خاطرة كتبتها منذ فترة، وعنونتها: رحلة جميلة في ذاكرة الزمان والمكان..
الإنسان يحِنُّ دائمًا إلى أيام طفولته وصباه، تلك الأيام المليئة بالبهجة والمرح، يستذكرُ منها مواقفَ مُتعددة وذكريات جميلة.. هي اليوم تُشكل حصيلة خبرته في الحياة. الأيام في تتابُعها حِكمة ربانية، وهي محطات مُتواصلة ومترابطة يعبُر من خلالها الإنسان من أجل تحقيق أهدافه وطموحه، وقبل كل شيء تحقيق غرض وجوده على هذه الأرض.
مَسَاء اليوم، الجو كان رائعًا في بلدتي؛ الأمر الذي جعلني أقوم برحلة مشيا على الأقدام؛ حيث صارَ لي فترة من الزمن قليل الخروج من البيت، بهدف التزام شخصي تجاه إنجاز بعض المشاريع الكتابية، ولأسباب أخرى تتعلق بالصحة.
قُلت في نفسي هي رياضة، وفي نفس الوقت الاستمتاع بهذا الجو والتأمل في طبيعة الأمكنة، واستذكار تلك الأيام الجميلة من طفولتي؛ فمرحلة الطفولة والدراسة هي من أهم عُمر الإنسان، وتبقى خالدة في ذهن الإنسان وذاكرته؛ لهذا دائما ما أُوْصِي أبنائي بأن يستثمروا هذه المرحلة من عمرهم بالتزود بالمعارف قبل أن تشغلهم الحياة.
قريتُنا تُسمى المعلاة، تمتازُ بأنها زراعية، وبها الكثير من المزارع، وكل مزرعة أو ضاحية لها اسم -وهذه حال كل قرى عُمان- وبعضها أسماء لها دلالة لغوية وجمالية في النطق تدل على المكان وطبيعته، هي بمثابة مشرُوع حضاري للعَنْوَنة مُنذ قديم الزمان، من المُهم جدا الاستفادة منه في حاضرنا؛ فما من فرد إلا ويعرف عُنوان الآخر؛ لهذا يُمكن الاستدلال على مكان إقامته بسهولة ويُسر بفضل تلك المسميات الجمالية.
المُهم، طفتُ مجمُوعةً من المزارع؛ فأهم طويان قريتي المشهورة: طوي المناخ، والجهامي، والسعيدية، والعناكية، والزقاق، وطوي كافر، والسلمانية، والجديدة، والصاروج، وطوي سكندر، وطوي شمسه، والربيعية، والحاجبية، والزكيرية، والمبكية، والقتيلية، والمنينية، والمنيمية، والعرابي، والجحل، والوصيلية، والجابرية، والعجوز، وطوي العبيد، والجريرة، والجناة، وبن شايق، وبير ظل، وطوي العجلان، والقطنية، والبيرين، والحمدية، والرمانية، والمرية، والنارجلية، وطوي مسطاح، والعرفة، والمستورة، ومعاريس، وطوي البيت، والبيذامية، وطوي حبن، والقرطية، والحلوة، وبوقرامة، والرخيصة، والجالوسيات، والجالوسية، والزريبة، والمسجدية، والقاشعية، والصبارية، والياسية، والقبورية، والنجارية، والمكية، وسعد الدين، والبدو، والسدور، والنفيسية، والشمالي، وبن ثاني، والخليدي، والصفرية، والغافية، وطوي ومناوس، والرابية، والفيقين، والقريح، وطوي العش، ولغزال، وعين بني وين، الياسية، والعبادي، والبريسي، واللمبجية...وغيرها الكثير.
مرَرَتُ ببيوت قديمة في قريتي، أصبحتْ اليوم أطلالا، وبعضها لم يبقِ له أثر، تأمَّلتُ كثيرا تلك النخيلات المُحمَّلة بالثمار، بعضها لا تزال ثمارها عنجزيزا، وأخرى خلالا، وأخرى صافورا، وأخرى بسرا، وأخرى رطبا، وأخرى همادا وسحا.. هذه نخلة قدمي، وتلك خمري، وأخرى بوسلا، وتلك خنيزي، وتلك نغال، وتلك مديركي، وهذه مخلدي، وتلك صلاني، وهذه خلاص، وأخرى شبروت.. أنواعٌ ومُسمَّيات عديدة للنخيل، والتي لا يُعرف نوعها تُسمى نشو.
تذكَّرتُ تلك الأيام التي نستيقظُ فيها مُبكرا للذهاب للرقاط؛ حيث نحمل بيدنا وعاءً يُصنع محليًّا من السعف يُسمَّى الزبيل لالتقاط ما يتَسَاقط من النخيل، تذكرتُ أيَّام المسطاح والكناز أو الهمبارة، وزفانة الدعون، تذكرت المسحاة والشفطة والمجز والمحلة والصوار والعامد والوعب والجلبة والخبيل والحوض والغميلة والجابية والمغبرة والمقالة، تذكرت أيام الزاجرة والمنجور والمكينة الندنية ومكينة بوثلاثة وبو هنشين، تذكرت المذاكرة على ضوء سراج بوفتيلة، تذكرت الحمارة البيضاء الجميلة والثوج والخرج والجواد والحلس والغرضة والكاف، سَقَطتُ من على ظهرها يومًا وعادت إليَّ تشمُّ جَسَدي، كأنها أمٌّ تواسي ابنها.
تذكرت ربطة القت الصوري ومن القت الحولي، والبازري والرشيدية والمرينمبو، تذكرت المشبة والسجم والبشانة، تذكرت الجحلة والحب والخرس والماء البارد الزلال، تذكرت كيف نأتي بالماء من الشوار والموارد في كتول عفا على ظهر الحمير، تذكرت تحلقنا على السنطور وأغاني موزة خميس وحمدان الوطني، تذكرت أول ثلاجة تدخل بيتنا وحارتنا التي تعمل على حل تراب، تذكرت أول شربة ماء باردة من تلك الثلاجة، كنا نُبرِّد الماء فيها لتوزيعه على الجيران، ارتبطتُ بتلك الثلاجة كثيرا، كُنت أعتني بها، وأصنع في فريزرها العلوي آيسكريم أحمر لأبيعه لطالبات الفترة المسائية بعد خروجي من المدرسة في الفترة الصباحية، تذكرتُ أوَّل يوم لوُصُول الكهرباء إلى قريتنا.
تذكرت مغامراتي الطفولية لتسلُّق تلك النخيل العالية، والتي نسميها العوانة، من أجل قطف بعض الرطيبات أو القيرين أو البسر من أجل التبشُّر بها في أول القيظ، كُنا نعتمد على أنفسنا في مرحلة القيظ: التنبيت والتحدير والخرافة والجداد، وكذلك في مواسم الزراعة كالهياسة والمراماة والزراعة والسقي وجني المحُصُول وتسويقه.
تذكرتُ جدتِي -رحمها الله- وهي تجمع أول كمية رطب في إناء، وتطلب قراءة بعض الآيات والأدعية على تلك الكمية، ومن ثم تقوم بتوزيعها على أطفال الحارة دُون أن تأكل رطبة واحدة قبلهم، وبعدما دخلت المدرسة كانت تطلب مني أن أقوم بهذه المُهمة، ويسمَّى ذلك "ثواب"، كان ذلك بالنسبة لها بركة وأجرا.
مررتُ بضواحي القت والبازري والرشيدية والغشمر والمريمبو والشوران والزيتون والبيذام والفُرصاد والقاو، أيام كانت تلك الضواحي تعجُّ بثمار البطيخ والجح والخيار والطماطم والفندال والخيار، وكافة الخُضراوات والفواكه.
تلكَ الأشجار من الليمون والمانجو والسفرجل والمستعفل لم تعد اليوم موجودة، وعندما سألت عن سبب هذا التغير، قيل إنَّ الأرض لم تعد كما كانت، وكذا هي مياه الطويان.
ودَّعتُ تلك المزارع وذاكرتي مُتعلقة بأيام الطفولة وتلك الألعاب التي كنا نلعبها، ولم تعُد اليوم موجودة إلا في بعض كتب التراث: لعبة طلوع النخيل، لعبة تدوير الخلال، والمخُطة، والقبية، والمغاة، والحواليس، والولم، والصقل... وغيرها.
دخلتُ السوقَ القديم، مررتُ على محلِّ عبدالغفور لأشتري بعضَ القيمات، بادرني رجلٌ غريب، قال: أنا ابن أخت عبدالغفور، عبدالغفور مات من زمان، تُريد مرمرية أو زليبيا أو باكورة. قيمات كله خلاص. وهو يُحدِّثني كان تفكيري في أيام السوق القديم، كُنت أتفقد المكان: هنا العرصة، هُناك سوق السمك، هنا التبريزات التي يباع فيها الدنجو والباقل والقشاط والخبز والسخونة والقهوة، هُناك يباع القت، هُناك يباع النبق، هُناك يباع الليمون، هُناك تباع التمور والرطب، هُناك يباع الطم، هُناك الفرضة، هُناك تراكيب الحلوى. دخلتُ سوق الخضار، لم أجد إلا محلا واحدا، والبقية مغلقة.
تذكرتُ صَوْت مُحمَّد بن أحمد البواب وهو يقرأ النهمة، كنت أكتب تلك النهمة في فترة عملي بمكتب الوالي ككاتب لبثِّ تعليمات الحُكُومة قبل انتشار وسائل الإعلام والاتصالات كما هي عليه اليوم، تذكرتُ سوق السمك، وتراكيب الحلوى، تذكرتُ المناداة، وتلك الأصوات والحركة والنشاط، تذكرت تلك الشخصيات القابعة في محلاتها صباح ومساء.
لم يبقَ منهم إلا القليل؛ منهم من وافاه الأجل وتغمَّدهم الله برحمته، ومنهم من شغلته الحياة والمرض، ومنهم من بقي ينظر إلى السوق وحالته المتردية.. نشاطات تجارية جديدة شاهدتها في المحلات الجديدة، بعد أن قامت البلدية بهدم السوق وتجديده بطريقة لم تُحَافِظ على طابعه وتقسيماته القديمة، تلك المحلات الكثير منها يُديرها اليوم هنود وباكستانية وبنجالية.
خرجتُ من السوق وإذا الحصن القديم يستقبلنِي؛ لهذا الحصن ذكريات؛ ففي ساحته التُقِطت لي أول صُورة وعمري خمس سنوات لأجل دُخُولي المدرسة، من خلال كاميرا على شكل صُندُوق كبير نُصِبَت هُناك لهذا الغرض، لا زلت مُحتَفِظا بتلك الصورة وبملفي المدرسي أيضا، ومن خلال الحصن أيضًا بدأت مشوار عملي، وفي ساحته ذكريات جميلة، خاصة في الأعياد الوطنية، كنا نحرصُ على أن تكُون ساحته في أحلى زينة من الأعلام واللوحات الوطنية المعبِّرة، لنستقبل يوم العيد أفواج الطلاب بمسيرتهم الوطنية، كان الجيش يعرض في ساحته بعض الأفلام عن حرب ظفار وتحقيق النصر المؤزر لجُنُود عُمان الأشاوس الأحرار.
تذكرتُ أيامَ تجهيز المدفع وإطلاقه بمناسبة رؤية هلال شهر رمضان، وكذلك أيام الأعياد الدينية. كان أول وُقُوف لي أمام الميكرفون في هذه الساحة وعمري لا يتجاوز السادسة عشرة، وفي ذلك قِصَّة لا تنسى؛ فقد تعلمتُ منها الكثيرَ في مشواري الإعلامي كمراسِل للإذاعة والتليفزيُون في قُريات، خلال فترة من الزمن، وكذلك في الصحُف المحلية، خاصة جريدة عُمان الحبيبة.
تذكرت المستشفى القديم القريب من الحصن، الذي أنشِئ في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، أصبح موقعُه اليوم موقفا للسيارات؛ فقد تغيرت ذاكرة المكان.
واصلتُ المسير إلى القلاف والمرة والحصن، وهي حارات جميلة ولها ذكريات جميلة، نظرتُ إلى مستشفى الولادة بالقلاف؛ فكم من مولود أبصر النور في ذلك المكان. تأملت كثيرا مسجد الشيخ مالك الأثري القريب من حصن قُريات، قيل لي إنَّ هُناك نية لإزالته بهدف بناء مسجد أكبر، ومن ثمَّ يمَّمت إلى الساحل، سعدتُ كثيرا بذلك الاهتمام بخور الحلقح فهو من الأخوار البحُرية النادرة في قُريات؛ حيث يأسرك ذلك الجمال الطبيعي والخضرة الدائمة لأشجار القرم.
مرَرتُ بشارع الساحل البحري؛ فقد جمَّلته البلدية بممرات جميلة، حتى الأغنام تتراقص على تلك الممرات الملونة، شاهدتُ بعضَ الأطفال يتسلَّقون النخيلات المغروسة على ذلك الشارع والبراءة على محياهم، رأيتُ الشبابَ يتسامرون بفرح على تلك الرمال الناعمة، التي تتميز بالبرودة في فصل الصيف؛ لهذا كانت تُتَّخذ للنوم أيام الصيف قبل دُخُول الكهرباء، خاصة في عرق النوم.
تأمَّلت في موقع الجري، وإذا البحر قد ابتلع الكثير من اليابسة، وأصبح من الصعوبة الوُصُول إليه؛ ذلك المكان التاريخي له ذكريات في نفوسنا، خاصَّة أيام الأعراس؛ حيث كان يُزف العرسان بفُنُون المالد والتنجيلية إلى ذلك المكان، وكذلك إلى الصيرة.
دَخَلتُ الميناء، تذكرت أيَّام انطلاقة المشرُوع في بداية التسعينيات وحفل وضع الأساس، تأمَّلت تلك الصخور الضخمة التي جلبتها الشركة المنفذة للميناء من الجبل الذي يطل على النجمية بدغمر، أمواج البحر قد غيرت كثيرا من معالم تلك الصخور، نظرتُ إلى برج الصيرة فإذا هو شامخ كعادته عبر السنين والدهور، قُلت في نفسي مُنذ أيام ترميمه من قبل الشركة المنفذة للميناء لم أصعد إلى هذا البرج، فالمياه أصبحت تحيط به من جميع الاتجاهات؛ فلا بد للمغامرة للتعرف عليه أكثر بعد هذه السنوات الطويلة، أتذكَّر أيضًا تلك الجُهُود التي بُذلت من أجل تصميم نموذج لهذا البرج على مدخل الوُلاية عند قب علي بالسليل، والذي نفذته الشركة المنفذة للميناء مشكورة. ساحة هذا الميناء أصبحت اليوم متنفسا لأبناء الوُلاية والسياح لجماله وإطلالته على البحر.
أثناء رُجُوعي، وقفتُ طويلا على الساحل، شدَّني ذلك الرجل الستِّينِي، الذي غرس عَصَاته في الرمل ووضع عليها كِمته ونظره إلى البحر يتأمل فيه بعُمق وتركيز، تذكَّرت البدانة وقوارب الغادوف وقوارب الشراع، لم تعُد اليوم موجودة، تذكرت أيام سباق القوارب والمهرجانات البحُرية. تأملت كثيرا تلك الباورة الضخمة من بقايا سفينة برتغالية غازية، وتأملت أكثر في جامع الإمام ناصر بن مرشد اليعربي وحِصنه المنيع في الساحل، مررتُ بقبور البرتجيس، ما زالت معالمها باقية ومميزة، تحيط بها البيوت من كل صوب.
قُلت في نفسي: لازم اليوم أزور مقر النادي القديم.. أيام جميلة من عمري قضيتها في رحابه مع شباب أوفياء؛ سواءً كنت عضوًا أو إداريًّا، تذكرت الملعب المعشَّب، وأول لقاء رياضي استضافه في العام 1997م، نظرتُ إلى المسرح الذي على خشبته قدم الشباب عشرات العروض الفنية والمسرحية؛ فإذا هو محل تجاري -قيل لي أصبح يومًا مخبزًا- ومبنى الإدارة أصبح مقرًّا لجمعية المرأة العُمانية.
قُلت في نفسي: البركة في المبنى الجديد للنادي؛ ذلك المبنى الذي خُطط له بصُورة صحيحة، وكان لي شرف المُشاركة في رسم رؤيته المُستقبلية على الرغم من وُجُود بعض الاعتراضات في ذلك الوقت، كون المكان كان يخلو من العُمران، وقد أثبتتْ تلك الرُؤى جدواها اليوم، وأنا أشاهد تلك التجمُّعات الشبابية والمجمَّعات العُمرانية تُحِيط بمنشآت النادي بطريقة تخطيطية منظَّمة.
ولجت إلى مبنى السينما في الراحضي، فوجدته مبنى متهالكًا تتربى فيه السَّنانير، شاشة العرض ما زالت باقية، وكذلك قاعة المشاهدة بتقسيماتها، سينما قُريات يعود تاريخها إلى نهاية السبعينيات، وتعدُّ -حسب ذاكرتي- ثاني سينما أو ثالث سينما في عُمان، بعد سينما النصر وبلازا، كنا نستمتع بأفلام عنترة وعبلة وشيبوب... وغيرها من الأفلام.
بعد رُجوعي، يمَّمت صوب الجنين، مررتُ بشجرة الصبارة العتيقة، وغافة الخروس ذاكرة المكان، صعدتُ إلى برج جبل خرموه وجدته صامدا وهو بحاجة لترميم، ولجتُ في عُمق البرج تأملت تصميمه الفريد وتلك الكتابات في جدرانه، وهي عبارة عن مشاعر إنسانية عبَّر بها العسكر أيام زمان، صوَّرتها قبل أن تندثِر لعلَّ الحاجة تأتي يوما لفك معانيها ودلالاتها الأدبية والإنسانية.. وبذلك ختمتُ هذه الرحلة الجميلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.