الخميس، 10 مايو 2018

ذاكرة.. القيظ أيام زمان

الحمدُ لله، بدأتْ مُنذ أيام تباشير القيظ في بعض ولايات السلطنة، هُناك عادات عُمانية عديدة لاستقبال هذا الموسم، وجميعُها تتجسَّد فيها قيم التعاوُن والتكافل والتكامل بين أفراد المُجتمع.
ولثِمَار النخيل مراحل ومواسم تبدأ بمرحلة الطلع، ثم التنبيت، ثم التحدير، ثم الخرافة، وأخيرا الجداد، ومُسمَّيات نضوج ثمرة النخيل تبدأ بالطلع، ثم بلح أخضر مُعلَّق بالشماريخ يُطلق عليه العنجزيز، ثم الخلال، فالصافور، ثم يتحول إلى البسر، ولونه أصفر أو أحمر، ثمَّ باسومة، بعدها الباسوم والقيرين والرطب، وأخيرا السح أو التمر.
وقديمًا، اعتاد الكثير من الأهالي على قضاء أيام القيظ في الواحات الزراعية؛ حيث الماء والجو اللطيف، خاصة سُكان السواحل نظرًا لارتفاع الحرارة؛ فهو مَوْسم إجازة بالنسبة للبحارة لارتفاع الرطوبة وقلة الأسماك؛ وذلك لا يخلو من علم ومعرفة لإتاحة الفُرصة للأسماك والكائنات البحُرية لمزيد من التكاثر.
ويُطلق على الذين يفدون لموسم القيظ في الواحات الزراعية بالحضور، ولعل الكلمة مُشتقَّة من كلمة الحضارة أو التحضر، وكان قديمًا يسود المُجتمع التعاوُن، حيث يمكن الإقامة المؤقتة خلال فترة القيظ في أي مزرعة بعد استئذان صاحبها وبدون مُقابل.
ويُقيم الأهالي لهذا الموسم منازل لهم للتصييف تُبنى من سعف النخيل، ومن مُسمَّياتها: العريش، والخيمة، والكرجين، والسجم، إضافة للمسطاح لتجفيف التمور، التي يتمُّ جمعها من تحت النخيل أو عند موسم الجداد؛ فقد جرى العرف إمكانية جمع ما يتساقط من النخيل وأشجار الفاكهة الأخرى من قبل أي شخص دُون وُجُود أية موانع من قبل أصحابها، ويُسمَّى ذلك بالرقاط؛ فجميع المزارع أو المقاصير كانت مكشوفة أو مفتوحة على مصراعيها دُون وُجُود أي حواجز أو جدران.
ومِن عَادَات القيظ أيضًا: الطناء؛ وهي عملية مزايدة علنية لشراء ثمار النخيل، وتسمَّى هذه العادة بالطناء، ولها طقوس وعادات معروفة لدى الأهالي، ولها أبعادٌ اقتصادية واجتماعية، وهُناك أيضًا عادة الخرافة والنفاض والجداد والتبسيل، والكناز والتنضيد.
وكانَ قديمًا يَحْرِص الأهالي على إهداء أول حبات الرطب للأطفال والجيران، ويُسمَّى ذلك "الثواب"، وتهدى بعض عذوق النخيل أيضًا عند الجداد، ويسمى الجداد أيضًا بالتربع أي موسم قطع عذوق النخيل والاستعداد لنهاية الموسم، وعودة الحضور لمساكنهم الأصلية.
ويقوم بعملية الجداد البيداربمعاونة الجيران، ولهم في ذلك حصة من الثمار، والبيدار هو من يهتم بالمزرعة وتنبيت وتأبير وشراطة النخيل، وله مُقابل ذلك عسقة واحدة من ثمار كل نخلة، وعادة يكُون البيدار لديه مهارة طلوع النخيل حتى العوانة منها.
وللنساء أيضًا عادة في موسم القيظ حيث يقدمن عذوق ثمار النخيل كهدايا لمن لا يملك أشجار النخيل، وتسمى هذه العادة عند النساء بالسهومه، وفي المُقابل يقدم أهل الساحل بعض الأسماك المملحة أو المجففة لأصحاب الأموال والنخيل (الهنقري)، وبدورهم يقوم أصحاب المزارع والمقاصير بتقديم بعض الرطب والتمر أو عذوق النخيل عند موسم الجداد كرد للجميل.
وفي نهاية موسم القيظ، بما يُسمى يوم الجداد، يجتمع الجميع للمساعدة، فهُناك من يتناول عذوق النخلة من ميراد البيدار ومخلاته الخوصية، وهُناك من ينقل تلك العذوق المحملة بشماريخ البسر أو الرطب أو السح إلى المسطاح، والجميع ينشد: طاح ميراده الجداد، يشتغل على أولاده الجداد.
الأطفال والنساء أيضًا تجدهم يرقطون (يلتقطون) ما يتساقط تحت النخلة في أوعية تُسمى الزبيل والقفير والجبة، الأطفال الذكور يحملون القفير والزبيل، وللبنات لهن أوعية صغيرة مصنُوعة من الخوص أيضًا ومزركشة بألوان تُسمى الجبة، وهي أصغر حجما من الزبيل.
وكان الأطفال يحرصون على جمع ثمار النخلة المتساقطة حتى وأن كانت في غدر النخلة أو ما بين الخوص، حيث يتم استخراج تلك التمرة من بين الخوص بسلاة وتسمى تلك الطريقة بالتقعين.
وتستهوي الأطفال قلع نبات الفحل في بدايته ويسمونه الغيظ له طعم لذيذ ومُفيد، وكذلك خشي قمة النخلة عند سقوطها لاستخراج الحجب من قلبها وله أيضًا طعم سكري فريد.
موسم الكناز هو إحدى أوجه التعاوُن بين أفراد المُجتمع، فكل يوم تجد أهل القرية مع شخص من أجل كناز التمر، والكناز هو عملية جمع التمر وهرسه بالأرجل حتى يصبح ناعما أو عجينة، ومن ثم يوضع في أوعية خوصية تُسمى الجراب أو الخصف أو الظرف، وهي على شكل اسطواني، وتشك من الأعلى بأداة تُسمى المسلة وخيوط رفيعة تُسمى السرود.
وتتجسد عملية الكناز بأن يدعو صاحب التمر جيرانه وأهل محلته للكناز في يوم معين، وفي مساء اليوم السابق للكناز يجمع التمر في المسطاح على شكل هرم ويرش بالماء لتليينه، والمسطاح هو مكان مكشوف محاط بسور من الدعون، وقد يفرش أرضية المسطاح بالحجارة أو الدعون حسب طبيعة الأرض.
وفي الصباح الباكر تبدأ عملية الكناز وتسمى أيضًا الهمبارة، حيث تفرش السمة، وهي دائرية الشكل ومصنُوعة من سعف النخيل، ومن ثم يقف الرجال في وسطها، ويقوم عدد من الصبية بنقل التمر من المسطاح في أوعية خوصية تُسمى القفر ومفردها قفير وتسمى أيضًا مُبدع، ويتم نثر التمر في وسط السمة، ويقوم الرجال بدوس التمر أو المشي عليه بقوة حتى يتحول التمر إلى عجينة، ومن ثم يقسم في أوعية خوصية تُسمى الظرُوف أو الضمايد، وللهمبارة عادات واناشيد معروفة وجميلة.
هُناك أيضًا زفانة الدعون، وهي عملية فنية لا يتقنها إلا ممن لديه الخبرة في ذلك، والدعن هي عبارة عن رص لخوص النخيل أي أغصانها اليابسة بطريقة فنية، ويتم ربطها بحبال مصنُوعة من ليف النخيل أيضا، وللدعن مقاسات من حيث الطول والعرض حسب رغبة صاحبها.
وقديما أيضًا كانت هُناك في حيل الغاف مراجل كثيرة للتبسيل، فحيل الغاف كانت مشهورة بنخل المبسلي، وأصبح اليوم معدوما، وللتبسيل عادات جميلة، وله قيمة اجتماعية واقتصادية، وهُناك أيضًا مُعاصر مشهورة لقصب السكر، حيث تتجلى فيها أوجه التعاوُن بين أفراد المُجتمع.
أضف إلى ذلك فان موسم القيظ مشهور بتلك الرمسات الجميلة في المساء على السجم أو الدكانية أو على عروق الرمال الناعمة والباردة لتبادل الحكايات والقصص والأخبار على نسمات الكوس بعد يوم شاق من الحركة والعمل.
بالإضافة إلى الألعاب الجميلة المُرتبطة بالقيظ مثل: لعبة طلوع النخيل ولعبة دوامة الخلال.. وغيرها، وجميعها ألعاب لها ارتباط بالنخلة وبالحركة والنشاط وتحريك خيال الفكر والإبداع.
ومن أشهر النخيل في قُريات التي تبتدئ بالقيظ نخلة القدمي والنغال، وآخر النخل نضجا الخصاب، ويحرص الأهالي على أداء فرض زكاة التمور، وقديما كانت تسلم لوكيل الدائرة، وهو موظف في دائرة جمع زكاة الأموال ويسمى بالمزكي، والزكاة قديما تُشكل إحدى المصادر الرئيسية لدخل الدولة قبل اكتشاف النفط.
وجميع أجزاء النخلة ومخلفاتها لها استخدامات عديدة، فلا يوجد جزء من النخلة إلا وله استخدام، فهُناك الحجب والغيظ والعساوه والخوص والجذوع والحبال والليف والسلا... والكثير لا تعد ولا تحصى.
عادات موسم القيظ اليوم لا يعرفها الجيل الجديد لعدم معايشتهم لها، وللأسف قد اختفت الكثير منها لتوفر سبل الراحة وانشغال الناس، ومن المُهم توثيقها وتسجيلها وتدريسها ونشرها من خلال وسائل الإعلام المُختلفة، والتعريف بها من أجل أن يعرف هذا الجيل كيف كان هم من قبلهم يعيشون ويعملون من أجل رفعة شأنهم واعتمادهم على أنفسهم في توفير الحياة الكريمة والهانئة، وببساطة شديدة دُون أي تكلف، يسودها جو التعاوُن والمحبة بين كافة أفراد المُجتمع.
هذا من ذكريات أيام القيظ أيام زمان، هنيئا لكم أيها الأصدقاء الكرام بقدوم موسم القيظ والرطب اللذيذ ذو الطعم الفريد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.