هذه بعضُ الذكريات، والمشاهد، والانطباعات، والمشاعر الشخصية، التي واكب بعضُها منظرًا لصُورة التقطتها من البيئة والطبيعة العُمانية، أو ذكرى من التاريخ والتراث الثقافي انطبعت في الذاكرة والوجدان، أو تأثر وانطباع خاص تجاه موقف أو مشهد من الحياة، أو شذرات من رُؤى ونظرة مُتواضعة إلى المُستقبل، أو وجهة نظر ومُقترح في مجال الإدارة والتنمية الإنسانية.. هي اجتهادات مُتواضعة، من باب نقل المعرفة، وتبادل الأفكار والخبرات، وبهدف التعريف بتراثنا الثقافي (المعنوي، والمادي، والطبيعي)، ومنجزنا الحضاري.
الاثنين، 29 أبريل 2019
مِن الدَّارجة العُمانيَّة
بَارِز: الكَلِمَة لَهَا دَلَالة عَلى جَاهِزيَّة الطَّعَام، يُقَال: الغَدَا بَارِز؛ أي: جَاهِز، ويُقَال: بَرّزوا العَشَا؛ أي: قَدِّمُوا طَعَام العَشَاء عَلى السُّفرَة.
الاثنين، 22 أبريل 2019
الأحد، 21 أبريل 2019
اقتِرَاح
سُوق قُريَّات القَدِيم صَرَفتْ عَليهِ الدَّولَة مَبَالِغ كَبِيرَة لتَجدِيدِه؛ فِي بِدَايَة افتِتَاحِه كَان يتَّسِم بالنَّشَاط والحَرَكَة، لَا سِيَّما فِي مَجَال بَيْع اللُّحُوم والخُضَار والفَاكِهَة.. بَعْد قَرَار مَنْع الوَافِدِين مِن العَمَل فِي هَذَا المَجَال، أَصْبَح السُّوق يتَرَاجَع بصُورَة لا تَسُر، ولَا تَلِيق بمَكَانتِهِ التَّاريخيَّة.. مِنَ المُهِم جِدًّا إعَادَة النَّظَر فِي قَرَار مَنْع الوَافِدين فِي العَمَل بقِسْم الدَّوَاجِن واللُّحُوم والخُضَار فِي السُّوق القَدِيم؛ لأنَّ الكَثِير مِنهُم يَعمَلون الآن فِي مَحلَّات ومَرَاكِز تِجَارِية خَارِج السُّوق، بَل هُنَاك مَن يَعمَل مِنهُم فِي مَجَال بَيْع الأسْمَاك بالتَّجزِئَة خَارِج سُوق السَّمَك أيضًا.. كَمَا يُمكِن للهَيئَة العَامَّة للصِّنَاعَات الحِرفيَّة التَّفكِير فِي تَخصِيص أَحَد أَقسَام السُّوق لتَسوِيق المُنتَجَات الحِرَفيَّة، ليَكُون مَقصِدًا للسُّياح، خَاصَّة وأنَّ السُّوق يَقَع بالقُربِ مِن حِصْن قُريَّات التَّارِيخِي، وهُنَاك أَفوَاج سِيَاحيَّة تَزُور تِلك الأَمكِنَة التَّاريخيَّة.
السبت، 20 أبريل 2019
الشِّرِيش
لشَجَرَة الشِّرِيش فَوَائد كَثِيرة، يُشبِّههَا البَعضُ بالصَّيدَليَّة لأَهمِّيتهِا العِلَاجيَّة.. هَذِه الأيَّام تَبدَأ هَذِه الشَّجرَة بطَرْح زَهرِها ذي اللَّوْن الأَبيَض وكَأنَّه اليَاسَمِين، لَهُ رَائِحة فَوَّاحة.. كَانَت قَديمًا مَحطَّة لفِرَاش النَّوْم فِي وَسَط الحُوش، قَبل مَا نَعرِف مُكيِّفَات الهَوَاء؛ فَهِي مَبعَث رَاحَة مَع نَسَمات الكُوس.
النَّخلَة وفُروعُها
الفَسِيلَة فِي بِدَايَة نُموِّها فِي حُضن أُمِّها النَّخلة، تُسمَّى «قعُو»، وإِذَا كَان نُموُّها فِي الجِذْع دُونَ مُلَامَسة التُّرَاب سُمِّيت «ركّاب أو رَاكُوب»، وإِذَا كَبُرت وفَسَلت سُمِّيت صَرمَة، بَعدَهَا تُسمَّى غَشن، وخَرَايف، ثُمَّ نَخلَة وعوانَة.. وإِذَا كَان نُموُّها مِن الفَلح «النَّوى» سُمِّيت نَبتَة، وإذَا كَبُرت سُمِّيت نشُو أو قَش مع اسمٍ مُرَادِف؛ مِثل: قَش بطَاش، قَش المنُومَة، نشُو الصُّوار.
الجمعة، 19 أبريل 2019
للصَّيْف خَيرَات عَلى الرَّغْم مِن قَسْوَة حَرَارتِه
مَا يُميِّز فَصْل الصَّيْف فِي عُمان تِلكَ الأَشجَار التِي
يَفُوح مِنهَا رَائِحَة الزَّهْر وأَطْيَب الثِّمار، مَوَاسِم زِرَاعيَّة مُتتَاليَة
تُبهِج النَّفْس والخَاطِر.. قَبْل أيَّام أَتحفَتنَا أَشْجَار السِّدر بأَجْمَل
النَّبق، تَلتهَا أَشْجَار الشِّريس بزَهْرِها الفوَّاح، تَلتْهَا أَشجَار الغَاف
بجَمَال ظِلَالِها الوَارِفَة وبحُسْن الزَّهْر والثِّمَار، وهَا هِي أَشجَار القَاو
تُبهِج المَكَان بخُضرَتِها ومَنظَر زَهْرِها وجَمَال ثِمَارِها.. هَكَذا هُو الصَّيْف
عِندنَا عَلى الرَّغْم مِن قَسْوَة حَرَارتِهِ فَفِيهِ الخَيْر الكَثِير.
أُغنيَة مِنَ التُّرَاث العُمَانِي
حُول حُول يَا صَغيَّرين.. حُول دَايِم يا صَغيَّرِين.. مَا قِصَّة هَذِه الأغنِيَة التُّرَاثِيَّة؟ وكَيْف تمَّ إنتَاجُهَا؟ وكَيْف انتَشَرتْ؟
يَرْجِع الفَضْلُ فِي الحِفَاظ عَلى الكَثِير مِن فُنُونِنا الشَّعبِيَّة إلى الاحتِفَالات الوَطَنيَّة، إِضَافَة إلى الجُهُود الكَبِيرة التِي يَبذُلها مَركَز عُمان للمُوسِيقى التَّقليديَّة فِي حِفْظِ وتَوثِيق التُّرَاث المُوسِيقِي مُنذ سَنَوات طَوِيلة.. لَقَد اتَّسمَت الاحتِفَالات القَدِيمَة بمُنَاسَبة العِيد الوَطنيِّ المَجِيد بهَذَا الطَّابع مُنذ السَّبعينيَّات، وَقَد بَذَلت مِن خِلَالِها جُهودًا طيِّبَة فِي تَجدِيد فُنُونِنا المُوسِيقيَّة القَدِيمة وتَوثِيقِها.
أُغنِيَة تُرَاثيَّة أَنتَجهَا مَركَز الإِشرَاف التَّربَوي بقُريَّات مَعَ بِدَايَة التِّسعينيَّات مِنَ القرنِ المُنصَرِم، كَان عُنوَانُها «حُول حُول يَا صِغيَّرين»، وَهِي تَطوِير لكَلِمَات كَانَت تُقَال بمُنَاسَبة الحُول الحُول (عِيدِ المِيلَاد) فِي عَدَدٍ مِن ولَايَات السَّلطَنة.. والحُول حُول هُو احتِفَال يُقَام مَرَّة وَاحِدة فِي حَيَاة الإنسَان، عِندَمَا يَبلُغ السَّنة الأولَى مِن عُمرِه، ولِهَذَا الاحتِفَال وعَادَاته المُصَاحِبة الكَثِير مِنَ الجَوَانِب الإيجَابيَّة عَلى الطِّفل وأهلِه نَفسيًّا واجتِمَاعيًّا.
تِلكَ الأغنيَة قَامَ بتَطوِير لَحنِها الفَنَّان نَاصِر الغمَّاري، وهُو مُوظَّف أيضًا فِي مَكتَب الإشرَاف التَّربَوي، بتَعَاونٍ مَع زُملَاء مِهنَة مَعَه فِي هَذَا المَجَال، وقُدِّمت بصَوْت طَالِبة مِن قُريَّات فِي حَفْل تَربَوي بمُنَاسبَة العِيد الوَطَنيِّ.. كان للأُغنِية وَقْع عَلى الأَذْهَان والقُلُوب؛ كَوْنهَا لَامسَت مَشَاعر النَّاس وذَاكِرتهِم التُّراثيُّة، وانتَشَرت بشَكلٍ وَاسِعٍ فِي قُريَّات.. بَعدَها تبنَّى نَادِي قُريَّات هَذِه الأغنِية التُّراثيُّة، بإشرَاف مِن نَاصِر الغمَّاري نَفسِه، ضِمن فِرقَة مَسرَحيَّة ومُوسِيقيَّة أسَّسهَا النَّادِي فِي التِّسعينيَّات، وشَارَك النَّادي بهَذِه الأغنِيَة فِي مُسَابقة مُوسِيقيَّة على مُستَوى الأندِيَة، وحَازَت على المَركَز الأوَّل، وكَان لِذَلِك مُسَاهَمة تَسويقِيَّة فِي انتِشَار الأُغنِية مِن جَدِيد عَلى نِطَاق أَوسَع.
وعَلَى أَثَر ذَلِك، تَبنَّى الأغنِيَة مَهرَجَان مَسقَط ضِمن فَعَاليَّات القَريَّة التراثيَّة، فانتَشَرتْ علَى مُستَوى وَاسِع فِي السَّلطَنة، وأَخذَت الإذَاعَة نُسخَة مِنهَا فكَان لَهَا الانتشارُ الأوسَع علَى مُستَوى السَّلطنَة والعَالم العَرَبي.. والآن مَا مِن احتِفَال يُقَام بمُنَاسَبة عِيد مِيلَاد طِفل، إلَّا وَهَذِه الأغنِيَة التراثيَّة على رَأس برنَامَج ذَلِك الاحتِفَال، وهَا هِي هَذِه الأغنيَة قَد مَضَى عَليهَا مَا يَقرُب مِن ثَلاثِين عَامًا وهِي بنَفْس الجَمَال والحَيويَّة.. تَحيَّة لمَكتَب الإشرَاف التَّربَوي بقُريَّات، وللمُبدِع نَاصِر الغمَّاري ورِفَاقِه، ولتِلك الطَّالِبة المُتميِّزة، المُؤدِّية لهَذِه الأغنِيَة التُّراثيَّة الجَمِيلَة.
أُغنِيَة تُرَاثيَّة أَنتَجهَا مَركَز الإِشرَاف التَّربَوي بقُريَّات مَعَ بِدَايَة التِّسعينيَّات مِنَ القرنِ المُنصَرِم، كَان عُنوَانُها «حُول حُول يَا صِغيَّرين»، وَهِي تَطوِير لكَلِمَات كَانَت تُقَال بمُنَاسَبة الحُول الحُول (عِيدِ المِيلَاد) فِي عَدَدٍ مِن ولَايَات السَّلطَنة.. والحُول حُول هُو احتِفَال يُقَام مَرَّة وَاحِدة فِي حَيَاة الإنسَان، عِندَمَا يَبلُغ السَّنة الأولَى مِن عُمرِه، ولِهَذَا الاحتِفَال وعَادَاته المُصَاحِبة الكَثِير مِنَ الجَوَانِب الإيجَابيَّة عَلى الطِّفل وأهلِه نَفسيًّا واجتِمَاعيًّا.
تِلكَ الأغنيَة قَامَ بتَطوِير لَحنِها الفَنَّان نَاصِر الغمَّاري، وهُو مُوظَّف أيضًا فِي مَكتَب الإشرَاف التَّربَوي، بتَعَاونٍ مَع زُملَاء مِهنَة مَعَه فِي هَذَا المَجَال، وقُدِّمت بصَوْت طَالِبة مِن قُريَّات فِي حَفْل تَربَوي بمُنَاسبَة العِيد الوَطَنيِّ.. كان للأُغنِية وَقْع عَلى الأَذْهَان والقُلُوب؛ كَوْنهَا لَامسَت مَشَاعر النَّاس وذَاكِرتهِم التُّراثيُّة، وانتَشَرت بشَكلٍ وَاسِعٍ فِي قُريَّات.. بَعدَها تبنَّى نَادِي قُريَّات هَذِه الأغنِية التُّراثيُّة، بإشرَاف مِن نَاصِر الغمَّاري نَفسِه، ضِمن فِرقَة مَسرَحيَّة ومُوسِيقيَّة أسَّسهَا النَّادِي فِي التِّسعينيَّات، وشَارَك النَّادي بهَذِه الأغنِيَة فِي مُسَابقة مُوسِيقيَّة على مُستَوى الأندِيَة، وحَازَت على المَركَز الأوَّل، وكَان لِذَلِك مُسَاهَمة تَسويقِيَّة فِي انتِشَار الأُغنِية مِن جَدِيد عَلى نِطَاق أَوسَع.
وعَلَى أَثَر ذَلِك، تَبنَّى الأغنِيَة مَهرَجَان مَسقَط ضِمن فَعَاليَّات القَريَّة التراثيَّة، فانتَشَرتْ علَى مُستَوى وَاسِع فِي السَّلطَنة، وأَخذَت الإذَاعَة نُسخَة مِنهَا فكَان لَهَا الانتشارُ الأوسَع علَى مُستَوى السَّلطنَة والعَالم العَرَبي.. والآن مَا مِن احتِفَال يُقَام بمُنَاسَبة عِيد مِيلَاد طِفل، إلَّا وَهَذِه الأغنِيَة التراثيَّة على رَأس برنَامَج ذَلِك الاحتِفَال، وهَا هِي هَذِه الأغنيَة قَد مَضَى عَليهَا مَا يَقرُب مِن ثَلاثِين عَامًا وهِي بنَفْس الجَمَال والحَيويَّة.. تَحيَّة لمَكتَب الإشرَاف التَّربَوي بقُريَّات، وللمُبدِع نَاصِر الغمَّاري ورِفَاقِه، ولتِلك الطَّالِبة المُتميِّزة، المُؤدِّية لهَذِه الأغنِيَة التُّراثيَّة الجَمِيلَة.
الخميس، 18 أبريل 2019
ذَاكِرَة إدَارِيَّة
عِندَمَا تمَّ صُدُور قَرَار تَبعِيَّة بَلديَّة قُريَّات إلى بَلديَّة مَسقَط في العَام 1991م، كَانَ رَئيسُهَا حِينَذاك المُهندِس عَبدالله بن عَبَّاس، فأوَّل مَشرُوع نَفَّذه هُو حَدِيقَة الشهبَاري، وعِندَما اجتَمَع بِه الأهالِي حَول المُطَالبَة بحَدِيقة أكبَر تَجَاوب مَعهُم فَكَان مُتنزَّه البُحَيْرَة، ومُتنزَّه الصِّيرَة، ومَشرُوع السُّوق القَدِيم... وغَيرها مِنَ المَشَارِيع. وعِندَمَا وَقَع الحَادِث الذي أَصَاب الفَرِيق المُعَايِن لمَسَار طَرِيق جِبَال سلمَاة وتعَب، وكُنتُ مَعهُم، وَجدنَا عَبدالله عبَّاس السَّاعة السَّابعَة صَبَاحًا مِنَ اليَوم التَّالِي فِي المَيْدَان، ليَطمِئنَّ عَلَى سَلَامَة الجَمِيع، وبجُهُودِه وتَعَاونِه وتَفهُّمِه لمُعَانَاة السُّكان تمَّ شَقُّ ذَلِك الطَّرِيق، عَلَى الرَّغْم مِن وعُورَتِه وصُعُوبتِه.. كَان لعَبدالله عَبَّاس أَيضًا الدَّوْر الرَّئِيس فِي شقِّ طَرِيق وَعِر لقَريَة سُوقَة وغَيرِها مِنَ القُرَى الجَبليَّة، وأيَّام إِعْصَار "جُونُو" لَهُ مَوْقِف إنسَانِي فِي قُريَّات لا يُنسَى.
وَمِن الذِّكريَات الجَمِيلة التِي نَذكُرهَا لَهَذا الرَّجل: ذَهبنَا إلى مَكتَبِه مَع عَدَد مِن مَجلِس إِدارَة النَّادِي لطَلَب رَصْف مَلعَب لكُرَة اليَد والطَّائِرَة فِي المَبنَى القَدِيم للنَّادِي بالسَّاحِل، دَخلنَا عَليهِ بصُحبَة مُوَاطِنين مِن وَلايَة السِّيب، فشَكُوا لَه مَسْألَة فِي بَلدتِهم تَخصُّ البَلديَّة؛ فقَال لَهُم: أنَا شَخصِيًّا وَقفتُ عَلى المَكَان، وتمَّ حلُّ الإشكاليَّة عَلى الفَوْر، فخَرجُوا مِن مَكتبِهِ مُبتَهِجِين، وعِندَمَا حَانَ دَوْرُنا وَحدثنَاه بمَطلَبِنا، قَال لَنَا: لِمَ لَمْ تُحدِّثوا مُدِير البَلديَّة بهَذَا المَطلَب؟ فأَخبرْنَاه بِمَا تمَّ وَحَدَث، وإِذَا بِه يَطلُب مُدِير البَلديَّة هاتِفيًّا، وحدَّثه بلُغَة لا تَخلُو مِن حَسْم عَنْ مَشَارِيع مُتأخِّرَة قَام بزِيارتِهَا، وأَمَر عَلَى الفَوْر بتَلبِيَة مَطَالب النَّادي، فعَلَّق عَلى رِسَالتِنا وسَلَّمنَا إيَّاهَا لتَوصِيلِها للبَلديَّة؛ فتَمَّ مَطلَبُنَا فِي أسبُوع.. هُنَاك خَدَمَات طيِّبة قَدَّمها هَذَا الرَّجُل للبَلديَّة، ولهُ خِصَال إَداريَّة يَنبغِي أنْ يَستَفِيد مِنهَا الجَمِيع، وعَلَى رَأسِها مَا يُسمَّى الإدَارَة بالتجوَال؛ فهُو يَتميَّز بتَطبِيق هَذَا المَفهُوم فِي إدارتِه، وَلهُ نَجَاحَات بَاهِرة فِي ذَلِك غَيْر خَافِيَة عَلى الجَمِيع.. وفَّقَه اللهُ فِي حَيَاتِه، وأعَان خَلَفَه عَلى تَحمُّل المَسؤوليَّة والأَمَانَة.
الأربعاء، 17 أبريل 2019
شَخصِيَّات لَا تَغِيب عَن الذَّاكِرَة
رَاعِي البَرقِيَّة.. هَكَذا عُرِف بَيْن أقرَانِه ومُحبِّيه، والبَرقيَّة هِي جِهَاز لَاسِلكِي كَان يَربِط ولَايَات عُمان ببَعْضِهَا قَبْل اختِرَاع الهَاتِف وانتِشَار شَبَكَة الطُّرق وظُهُور السيَّارَات فِي عُمَان، وَهِي وَسِيلَة فِي إِيصَال التَّعلِيمَات والأَوامِر والأَخبَار إلى مَرَاكِز الولَاة مِن القَصْر ورِئَاسَة نَظَارة الدَّاخِليَّة في مَسقَط ومُؤسَّسات الدَّولَة الأُخرَى، وذَلِك مَا قَبْل النَّهضَة المُبَاركَة وحتَّى ثَمانينيَّات القَرْن المُنصَرِم، لتَحِل مَحلَّها وَسَائل الاتِّصَال والتَّواصُل الحَدِيثَة فِي هَذَا العَصْر.. كَانَت البَرقيَّة تَعتَلِي البُرج الدَّائِري المُلَاصِق لحِصْن قُريَّات، فالحِصْن شَيَّده السيِّد سَعِيد بِنْ خَلفَان البُوسَعِيدي المَعرُوف بالنكَّاس، فِي عَهْد السُّلطَان سَعِيد بِنْ سُلطَان، وفِي عَهْد السُّلطان السيِّد تيمُور بِنْ فَيصَل أَمَر بإِضَافَة ذَلِك البُرج الدَّائرِي، المُلَاصِق للحِصْن فِي جِهتِه الجَنوبيَّة الشرقيَّة، لدَوَاعٍ فَرَضتْهَا طَبيعَة وظُرُوف ذَلِك الزَّمَان، لَا تَخلُو مِن رُؤيَة فَنيَّة وجَمَاليَّة.. ذَات يَوْم، زَارَ صَاحِب السُّمو السيِّد فَهر بِن تَيمُور الحِصْنَ بحُكْم طَبِيعَة عَمَلِه، وأَمَر أنْ تُثبَّت البَرقيَّة فِي أعلَى هَذا البُرج لارتِفَاعِه، فكَانَت البَرقيَّة بصَوتِها وذَبذَبَاتِها مَحطَّ إِعجَاب الجَمِيع؛ لأنَّهَا وَسِيلَة عَصريَّة لَم يَعهَدهَا مِن دَاخِل الحِصْن مِن قبل.. تَعَاقَب عَلى تِلك البَرقيَّة شَخصيَّات عَدِيدَة، وَهِي بطَبيعَتِها تَتطلَّب يَقظَة فِي السَّمع والتَّركِيز، وبَرَاعة فِي الكَلام، إِضَافَة إلى تمرُّس فِي الكِتَابة السَّريعَة، والدِّقة فِي التِقَاط المُفرَدَات والألفَاظ والأَرقَام.. كَان مِن بَيْن مَن عَمِل عَلى هَذَا الجِهَاز الفَرِيد مِنْ نَوعِه ومُهمَّتِه بمِقيَاس عَصرِه سَعِيد بِنْ عَبدالله الفَارِسِي رَحِمَه الله، الذِي حَمَل أَعباءَ وأَمانَة هَذِه المَسؤوليَّة بتَميُّز واقتِدَار، بشَهَادة مِن عَمِل وتَعَامَل مَعه، عَلى الرَّغْم مِن طَبيعَة العَمَل الدَّقِيقة والحَسَّاسَة عَلى هَذَا الجِهَاز.. فمَع الصَّبَاح البَاكِر، ومَا إنْ تَدبَّ الحَرَكة فِي أَروِقَة الحِصْن، يَعتَلِي هَذَا الرَّجل ذَلِك البُرج مِن سُلَّم خَارِجي إلى أَعلَى البُرج، ويَخلُو بجَهَاز البَرقيَّة مُصبِّحًا عَلى رِفَاق عَمَلِه فِي جَمِيع ولَايَات عُمان بأَعذَب الكَلَام وأَطيَب السَّلام، وهُو يُطلُّ مِن علٍ بتَوَاضُع جَم عَلى مَنَاظِر خَلَّابة تُحِيط بالحِصْن، فكَانَت تُحِيط بالحِصْن سَاحَات خَضْرَاء مِن أشجَار النَّخِيل البَاسِقَة وأشجَار الشِّريش وَارِفة الظِّلال، نَاهِيك عَن الحَرَكة الدَّؤوبَة فِي السُّوق القَدِيم.. فكُلَّما نَزَل مِن علوِّ ذَلِك البُرج تَبحلقَتْ الأنظارُ إلى ذَلِك الوَجْه المُشرِق، وتَهَافَتتْ الأنفاسُ والقُلُوب لسَمَاع الأخبَار وَمَا يَسرُّ البَال.. عُرِف بتَواضُعِه وحُسن أخلَاقِه مَع الجَمِيع، وهُو أيضًا صَاحِب قَلَم وخَط لا يُضَاهِيه أَحَد مِن كُتَّاب زَمانِه، وكَمَا قِيل: «الخَطُّ الجَمِيل حِليَة الكَاتِب»، فكَان الولَاة يَقرأُون البَرقيَّة بعُمقٍ وتَركِيز فِي فَحوَى تَفَاصِيلها، وفِي الوَقت ذَاتِه تَتمتَّع بَصيرتُهم بجَمَال وَرِقَّة تِلكَ الخُطُوط المَرسُومة عَلَى صَفَحات البَرقيَّة، ذَات الأَلوَان البرَّاقَة والتَّقسِيمَات المُتقَنة.. بَيتُه كَان مَزارًا مِن كلِّ حَدَب وصَوْب، لا سيَّمَا سُكَان الجِبَال والقُرَى النَّائِية؛ فهُو مَحطتهُم قَبْل تَوجُّههِم إلَى مَقَاصِدهِم وتَحقِيق مَطَالبهِم فِي مُختَلف الجِهَات العَامَّة والخَاصَّة، فيَسهَر الأيَّام لكِتَابَة الخُطُوط -أي: الرَّسَائل- والخَط مِنَ الألفاظِ العُمانيَّة القَدِيمَة فِي لَهجتِنا الدَّارجَة، أصبَحَت قَلِيلَة التَّداول فِي زَمَانِنا هَذا، وتَعنِي الرِّسَالة، فكَان يَقضِي السَّاعَات فِي صِيَاغتِها بخطِّه الجَمِيل وتَعبِيره الرَّاقي، ليُسلِّمها لصَاحِب الرِّسَالة فِي الوَقت المُحدَّد، ليَقضِي بِهَا مَآربَه أو إِرسَالها إلَى مُحبِّيه وأَهلِه مَع القَاصِد أو الطَّارِش.. ظلَّ طَوَال عُمرِه خَدومًا لأهلِه ومُجتَمعِه، فمَا مِن إِنسَان إلَّا وطَرَق بَاب بَيتِه لكِتَابَة رِسَالة باسمِه.. وفِي مَرَاحِل شَبَابِه كَان شَغُوفًا بالرِّياضَة ومُشجِّعًا عَليهَا؛ فكَان عَلَى صَدَارة مُؤسِّسي النَّادي مَع بِدَايَة العَهْد الجَدِيد فِي سَبعينيَّات القرنِ المُنصَرِم، وتَعَاقَب عَلى إِدَارة النَّادي لسَنَوات طَويلَة، وتولَّى أَمانَة سِر النَّادي لأعوَام عَدِيدَة، وكَانَت بَصَماتُه ومُنجَزَاتُه ومَن مَعَه فِي الإدَارَة عَالِقَة فِي أَذهَان الجَمِيع وذَاكِرَة المُنصِفِين، ومَرسُومَة فِي رُوزنَامة التَّاريخ الذَّهبيَّة لنَادي قُريَّات، لا يُمكِن جَحدُها ونُكرَانُها أو نِسيَانُها.. ذَاتَ مَسَاء (يوم 31/ 12/ 1981م) مدَّ خَيطًا مِن الأسلَاك لتَمدِيد تَيَّار كَهرُبَائي لتَشغِيل أَحَد الأَجهِزة فِي بَيتِه، وفِي تِلكَ الأيَّام بَدَتْ خِدمَة الكَهربَاء تَنتَشِر فِي كلِّ بَيْت، فسَرَت تِلك الكَهربَاء بالخَطَأ فِي جَسدِه فنَام نَومَة عَميقَة، مُلبِّيا أمرَ رَبِّه، مُودِّعًا الدُّنيَا ومَا فِيها، فاهتزَّ بَيْت الجَابريَّة وقُلوب مُحبِّيه حُزنًا لِفرَاقِه، وسَرَى ذَلِك الحُزن أيضًا إلى البَرقيَّة لفرَاق لَمَسَات يَدِه الحَنُونة، ونَبَرَات صَوتِه المَعهُودة مَع كُلِّ صَبَاح.. فكُلَّما وَلجَتُ ذَلِك البُرج يَومًا تَرسَّم وَجُهُه البَاسِم أمَام نَاظِري، وسَمعتُ كَلِمَاتِه الرَّقِيقَة العَذْبَة تَتردَّد فِي جَنَباتِه، وتَذكَّرتُ تِلكَ الوُجُوه المُتعطِّشَة إلى قَلَمِه.
الثلاثاء، 16 أبريل 2019
مَنهَج تَربَوي قَدِيْم
كَانَت الدِّرَاسة القَدِيمَة فِي مَدَارس القُرآن الكَرِيم (الكَتَاتِيب) فِي عُمان تَعتَمدُ دَائمًا عَلى أُسلوبَيْن: التَّرغِيب والتَّرهِيب، وهُو مَنهجٌ تَربويٌّ صَائِبٌ، أثبتتْ الدِّرَاسَات العِلميَّة جَدوَاه فِي الكَثِير مِن المُجتَمعَات والمَدَارس الحَدِيثة، ولهُ تَأثيرٌ إيجابيٌّ فِي إثارةِ الدَّوَافع، وتَكوِين الشَّخصيَّة الإنسَانيَّة، وتَحقِيق الأهدَاف التَّربويَّة، وكَذَلك فِي تَفعِيل الرِّقَابة الذَّاتيَّة والوقَائيَّة.
مَا يُميِّز هَذِه المَدَارس التقليديَّة أيضًا: المُصطَلحَات والألفَاظ الرَّائعَة التِي يَجِب عَلى التلمِيذ الإتيَان بِهَا عِندَ الاستِئذَان مِن المُعلِّم، كقَولِه: «يَرحَمُك الله مُعلِّم»، «يعطِيْك اللهُ مُعلِّم»، «يَسقِيك الله مُعلِّم»؛ حَيثُ كُل لَفْظ مِن هَذِه الألفَاظ لَه دَلَالَة، أو يَعنِي طَلَبًا مُعيَّنا للطَّالِب مِن قِبَل المُعلِّم.
مُصطَلَحَات وألفَاظ فِيهَا مِنَ الأَدَب والتَّواضُع والاحتِرَام للمُعلِّم، وفِي الوَقْت ذَاتِه تُعطِي المُعلِّم مَكَانتَه وهَيبَتَه فِي قِيَادَة مَدرَستِه.. مِنَ المُهم جِدًّا استِيعَاب تِلكَ المَفَاهِيم فِي مَدَارسنَا الحَدِيثَة.
مَا يُميِّز هَذِه المَدَارس التقليديَّة أيضًا: المُصطَلحَات والألفَاظ الرَّائعَة التِي يَجِب عَلى التلمِيذ الإتيَان بِهَا عِندَ الاستِئذَان مِن المُعلِّم، كقَولِه: «يَرحَمُك الله مُعلِّم»، «يعطِيْك اللهُ مُعلِّم»، «يَسقِيك الله مُعلِّم»؛ حَيثُ كُل لَفْظ مِن هَذِه الألفَاظ لَه دَلَالَة، أو يَعنِي طَلَبًا مُعيَّنا للطَّالِب مِن قِبَل المُعلِّم.
مُصطَلَحَات وألفَاظ فِيهَا مِنَ الأَدَب والتَّواضُع والاحتِرَام للمُعلِّم، وفِي الوَقْت ذَاتِه تُعطِي المُعلِّم مَكَانتَه وهَيبَتَه فِي قِيَادَة مَدرَستِه.. مِنَ المُهم جِدًّا استِيعَاب تِلكَ المَفَاهِيم فِي مَدَارسنَا الحَدِيثَة.
شَخصِيَّات طَوَاهَا الزَّمَان لا تَغِيب عَن الذَّاكِرَة
الوَطَني.. هَكذَا عُرِف مُنذ التِحَاقِه بقِطَاع التَّعلِيم كعَامِل بَسِيط فِي مَدرَسَة رَاشِد بن الوَلِيد فِي قُريَّات، تِلكَ المَدرَسَة الأولَى التِي نُقِلنَا إليْهَا بَعْد مَدرَسَة الخِيَام المَنصُوبَة فِي رَاحِضِي السَّاحل فِي مَطلَع سَبعينيَّات القَرن المُنصَرِم.. مَا زَالَت ذِكرَاه عَالِقة فِي ذَاكِرتي ووجدَانِي حتَّى هَذِه اللَّحظَة؛ لَقَد رَسمتْ تِلكَ الشَّخصيَّة المُتواضِعَة والهَادِئة مَلامِح رَاقِيَة لِمَا يُسمَّى اليَوم بـ«الوَلَاء الوَظِيفِي».. فالشُّعُور الإيجَابِي للمُوظَّف تِجَاه المُؤسَّسة التِي يَعَمل فِيهَا، والتِزَامِه بقِيَمِها، وسَعْيه الدَّؤوب لتَحقِيق رِسَالتِهَا وأَهدَافِها، مَهْمَا كَان مَوقِعُه ووَظِيفتُه هُو بمَثَابة وَلَاء وَظِيفِي، وإِذَا مَا تَحقَّق ذَلِك الشُّعور لَدَى الجَمِيع، سَتكُون النَّتيجَة حَتمًا مُشرِقة فِي تميُّز الإنتَاج وَجودَة المُخرَجَات.
كَانَت المَدرَسَة بالنِّسبَة لَه هِي بَيتُه الثَّاني، يَبدَأ صَبَاحَه فِيهَا مُنذ الفَجْر، ويُنهِي نَهَاره فِيهَا أيضًا فِي سَاعَات مُتأخِّرة مِن المَسَاء، لَا يَكلُّ ولا يَملُّ مِن العَمَل، لا يُشعِرك بوجُودِه، تَجده مُندَمِجًا فِي عَمَله دَومًا، مَهمَا كَانَت الظُّرُوف.. يَستقبلنَا كَأطفَال برُوْح الأَب، ويُعَامِلنا كطُلاب برُوْح المُعلِّم حتَّى وإنْ لَم تَكُن مِهنتُه الرَّئيسَة، يُهيِّئ لَنَا الفصُول نظَافَة وتَرتِيبًا مُنذ انبلاجِ ضِيَاء الفَجر؛ تَمهِيدا لاستِقبَال أَفوَاج الصِّغار والكِبَار القَادِمة مِن مُختَلف القُرَى مَشيًا عَلى الأقدَام، والمُتعطِّشة لنَهْل العِلم بَعد حِرمَان طَويل.. يَقِف مَع الطُّلاب مُتسمِّرًا كَأنَّه جُندي فِي المَيدَان، يَملأ وَجهَه الفَرح والبِشْر عِندَمَا يهزُّ طُلاب المَدرسَة الأَرض، وهُم يُردِّدون كَلمَات الصَّباح بحُبِّ الوَطَن والسُّلطان، تَجِد عُيونَه مُشرَئبَّة نَحو سَارِيةِ العَلَم، فِيمَا مَشاعِرُه تَلهَج بالشُّكر والدُّعَاء لنِعمَة العَهْد الجَدِيد.
يَطُوف عَلينَا مَعَ بِدَاية الحِصَّة الأولَى لتَوزِيع أَصَابِع الطَّبَاشِير المُلوَّنة؛ لِكَي يَرسِم بِهَا الطُّلاب مَلَامِح مُستقبلَهم وأَحلَام وَطَنهِم، كُنتُ أتأمَّل طَرِيقة تَوزِيعِه للطَّبَاشير وِفقَ العَدَد المُحدَّد بِلا زِيَادَة أو نُقصَان، وكَأنَّه يَعُدها عَلى آلَة حَاسِبة، كَان حَرِيصًا عَلى عَدَم الإهدَار فِي تَوزِيعِها عَلى الرَّغْم مِن شَقَاوة بَعضِ الطُّلاب فِي طَلَب المَزِيد، كَان يُردِّد دَومًا هِي مُخصَّصة للحِصَّة والتَّعلِيم ولَيْس للَّعِب.. نَخرُج فِي فُسحَة المَدرسَة وحُلُوقُنا يَابِسة مِن قَسَاوة لَهِيب الغَربي؛ حَيثُ لا مَرَاوحَ ولا تَبرِيد فِي الفُصُول كَمَا هُو عَليهِ اليَوم، فنَجدُه واقفًا أمَام خَرس المَدرسَة فِي ظلِّ غَافَة وَارِفَة تَتوسَّط فِنَاء مَدرستِنا القَدِيمَة؛ فهُو لَتوِّه قَد مَلأ الخَرس العَمِيق بالمَاء العَذْب الزُّلال، يَبتَسِم وهُو يَرَانا في طَابُور مُنظَّم، لمَتْح المَاء بكُوب مَعدَنيِّ مِن بَطن الخَرس لنَشرَب ونَرتَوي، ونَكسَر الظَّمأ كَما كَسرنَا الجَهْل فِي حِصَص الدِّراسَة.
ظَلَّ الوَطنيُّ وَفيًّا لمَدرسَته، لا يُفَارقهَا إلَّا فِي المَسَاء، لَم نَسمَع مِنهُ يَومًا تَذمُّرا أو تَعبًا أو شَكوى، ظلَّ فَخُورًا سَعيدًا بالانتِمَاء إلى تِلك المَدرَسَة حتَّى آخِر يَوم مِن عُمرِه، الجَمِيع كَان يُجلُّه ويَحتَرمُه مِن أعلَى قِيَادَة فِي المَدرسَة وحتَّى أَصغَر طَالِب فِي عُمرِه، يُعامِل الجَمِيع بحُبٍّ قلَّ نَظِيرُه اليَوم، كَان مُؤدَّبًا ونَاصِحًا إِذا مَا شَاهَد مِنَّا أي تَقصِير، كَان همُّه تَهيئَة كَافَّة الظُّرُوف لِكَي يَنعَم الجَمِيع ببِيئةِ جَاذِبة لتَأدِيَة مَهَامه ووَاجِبه، ولِهَذا لَقَّبه زُمَلاء عَملِه بالوَطَني؛ لأنَّ الوَفاء والإخلَاص فِي تَأدِية عَملِه مِن شِيمِه ومَنبَع أخلاقِه، وظلَّ لَقبُه هَذا «الوَطَني» لَصِيقًا باسمِه حتَّى بَعد وَفَاتِه، بَل إلى اليَوْم.
كَانَت المَدرَسَة بالنِّسبَة لَه هِي بَيتُه الثَّاني، يَبدَأ صَبَاحَه فِيهَا مُنذ الفَجْر، ويُنهِي نَهَاره فِيهَا أيضًا فِي سَاعَات مُتأخِّرة مِن المَسَاء، لَا يَكلُّ ولا يَملُّ مِن العَمَل، لا يُشعِرك بوجُودِه، تَجده مُندَمِجًا فِي عَمَله دَومًا، مَهمَا كَانَت الظُّرُوف.. يَستقبلنَا كَأطفَال برُوْح الأَب، ويُعَامِلنا كطُلاب برُوْح المُعلِّم حتَّى وإنْ لَم تَكُن مِهنتُه الرَّئيسَة، يُهيِّئ لَنَا الفصُول نظَافَة وتَرتِيبًا مُنذ انبلاجِ ضِيَاء الفَجر؛ تَمهِيدا لاستِقبَال أَفوَاج الصِّغار والكِبَار القَادِمة مِن مُختَلف القُرَى مَشيًا عَلى الأقدَام، والمُتعطِّشة لنَهْل العِلم بَعد حِرمَان طَويل.. يَقِف مَع الطُّلاب مُتسمِّرًا كَأنَّه جُندي فِي المَيدَان، يَملأ وَجهَه الفَرح والبِشْر عِندَمَا يهزُّ طُلاب المَدرسَة الأَرض، وهُم يُردِّدون كَلمَات الصَّباح بحُبِّ الوَطَن والسُّلطان، تَجِد عُيونَه مُشرَئبَّة نَحو سَارِيةِ العَلَم، فِيمَا مَشاعِرُه تَلهَج بالشُّكر والدُّعَاء لنِعمَة العَهْد الجَدِيد.
يَطُوف عَلينَا مَعَ بِدَاية الحِصَّة الأولَى لتَوزِيع أَصَابِع الطَّبَاشِير المُلوَّنة؛ لِكَي يَرسِم بِهَا الطُّلاب مَلَامِح مُستقبلَهم وأَحلَام وَطَنهِم، كُنتُ أتأمَّل طَرِيقة تَوزِيعِه للطَّبَاشير وِفقَ العَدَد المُحدَّد بِلا زِيَادَة أو نُقصَان، وكَأنَّه يَعُدها عَلى آلَة حَاسِبة، كَان حَرِيصًا عَلى عَدَم الإهدَار فِي تَوزِيعِها عَلى الرَّغْم مِن شَقَاوة بَعضِ الطُّلاب فِي طَلَب المَزِيد، كَان يُردِّد دَومًا هِي مُخصَّصة للحِصَّة والتَّعلِيم ولَيْس للَّعِب.. نَخرُج فِي فُسحَة المَدرسَة وحُلُوقُنا يَابِسة مِن قَسَاوة لَهِيب الغَربي؛ حَيثُ لا مَرَاوحَ ولا تَبرِيد فِي الفُصُول كَمَا هُو عَليهِ اليَوم، فنَجدُه واقفًا أمَام خَرس المَدرسَة فِي ظلِّ غَافَة وَارِفَة تَتوسَّط فِنَاء مَدرستِنا القَدِيمَة؛ فهُو لَتوِّه قَد مَلأ الخَرس العَمِيق بالمَاء العَذْب الزُّلال، يَبتَسِم وهُو يَرَانا في طَابُور مُنظَّم، لمَتْح المَاء بكُوب مَعدَنيِّ مِن بَطن الخَرس لنَشرَب ونَرتَوي، ونَكسَر الظَّمأ كَما كَسرنَا الجَهْل فِي حِصَص الدِّراسَة.
ظَلَّ الوَطنيُّ وَفيًّا لمَدرسَته، لا يُفَارقهَا إلَّا فِي المَسَاء، لَم نَسمَع مِنهُ يَومًا تَذمُّرا أو تَعبًا أو شَكوى، ظلَّ فَخُورًا سَعيدًا بالانتِمَاء إلى تِلك المَدرَسَة حتَّى آخِر يَوم مِن عُمرِه، الجَمِيع كَان يُجلُّه ويَحتَرمُه مِن أعلَى قِيَادَة فِي المَدرسَة وحتَّى أَصغَر طَالِب فِي عُمرِه، يُعامِل الجَمِيع بحُبٍّ قلَّ نَظِيرُه اليَوم، كَان مُؤدَّبًا ونَاصِحًا إِذا مَا شَاهَد مِنَّا أي تَقصِير، كَان همُّه تَهيئَة كَافَّة الظُّرُوف لِكَي يَنعَم الجَمِيع ببِيئةِ جَاذِبة لتَأدِيَة مَهَامه ووَاجِبه، ولِهَذا لَقَّبه زُمَلاء عَملِه بالوَطَني؛ لأنَّ الوَفاء والإخلَاص فِي تَأدِية عَملِه مِن شِيمِه ومَنبَع أخلاقِه، وظلَّ لَقبُه هَذا «الوَطَني» لَصِيقًا باسمِه حتَّى بَعد وَفَاتِه، بَل إلى اليَوْم.
أحمَد بَنْ سليمَان البلُوشي (الوَطَني) |
الاثنين، 15 أبريل 2019
الأحد، 14 أبريل 2019
مَع عَدِيم السَّلمَاني
عَدِيم ذَاكرَة قَدِيمَة؛ هَذَا العام يَحتَفِل بالعَام المِائة مِن عُمرِه، يتَّمتَع بذَاكِرة وصِحَّة جَيِّدة، ويعُود السَّبَب فِي ذَلِك إلى رُوحِه المَرِحَة، والتَّعَامُل بالبَسَاطَة مَع مُجرَيَات الحَيَاة، لَه حِكَايَة مَع الدُّكتور طُومُس كَان ضَحيَّتُها إِحْدى عَينَيهِ، ويتذكَّر أيضًا مَوْسِم كَنعَد وُد سِليم.
السبت، 13 أبريل 2019
السُّونجِي.. ذَاكِرة كِفَاح وعَمَل
مَع نَاصَر السَّناني
الحَدِيث مَع نَاصِر السَّناني لا يَمِل، يَعْشَق البَحر، صَارَع أَهوالَه ومَصَاعِبه بعَزِيمَة وصَبْر طَوَال عُمرِه، وإِذَا انتَهَى مِن عَمَلِه فِي البَحر وسُوق السَّمك، يَقضِي وَقْت رَاحتِه فِي انسِجَام تَام مَع نَفْسِه، والجُلُوس مَعه هُو سَرْدٌ للذِّكرَيَات الجَمِيلَة، التِي تَأخُذك إلى حِكَايَات البَحر وجَمَالِه.
الثلاثاء، 9 أبريل 2019
الاثنين، 8 أبريل 2019
الأحد، 7 أبريل 2019
فِي ذِكرَى نَاصِر الغمَّاري
خَيرُ مَا يُودِّع به الإنسان هَذِه الحَيَاة الفَانِية كَلمَة: لَا إلَه إلَّا الله.. الله أكبَر.. هَكَذَا وَدَّع نَاصِر بِن خَلفَان الغمَّاري هَذَا الصَّبَاح الحَيَاة، تَارِكًا كلَّ مَا فِيهَا ليُلَاقِي ربَّه بوَجهٍ مُشرِق مُبتَسِم.. ودَّعتهُ قُريَّات فِي مَسِير مَهِيب إلى دَارِه الجَديدَة، مُتوسِّدا الأَرْض التِي أحبَّها وأحبَّته، مُتنَعِّمًا برَحَمَات رَبِّه وعَفوِه.. شَابٌّ فِي مُقتَبل العُمر يُودِّع الدُّنيا فجَأة.. بكاهُ كلُّ مَن فِي المعلَاة بحُرقَة وأَلَم وشَوْق، بَل تألَّم عَلى فُرَاقِه كلُّ مَن عرفَه فِي قُريَّات، لِمَا عُرِف عَن تَواضُعِه واتِّسَاع عَلَاقاتِه المُجتَمعِية، خَاصَّة مَع الشَّباب.. الجَمِيع يُثنِي عَلى أخلَاقِه وحُبِّه للنَّاس، كَان خَدُومًا مُحِبًّا للعَمل من أَجل رَاحَة الآخرِين، صَاحِب ابتِسَامَة صَادِقة نَابِعَة مِن حَنَايا القَلب، يُعَامل الجَمِيع بمَرَح وحُب صَادِق، يَستقبِلكَ مِن بَعِيد بعبَارَات جَمِيلة وصَدْر رَحْب.. كَان مُخلِصًا بَارًّا وفِيًّا، لم يترُك قَريتَه لَحْظَة، تَجِده فِي تَعاونِه شُعلَة نَشَاط فِي كلِّ المُنَاسَبات.. كَان مُحِبًّا للرِّياضة ومُولَعًا بهَا، ويَعشَق المَعَالي بلا حُدُود.. يستَقبِلك برَحَابة واحتِرَام وسِعَة بَال، والابتِسَامَة دَومًا لا تُفارقه.. هَكَذا هِي الحَيَاة فِي دَورَانِها تَمضِي وتنتَهِي بلا مُقدِّمات أو وَدَاع.. رَحِمك الله أيُّها الفَتَى الكَرِيم ابن الكَرِيم، فكَمَا كُنتَ وفيًّا بَين ظهرانِينَا، سيَكُون مُحبُّوك أيضًا لكَ أوفِيَاء، ستَبقَى ذِكرَاك عَظِيمَة فِي نفُوسِنا جَمِيعًا.
الخميس، 4 أبريل 2019
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)