زُرت الهند في تسعينيات القرن الماضي، كانتْ رحلتي
الأولى إلى مدينة كوتشي، أو كوتشن، التابعة لولاية كيرالا، قاصدا مدينة إنجمالي لمُقابلة
الدكتُور توني، الطبيب المعروف عند أهل قُريات والكثير من العُمانيين. كانت تلك
الرحلة أول سفرة لي إلى الهند؛ ولهذا سألت كثيرا، وجمعت معلُومات وفيرة عن المنطقة،
وطبيعة التعامل مع سُكانها، مُنذ الوُصُول إلى المطار حتى مُقابلة الدكتُور توني
في مستشفى إنجمالي، والذي فيما أعتقد تدعمه الكنيسة المسيحية في تلك الديار.
ولاية كيرالا بالهند لها موقع فريد على المحيط
الهندي، وكانت محط أنظار الكثير من العرب، خاصة العُمانيين مُنذ قديم الزمان؛ بهدف
تبادل التجارة وصناعة السفن وللسياحة أيضًا؛ حيث تشتهر بمناظرها الخلابة الخضراء، وبأشجار
جوز الهند (النارجيل) الباسقة، وكذلك بزراعة الشاي، والكثير من الأشجار والنباتات
التي لا تُعد ولا تُحصى.
قبل سفرنا، سمعتُ عن رجلٍ هنديٍّ اسمه ناير، سبق
له وأن عمل في السلطنة، وبعد رجوعه إلى بلاده أصبح يخدم كلَّ عُماني يزور كيرالا؛ حيث
يتولى الترجمة وتقديم الخدمات اللوجستية للمسافرين العُمانيين، مُقابل ما يُحسنون
عليه دُون أي شروط. وصلنا المطار، وأنهينا إجراءات السفر بسهولة ويسر، ومن ثمَّ
استقللنا سيارة الأجرة بقصد السكن في أحد الفنادق، وما إنْ دخلنا غرفة الفندق إذا
بأحد الأشخاص يطرق علينا الباب! من أنت؟ نسأله. يجيب: أنا ناير، مُصَاحَبة بهزة من
رأسه. دخل علينا ناير، وسمع قصة مجيئنا إلى تلك الديار. كما سمعنا منه أيضًا قصة
وجوده في عُمان، والأعمال التي اشتغلها، والولايات والقرى التي عمل فيها في عُمان،
ودائما يردِّد كلمة: "موه فايدة.. موه فايدة". المهم، اقترح علينا أن
نذهب إلى الدكتُور توني في منزله؛ حيث اعتاد أن يقابل بعض المرضى في عيادة فتحها
في منزله الخاص؛ لمساعدة أهل بلدته، وبرسوم رمزية.
ذهبنا إلى الدكتُور توني في منزله، وبإجراءات
بسيطة قابلناه وعملنا الفحوصات الأولية، وفي الوقت ذاته، قام بتحويلنا إلى
المستشفى للترقيد في اليوم التالي لإجراء عملية في العيون لأحد مُرافقينا من
الأسرة. الدكتُور توني هذا أحد أشهر أطباء العيون في كيرالا، ووجدنا الكثير من
العُمانيين يُعالجون معه، وهو يعمل من الساعة السابعة صباحا وحتى المساء، مُتنقلا
من مستشفى إلى آخر لإجراء العمليات، ومن ثمَّ يعاود عمله في عيادة منزله حتى ساعات
متأخرة من الليل.
لم أسمع منه يومًا يشتكي من تعب أو ملل؛ فهو مُحب
لمهنته، ومُخلص لها. سألته مرة: لماذا لا تُسافر إلى دولة خليجية للعمل هُناك؟
أجابني: ولماذا أسافر وأنا أشعر براحة في بلدي، وبسعادة في خدمة وطني وأهلي، ودخلي
هُنا يُضَاعف ما أحصل عليه من هُناك. سمعت اليوم عن الدكتُور توني بأنَّه يملك أحد
أكبر المستشفيات لطب العيون في الهند، وورَّث مهنته إلى أحد أبنائه.
المُهم، أخذَنَا ناير في اليوم التالي إلى مستشفى إنجمالي
للعيون، وتمَّ تخصيص غرفة لنا، وجدنا الغُرفة مُتواضِعة جدًّا تتكون من سرير خشبي
عادي وأثاث بسيط، لا تُوجد تلك الأجهزة التي اعتدنا عليها في الكثير من
المستشفيات. وبالمصادفة، وجدنا في المستشفى الكثير من العُمانيين، ومن أهل ولايتنا
أيضًا، شعرنا بالارتياح والسكينة في ظل وجودهم.
كما أنَّ ناير كان مُخلِصا في خدمة الجميع، يحضر
لنا الأكل والحليب الطازج مع كل وجبة، ولا يُغادِرنا إلا في المساء، وكان يرافق
المريض حتى داخل غرفة العمليات، بل وجدته يومًا لابسا ثياب المستشفى من أجل تهدئة
مريض شعر ببعض التعب النفسي عند دُخُوله لإجراء العملية.
جميع غُرف المستشفى مُعلَّق فيها الصليب؛ لكون
جميع من يعمل فيه من الديانة المسيحية، والمستشفى أيضًا تحت إشراف الكنيسة، ويتلقَّى
الدعم منها؛ من أجل مساعدة الضعفاء من سُكان كيرالا ومدينة كوتشن على وجه الخصوص،
ودائمًا ما تسمع ترانيم صلوات الممرضات مع الغروب بصوتهن الخافت الجميل.
أخذ يومًا أحد المسلمين من أهل الخليج المرقَّدين
في المستشفى الصليب من جدار الغُرفة، ووضعه في الحمام، بحجة أنه مسلم، ويريد أن
يصلي في الغُرفة، كُنت أتوقع أن يتم لومه من قبل إدارة المستشفى، إلا أنَّ أمرا من
هذا لم يحدث؛ من شدة احترامهم للمسلمين.
سُكان كيرالا يعيشون في سلام مُجتمعي غريب؛ فهم
على الرغم من اختلاف اللغات واللهجات والديانات لديهم، إلا أنهم يعيشون في تفاهم
وتسامح، لا تجد له مثيلًا في العالم، الكلُّ في شغله وهو حرٌّ في توجهاته ومُعتقداته،
لديهم كثافة سُكانية من المسلمين تصل إلى 20% من نسبة السكان، وهم يُؤدُّون
عباداتهم بحُرية كاملة في مساجدهم، المنتشرة في أنحاء مُختلفة من كيرالا.
في كيرالا الجميع يجب أن يعمل لكي يُوفر لقمة
العيش لأهله وأسرته؛ المرأة عندهم تكد وتكدح في أعمالٍ بعضُها شاقٌّ جدا، حتى في
مهنة البناء تجدها موجودة، المهم عندهم العمل. دخلتُ مرة مصنعا في قرية من كيرالا،
وجدتهم يزرون الماء باليد بطريقة تقليدية من بئر مفتوحة، ويتم تعبئة زجاجات بالماء،
وتضغط على آلة على أنها مياه غازية، المهم عندهم أن يعملوا، وهم أيضًا حريصون جدا
على تعليم أولادهم بكل طريقة.
أخذَنَا ناير يوما في نزهة بمدينة كوتشن الجميلة،
وكَم من سعادة غمرتني وأنا أشاهد لوحة بنك عُمان الدولي على واجهة أحد المراكز
التجارية الكبيرة بمركز المدينة، إنَّه اسم عُمان الغالية، هذا الاسم التجاري
للبنك تم تغييره للأسف الشديد بعد اندماج البنك مع بنك HSBC،
ليحمل اسمه الجديد، وشعُرت حينها بغصة كبيرة، حتى دفتر وبطاقة حسابي البنكي معهم
لا يزال يحمل الاسم القديم، ولم أبدله حتى الآن بالاسم الجديد على الرغم من
مطالبتهم بذلك.
على العُموم، صديقنا ناير هذا لا يمُت بصلة إلى
الإسلام، إلا أن سلوكه وأمانته جعلت الكثير من العُمانيين يثقون فيه ويحبونه، حتى إنَّ
أحدهم سلمه محفظة نقوده، وفيها الآلاف قبل دُخُوله للعملية، وكان حينها وحيدا دُون
مرافق، وعندما صحا من العملية وجد ناير على رأسه ساهرًا على خدمته، وحافظا لماله.
يقول ناير إنَّه مُحب لعُمان كثيرا، حتى إنَّه
يسجل اسم كل عُماني يزور كوتشن في سجل يحمله في جيبه، مُتفاخرا بأنه يعرف فلان
وفلان وفلان من عُمان، وللأسف الشديد علمت مُؤخرا أن ناير قد تُوفِّي؛ وذلك قضاء
الله وقدره.
رِحْلَتي الثانية كانتْ إلى مومباي الهندية، لم
أشعر بذلك الارتياح عند زيارتي لها كما شعرته في كوتشن الجميلة، مومباي كثيرة
الازدحام والتلوث أيضًا، إلا أنها مركز اقتصادي وتجاري مهم في الهند.
كان مقصدُنا لها أيضًا لغرض الاستشفاء، وقد لمسنا
مُساعدة طيبة من قِبل قنصلية السلطنة في مومباي، كان حينَها الأخ سعيد السلماني
على رأس القنصلية هُناك، وهو بالمناسبة أحد أبناء ولاية قُريات، وكان خدُوما
للجميع.
وأثناء هذه الرحلة إلى مومباي، استوقفني رجل كبير
في السن من أهل الخليج، جالسا أمام أحد المحلات التجارية، جلستُ بجانبه وتبادلنا
الأحاديث والذكريات، فوجدته صاحب حِكمة وخِبرة في الحياة، وسألني عن هدف زيارتي
للهند، فأجبته: أنا برفقة والدي من أجل العلاج. حدثني عن سبب زيارته للهند قائلا إنَّ
سبب وجوده هنا من أجل متابعة بعض الأوقاف لأهله في الهند، وقال لي أيضا: يا ولدي، لديَّ
كلمة لك. قلت: له تفضل الوالد. قال: شباب الخليج مُسرفون وغير مُبالِين بعواقب
الدهر والأمور، لم يحسوا بتعب الأيام، همُّهم الرفاهية فقط. وأضاف: الرجل عليه
بالأرض، والمرأة عليها بالذهب، في ادخار المال. فهي أفضل استثمار للشباب، وقبل كل
شيء تمسُّكهم بالعلم والدين والأخلاق والقيم، مُمتدحا أهل عُمان كثيرا.
كانتْ إقامتنا في مومباي في فندق الخليج، بمنطقة
تُسمى كولابا، وأثناء فترة إقامتنا في الفندق تعرَّفت أيضًا على أحد المُقيمين،
شاب من أهل الخليج، دائما ما يرتدي ملابس أهل البنجاب الواسعة الفضفاضة، يوما
شاهدتُ تجمعا كبيرا خارج الفندق حول هذا الرجل؛ الأمر الذي وصل حدَّ الاعتداء عليه
بالضرب، وقد علمتُ لاحقا أنه يقوم ببيع تأشيرات عمل مُقابل مبالغ كبيرة، ومن ثمَّ
لا يوفي بوعده.
حينها فكَّرت بناير في كيرالا، ومدى أمانته وخدمته
للعُمانيين والخليجيين بصفة عامة، وقارنتُه بهذا الخليجي الذي يُوهِم الفقراء
بالعمل، ويمتص أموالهم بوجه غير حق، فوجدتُ بينهما بونا شاسعا.. ودُمتُم سالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.