عُرِفتْ الصلحة قديمًا كمستوطنة بشرية، يعود تاريخها إلى ما قبل الميلاد، لم تَعُد هذه المقابر الدائرية الشكل، وآثار سوقها القديم باقية اليوم، فقد تناثرت جميعا مع رياح النسيان وعدم الاهتمام، بينما مغارتها "حاكة الصلحة" لا تزال تبُوح بأسرار عمقها، وحكاياتها الميثولوجية العجيبة والغريبة، ضمن أساطير عديدة للمكان.
هكذا أيضًا واديها "وادي الصلحة" يعجُّ جمالًا وتنوُّعًا جيولوجيًّا عجيبًا، فهو صنو وادي مجلاص في الغزارة والثراء بالمياه العذبة الفرات؛ فهما يلتقيان ويتحدان في سيل جارف على ضفاف الحاجر، ليعانقا بحر عُمان والمحيط الأزرق، عبر خور أو لسان بحري، باهر بالروعة والجمال.
هذا اليوم.. كانت لي زيارة لهذا الوادي، بقصد الوصول إلى نبع ماء، يسمى "قطَّار" يقع على طرفه الجنوبي، وهو عبارة عن قطرات ماء متساقطة من حافة جبل جيري، ضمن روافد جبل السعتري الأشم، مُشكِّلة رؤية بصرية جميلة للمكان.
مَشِيتُ مسافةً طويلةً في بطن هذا الوادي، إلا أنَّ وعورته الشديدة، وارتفاع حرارة الجو، قد حالت من إتمام المهمة وتحقيق الهدف، على أمل معاودة الزيارة للمكان مرة أخرى في ظروف أفضل.
ولكنَّ التأمُّل في ذلك الجمال الطبيعي والرباني، قد أنسانِي ذلك التعب والنصب، فكلما أحسستُ بلسع حرارة الجو، جلست تحت شجرة سدر خضراء، فتجود عليَّ بنسمات لطيفة، وتكرِّمني بأجمل ثمارها، تجد النبق عناقيد دانية في أغصانها الوارفة، فما يُميز هذا الوادي أشجاره المتنوعة على طول امتداده، إضافة لتلك الجنادل الضخمة في تشكيلاتها وألوانها وتكويناتها الرائعة الجمال، وكذلك هي التصدُّعات والكهوف الجبلية على ضفتيه.
وفي طريق عودتي، استرحتُ تَحت ظل سِدرة، فارتويت ببعض من الماء من قنينة كنت أحملها معي، وتناولتُ نبقًا سكريًّا من أغصان تلك السدرة الكريمة، فسكبت على جذرها الممتد في الرمل بعض الماء، كرد للجميل والإحسان.
بعدها.. همَمتُ بالمشي في طريق العودة، وإذا بحجرة صغيرة تنسلُّ من قمة الجبل، لتصل إلى عُمق الوادي، مدوية بصوت مُفاجئ، عند سماعي لذلك الصوت تحرَّكتْ الذاكرة إلى حكاية قديمة.
فكانَ قديمًا صَيْد الغزلان والوعول والطيور متاحًا للجميع، ويستغل القناصة في ذلك نبع الماء للصيد في تلك الموائل الطبيعية، حيث كانت تلك الحيوانات والطيور مكان تجمعها للورد، فما إن رصد ذلك القناص بندقيته للصيد، وإذا بالحجارة تنهال عليه من كل صوب، فدخله الخوف والرعب بأنَّ هناك مخلوقات خفية تحرس ذلك المكان، فانتشرتْ الحكاية وتداولت بين الناس، فسلمت تلك الحيوانات والطيور في حينها من الصيد، فقد كان جائرا ومؤثرا على حياة ذلك الوادي الفطرية، لهذا تجدها اليوم نشيطة، تعيش بأمن وسلام.
أعُود إلى زيارتي للوادي.. فقد كان صوت تلك الحصاة التي سقطت من أعلى الجبل مفاجأة طيبة، فبعد استقرارها في بطن الوادي، عقبها مباشرة صوت مناداة: مَنْ أنت؟ هل لوحدك هُنا؟ رفعتُ نظري إلى الجبل، فإذا بشابٍ يافع يُطل على بطن الوادي من حافة جبل السعتري العظيم.
تَنَاشدنَا العلوم والأخبار من بعيد، فتعرَّفت عليه، فهو أحد أبناء الوالد عبدالله الشنوي، أحد سكان المكان وروَّاده منذ القدم، وهو شخصية بدوية معروفه لدى الجميع، كان والدي يثق فيه، فيبتاع منه عسل الطويقي، المشهور بجودته العالية، لكون مصدره الجبال ورحيق الطبيعة.
سألته: من أين أتيت؟ فقال: كنت قاصدًا وادي الرحبة لحاجة وغرض، وقد أتممتُ مُهمتي، وها أنا في طريق عودتي إلى البيت، فودَّعته.
كُنتُ أنظُر إليه، فهو يعدو كالغزال في حركته وسرعة مشيه، فقلت حينها: الإنسان دوما تسري فيه روح المكان، وقوة الطبيعة، وملامح البيئة التي يعيش فيها؛ لهذا تجده مُرتبطا ومُتمسِّكا بالمكان، مهما كانت الظروف والأحوال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.