هذا المساء، كانتْ لي رحلة راجلة في الذاكرة، تتبعت فيها أحد الطرق التراثية القديمة، الذي عبره الأجداد.. مساره على حواف من الهضاب الصخرية، وبين منخفضات مجاري السيول، تحفه بعض الجلاميد الضخمة، والصخور الارتكازية الجميلة، ذات الأشكال والألوان التي تسحر الألباب.
كان مسارا إستراتيجيا في حقب زمنية غابرة، تسلكه قوافل "السفافير" القادمة من وادي دماء والطائيين وشرقية عُمان، مرورًا بمسار وادي ضيقة، والمزارع، وحيل السلم، فحيل الغاف، ثم دغمر، أو سوق قُريَّات.
تنوخ تلك القوافل؛ المحملة بخيرات الأرض، وصناعة يد الإنسان، تحت ظلال "حصاة السفافير" للراحة والاستجمام، بعد نصب ووصب تجلدوه في رحلتهم وسفرهم، عبر ذلك الطريق الوعر بمقاييس ذلك الزمان. وقبل أن تفرغ بضاعتهم المحملة على ظهر الدواب في سوق حيل الغاف القديم -ثاني أكبر الأسواق في قُريَّات- بعد سوق قُريَّات المركزي القديم.. منتجاتٌ متنوعة تحملها تلك القوافل؛ من بينها: ثمار الفاكهة كالسفرجل، والبوعنوق، والنارنج، والبصل الأبيض، إضافة إلى نوع من التمور المجففة من تمر النغال، تسمى: "سح مسحح" أو "قحف"، كانت تشكه النساء في خيوط بديعة، بطريقة فنية وإبداعية جذابة، فيرتديه الأطفال في أعناقهم وعلى صدورهم، فيفتكون منه الواحدة تلو الأخرى، في جو من الفرح والبهجة والسرور.
بدأتْ رحلتنا من أمام بيت البرج، أحد البيوت القديمة في حيل الغاف، له ذاكرة حافلة بالمجد العظيم، كانت بساتين اللولية "الأولية" تحفنا بخضرتها اليانعة ونسيمها العليل، فيما الطيور و"صراريخ القيظ" تطربنا بتغريداتها وصفيرها، كأنها تعزف ألحان الطبيعة وأنغام الحياة.
مررنا بآثار تركبة الأولية، ومصاطيح الفاغور؛ فهناك كانت تطبخ بسور "المبسلي"، ذاكرة حيل الغاف الزراعية والاقتصادية.
ولكم كان يوم "التبسيل" يوم فرح وعيد للرجال والنساء والأطفال، يخلق فرص عمل وفيرة للجميع، وهو أيضا ملتقى ثقافي واجتماعي واقتصادي شهير، يشهده طائفة من الناس في جو اجتماعي وتعاوني وإنساني، قل نظيره اليوم.
وصلنا حصاة "السفافير" مع حلول المساء، كان مشهدا مهيبا، هناك ذاكرة مكان وإنسان، ثمة حمير أيضا متناثرة على تلك الهضاب، استقبلتنا بشحيجها أو نهيقها، كأنها مشتاقة للعمل، وتعيد ذاكرتها ومسارها القديم، هي اليوم تعيش راحة رغيدة في جماعات، بلا عناء أو مشقة.
وحصاة السفافير.. عبارة عن كتلة صخرية ضخمة، مرتكزة ومنتصبة بشموخ وكبرياء، على جانب ذلك المسار الأثري القديم، مدهشة في تكوينها ولونها وجمالها الطبيعي، عوامل التجوية والنحت كونت منها لوحة طبيعية تأسر القلوب وتريح الأبصار.
ولمن لا يعرف، فمصطلح "السفافير" كان يطلق على القادمين من الفيافي والجبال والحيول، لتصريف منتجاتهم في الأسواق. وكلمة "السفافير" قد تكون مشتقة من السفر والترحال، وهناك أيضا على جانب السوق القديم في قُريَّات أشجار كثيفة من الغاف، تسمى "غاف السفافير". وكان "السفافير" بعد تفريغ بضاعتهم في سوق حيل الغاف وتسويقها وبيعها، يتجهون إلى ساحل دغمر، عبر طريق "الفج" أو عقبة "النجمية" فيتبضعون الأسماك الطازجة، فيحملونها على حميرهم مشوية أو مدخنة أو مملحة، وفي طريق العودة ينوخون مرة أخرى عند حصاة السفافير لتوديعها، ثم يعبرون مسارهم إلى بلدانهم بأرزاقهم، وكلهم شوق إلى أحبابهم، محملين بما لذ وطاب من أصناف الطعام، وأجمل الصوغات.
دعوة للشباب هواة المشي وتسلق الجبال، ومحبي التأمل والتفكر والتدبر، وكذلك للجيومورفولفوجيين والجيولوجيين، الاهتمام بمثل هذه المسالك والطرق الأثرية القديمة، فهي تختزن ذاكرة مكانية وإنسانية مهمة من تراثنا الطبيعي والثقافي، بتنوعه وتجلياته المشرقة.
كتبه/ صالح بن سليمان الفارسي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.