلك منذ سنوات طويلة، ولكن تبقى للمكان جمال ذاكرته، مهما تعاقبت الأعوام، كتبت عن الحكاية في العام 2013م، وها أنا أعيد نشرها من جديد، مع صور حديثة للمكان:
في التسعينيات من القرن الماضي، قمت -ومعي بعض الضيوف الإعلاميين- بزيارة إلى وادي ضيقة في مهمة إعلامية؛ حيث كنت حينها مراسلا للإذاعة والتليفزيون وجريدة "عُمان". ونظرًا لما سمعته عن روعة الممر المائي لوادي ضيقة الذي يربط بلدة المزارع ببلدة حيل الغاف ومن ثم دغمر، اقترحتُ على ضيوفي استخدام هذا الممر للوصول إلى المزارع، وكان حينها ذلك الممر يتمتع بتواجد مستمر للمياه، وفي غير موسم للمطر.
ولهذا الممر تاريخٌ عريقٌ، وذكريات عديدة، وأحداث متعددة؛ حيث كان شريانا اقتصاديًّا لداخل عُمان، عبر سوق وموانئ قريَّات ومسقط ومطرح، لا سيما لتجارة التمور والليمون العُماني وغيرها من المنتجات، فهو يختصر المسافات للتنقل عبر المشي والدواب.
كان الأوروبيون يطلقون على هذا الممر بهوة الشيطان؛ لعمقه وخطورته وتكويناته الصخرية الحادة؛ حيث تجتاحه السيول بصورة دائمة. المهم، وددتُ تعريف ضيوفي بهذا الممر؛ حرصا مني لتسويق الولاية إعلاميا.
استخدمنا سيارة ذات دفع رباعي لعبور هذا الممر؛ حيث بدأنا من مدخل حيل الغاف، ومن ثم الوصول إلى الخبيل جنوب حيل الغاف، وهو منخفض يقع بين جبلين، ويعتبر منتجعا سياحيا لما يتميز به من سحر الطبيعة وجمال البيئة ونقاء الجو وصفاء المياه، وفيه تجد على حواف الجبل آثارَ فلج حيل الغاف القديم، كما يمكنك تتبع مسار الفلج الحالي؛ فمنبعه الرئيسي من الخبيل.
وبعد الاستراحة والاستمتاع بالطبيعة، واصلنا السير في اتجاه المزارع: الجبال الشاهقة لهذا الممر المائي وبيئة المكان تأسر القلب وتريح النفس، وتثير التأمل والتفكر في قدرة الخالق: تضاريس جبلية روعة في المنظر، ومياه تنساب بهدوء، وأشجار مظلة على حواف المجرى.
جميع ضيوفي في قمَّة السعادة بهذه الرحلة؛ فهم لأول مرة يشاهدون هذه المناظر الخلابة، وأنا أيضًا كذلك لأول مرة أسلك هذا الممر، وكنت أخاطب نفسي بأن الأوروبيين وصفوا هذا الممر بهوة الشيطان، وهذا وصف لا يليق بهكذا منظر؛ فأكيد أن هناك سببًا أو قلقًا ما من هذا الممر، فهم يشاهدونه من سفنهم في أعماق البحر، وعلى الرغم من بعده عن البحر، إلا أنه أحدث لهم رُعبا من الاقتراب منه؛ فهو في حقيقته معجزة الله في أرضه، ويستحق أن يطلق عليه "منحة الله للإنسان".
بعدما قطعنا المسافة -وهي ليست بالطويلة- تَبادر لنا من بعيد حصن المزارع على ربوة جبلية، ويطل على الممر المائي لوادي ضيقة في اتجاه حيل الغاف. كُنت أقود السيارة، ومُستمتعا جدًّا بقيادتها وقوة تحملها لعبور هذا الممر الصعب، فلم يبق لنا إلا وقت بسيط ونصل إلى عمق المزارع، وفي ذلك الحين صادفنا مسطحًا مائيا من الجبل إلى الجبل، وفي الوقت ذاته عبرت من جانبنا سيارة قادمة من المزارع في اتجاه الخبيل، تبادلنا التحية من بعيد، ومرَّت تلك السيارة في وجهتها بسلام، بعد أن أفسحتُ لها المجال بالتزامي ناحية اليمين من الشارع.
وَاصَلْنا المسير في نفس الاتجاه وسط المياه، وكنا نَحسبها أنها مياهًا ليست بذات عُمق، ونحن نتقدَّم إذا بالسيارة تزداد تعمُّقا في المياه، أدرتُ قوَّة الدفع الرباعي بالسيارة، وإذا بالسيارة تغطس أكثر، قُلت في نفسي لا بد أنَّ هناك حصاة كبيرة تمنع السيارة من عدم الاندفاع إلى الأمام، ضغطتُ بقوة رجلي على دواسة المحرك، وغيَّرت غيار السيارة إلى رقم واحد، لا زالت السيارة تقاوم النهوض، ولكن المياه كانت هي الأقوى.
أصبحتْ المياه تُحَاصِرنا من جميع الاتجاهات، والسيارة بدأت مُقدمتها تغطس في عمق المياه، جميع من معي كان خائفًا، وأنا أحاول تهدئة الموقف، وبث الثقة بالخروج بسلام، إضافة لمحاولة الضغط على السيارة من أجل نهوضها والابتعاد عن المكان، ولكن الأمر كان صعبًا؛ حيث اتَّضح أن هناك حفرة عميقة وأصبحنا على حوافها، فغمرت المياه السيارة، وطلبت من ضيوفي الخروج من النوافذ فورا حرصًا على سلامتهم.
حاولتْ السيارة المقاومة للخروج من الموقف، إلا أنَّ المياه تداخلت في كل أجزائها.. تألَّمتُ كثيرًا لما أصابَ ضيوفي، ودعوت ربِّي كثيرًا بأن يُخرجنا من هذا الموقف، كان خروجنا قبل الظهيرة، وها ذا المساء بدأ يُسدل الستار على نهاية النهار، المكان كان مُوحِشًا، والمياه تُشكِّل أكثر خطرًا، وكان حينها سد وادي ضيقة غير موجود، فأي زيادة في منسوب الوادي لا ملجأ لنا إلا الله؛ فالجبال على جانبينا شاهقة، ونحن في وسط ممر مائي نَجْهَل عمقه، والاتصالات غير متوفرة لدينا.
بعد تَفكِير، رأيتُ من المناسب أنْ أمشي إلى وسط قرية المزارع من أجل طلب المساعدة؛ فبعد فترة من المشي وسط المياه والصخور، استطعتُ الوصول إلى بلدة الجزير بالمزارع، ووجدتُ من سكانها كلَّ ترحيب بحُكم معرفتي بهم، وقرَّر أحد الأخوة التبرع بسيارته ذات الدفع الرباعي للوصول إلى مكان السيارة الخاصة بنا ومحاولة إخراجها من تلك الحفرة.
وبعد جهدٍ كبيرٍ، وبحُكم خبرة أهل البلد بظروف الطريق، استطعنا إخراج السيارة من الحفرة، وقيل لنا إنَّنا سلكنا الطريق الخطأ؛ حيث كان ينبغي لنا الالتزام بجهة اليسار، فهو المكان الصالح لسير السيارات، والجانب الآخر جزء عميق من المياه، لكنَّني تجاهلت ذلك بحكم عدم خبرتي بالمكان، ولكي أتيح للسيارة القادمة العبور، فهي الأحق بذلك الاتجاه.
حاولتُ تشغيلَ السيارة بمُساعدة الجميع، ولكن لا فائدة؛ فالمياه دخلت في كل شيء، والأمر جد خطير، والضيوف بدأوا يقلقون كثيرا لتأخرهم عن أهلهم في مسقط، كان لديَّ إصرارٌ وإرادة على إنهاء هذا الموقف بسلام، شكرتُ الأخوة الكرماء أهل المزارع على ما قاموا به من مساعدة لإخراج السيارة من المياه، وبعدها توجَّهتُ إلى قريَّات من أجل وضع حل للموقف.
كُنتُ أسمع بمهارة شابين عُمانيين -يُقال لهما أولاد الرندي (علي ويحيى)- مُتخصِّصيْن في إصلاح وصيانة السيارات، وعلى الرغم من عدم تعلمهما، إلا أنَّ خبرتهما في مجالهما تساوي من يحمل أعلى الشهادات، تحدَّثتُ معهما عما حصل، وبالفور تجاوبا معي من أجل إخراج السيارة بأي طريقة، واتصلنا بسعيد الشيرازي وهو عُماني ومكانيكي قديم أيضًا، فرحب بالمساعدة وأخذنا سيارته الرافعة، فإذا لم نقدر على إصلاح السيارة وتشغيلها، نرفعها بالرافعة وإخراجها من ذلك المكان.
وَصَلنا حيث السيارة، وبعد مُحاولات استطاع العُمانيان أنْ يُدِيرا السيارة بطريقة غريبة؛ حيث أوصلا علبة كُنا قد ملأناها بالوقود من خلال أنبوب إلى مُحرِّك السيارة، بعد أن فصلا الأنبوب الذي يربط خزان الوقود بالمحرك؛ وذلك نظرًا لامتلاء واختلاط الوقود بالمياه في الخزان، فكُنت متعجبًا من المهارة التي قاما بها.. شَكرتهما كثيرًا، وطلبتُ منهما قيادة السيارة؛ فأحدهما السائق والآخر يُمسِك بيدة تلك العلبة التي تزود المحرك بالوقود.
وَصلنا قريَّات في منتصف الليل، بعد مُعاناة منذ الصباح، ودَّعتُ ضيوفي، وتمنيتُ لهم رحلةً موفقة، وشكرتُ ربِّي كثيرًا على نعمة النجاة من هذا الموقف. وها أنا أسردها لأول مرة من أجل أخذ العِبْرَة، خاصة ونحن نعيش هذه الأيام سقوطَ أمطارٍ غزيرة، وجريان العديد من الأودية في بعض ولايات السلطنة؛ فمجارِي الأودية وتجمُّعات المياه لا يمكن التساهُل بها أو الدخول فيها، مهما كانت قوة السيارة ومهارة من يقودها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.