الأربعاء، 17 أبريل 2019

شَخصِيَّات لَا تَغِيب عَن الذَّاكِرَة

رَاعِي البَرقِيَّة.. هَكَذا عُرِف بَيْن أقرَانِه ومُحبِّيه، والبَرقيَّة هِي جِهَاز لَاسِلكِي كَان يَربِط ولَايَات عُمان ببَعْضِهَا قَبْل اختِرَاع الهَاتِف وانتِشَار شَبَكَة الطُّرق وظُهُور السيَّارَات فِي عُمَان، وَهِي وَسِيلَة فِي إِيصَال التَّعلِيمَات والأَوامِر والأَخبَار إلى مَرَاكِز الولَاة مِن القَصْر ورِئَاسَة نَظَارة الدَّاخِليَّة في مَسقَط ومُؤسَّسات الدَّولَة الأُخرَى، وذَلِك مَا قَبْل النَّهضَة المُبَاركَة وحتَّى ثَمانينيَّات القَرْن المُنصَرِم، لتَحِل مَحلَّها وَسَائل الاتِّصَال والتَّواصُل الحَدِيثَة فِي هَذَا العَصْر.. كَانَت البَرقيَّة تَعتَلِي البُرج الدَّائِري المُلَاصِق لحِصْن قُريَّات، فالحِصْن شَيَّده السيِّد سَعِيد بِنْ خَلفَان البُوسَعِيدي المَعرُوف بالنكَّاس، فِي عَهْد السُّلطَان سَعِيد بِنْ سُلطَان، وفِي عَهْد السُّلطان السيِّد تيمُور بِنْ فَيصَل أَمَر بإِضَافَة ذَلِك البُرج الدَّائرِي، المُلَاصِق للحِصْن فِي جِهتِه الجَنوبيَّة الشرقيَّة، لدَوَاعٍ فَرَضتْهَا طَبيعَة وظُرُوف ذَلِك الزَّمَان، لَا تَخلُو مِن رُؤيَة فَنيَّة وجَمَاليَّة.. ذَات يَوْم، زَارَ صَاحِب السُّمو السيِّد فَهر بِن تَيمُور الحِصْنَ بحُكْم طَبِيعَة عَمَلِه، وأَمَر أنْ تُثبَّت البَرقيَّة فِي أعلَى هَذا البُرج لارتِفَاعِه، فكَانَت البَرقيَّة بصَوتِها وذَبذَبَاتِها مَحطَّ إِعجَاب الجَمِيع؛ لأنَّهَا وَسِيلَة عَصريَّة لَم يَعهَدهَا مِن دَاخِل الحِصْن مِن قبل.. تَعَاقَب عَلى تِلك البَرقيَّة شَخصيَّات عَدِيدَة، وَهِي بطَبيعَتِها تَتطلَّب يَقظَة فِي السَّمع والتَّركِيز، وبَرَاعة فِي الكَلام، إِضَافَة إلى تمرُّس فِي الكِتَابة السَّريعَة، والدِّقة فِي التِقَاط المُفرَدَات والألفَاظ والأَرقَام.. كَان مِن بَيْن مَن عَمِل عَلى هَذَا الجِهَاز الفَرِيد مِنْ نَوعِه ومُهمَّتِه بمِقيَاس عَصرِه سَعِيد بِنْ عَبدالله الفَارِسِي رَحِمَه الله، الذِي حَمَل أَعباءَ وأَمانَة هَذِه المَسؤوليَّة بتَميُّز واقتِدَار، بشَهَادة مِن عَمِل وتَعَامَل مَعه، عَلى الرَّغْم مِن طَبيعَة العَمَل الدَّقِيقة والحَسَّاسَة عَلى هَذَا الجِهَاز.. فمَع الصَّبَاح البَاكِر، ومَا إنْ تَدبَّ الحَرَكة فِي أَروِقَة الحِصْن، يَعتَلِي هَذَا الرَّجل ذَلِك البُرج مِن سُلَّم خَارِجي إلى أَعلَى البُرج، ويَخلُو بجَهَاز البَرقيَّة مُصبِّحًا عَلى رِفَاق عَمَلِه فِي جَمِيع ولَايَات عُمان بأَعذَب الكَلَام وأَطيَب السَّلام، وهُو يُطلُّ مِن علٍ بتَوَاضُع جَم عَلى مَنَاظِر خَلَّابة تُحِيط بالحِصْن، فكَانَت تُحِيط بالحِصْن سَاحَات خَضْرَاء مِن أشجَار النَّخِيل البَاسِقَة وأشجَار الشِّريش وَارِفة الظِّلال، نَاهِيك عَن الحَرَكة الدَّؤوبَة فِي السُّوق القَدِيم.. فكُلَّما نَزَل مِن علوِّ ذَلِك البُرج تَبحلقَتْ الأنظارُ إلى ذَلِك الوَجْه المُشرِق، وتَهَافَتتْ الأنفاسُ والقُلُوب لسَمَاع الأخبَار وَمَا يَسرُّ البَال.. عُرِف بتَواضُعِه وحُسن أخلَاقِه مَع الجَمِيع، وهُو أيضًا صَاحِب قَلَم وخَط لا يُضَاهِيه أَحَد مِن كُتَّاب زَمانِه، وكَمَا قِيل: «الخَطُّ الجَمِيل حِليَة الكَاتِب»، فكَان الولَاة يَقرأُون البَرقيَّة بعُمقٍ وتَركِيز فِي فَحوَى تَفَاصِيلها، وفِي الوَقت ذَاتِه تَتمتَّع بَصيرتُهم بجَمَال وَرِقَّة تِلكَ الخُطُوط المَرسُومة عَلَى صَفَحات البَرقيَّة، ذَات الأَلوَان البرَّاقَة والتَّقسِيمَات المُتقَنة.. بَيتُه كَان مَزارًا مِن كلِّ حَدَب وصَوْب، لا سيَّمَا سُكَان الجِبَال والقُرَى النَّائِية؛ فهُو مَحطتهُم قَبْل تَوجُّههِم إلَى مَقَاصِدهِم وتَحقِيق مَطَالبهِم فِي مُختَلف الجِهَات العَامَّة والخَاصَّة، فيَسهَر الأيَّام لكِتَابَة الخُطُوط -أي: الرَّسَائل- والخَط مِنَ الألفاظِ العُمانيَّة القَدِيمَة فِي لَهجتِنا الدَّارجَة، أصبَحَت قَلِيلَة التَّداول فِي زَمَانِنا هَذا، وتَعنِي الرِّسَالة، فكَان يَقضِي السَّاعَات فِي صِيَاغتِها بخطِّه الجَمِيل وتَعبِيره الرَّاقي، ليُسلِّمها لصَاحِب الرِّسَالة فِي الوَقت المُحدَّد، ليَقضِي بِهَا مَآربَه أو إِرسَالها إلَى مُحبِّيه وأَهلِه مَع القَاصِد أو الطَّارِش.. ظلَّ طَوَال عُمرِه خَدومًا لأهلِه ومُجتَمعِه، فمَا مِن إِنسَان إلَّا وطَرَق بَاب بَيتِه لكِتَابَة رِسَالة باسمِه.. وفِي مَرَاحِل شَبَابِه كَان شَغُوفًا بالرِّياضَة ومُشجِّعًا عَليهَا؛ فكَان عَلَى صَدَارة مُؤسِّسي النَّادي مَع بِدَايَة العَهْد الجَدِيد فِي سَبعينيَّات القرنِ المُنصَرِم، وتَعَاقَب عَلى إِدَارة النَّادي لسَنَوات طَويلَة، وتولَّى أَمانَة سِر النَّادي لأعوَام عَدِيدَة، وكَانَت بَصَماتُه ومُنجَزَاتُه ومَن مَعَه فِي الإدَارَة عَالِقَة فِي أَذهَان الجَمِيع وذَاكِرَة المُنصِفِين، ومَرسُومَة فِي رُوزنَامة التَّاريخ الذَّهبيَّة لنَادي قُريَّات، لا يُمكِن جَحدُها ونُكرَانُها أو نِسيَانُها.. ذَاتَ مَسَاء (يوم 31/ 12/ 1981م) مدَّ خَيطًا مِن الأسلَاك لتَمدِيد تَيَّار كَهرُبَائي لتَشغِيل أَحَد الأَجهِزة فِي بَيتِه، وفِي تِلكَ الأيَّام بَدَتْ خِدمَة الكَهربَاء تَنتَشِر فِي كلِّ بَيْت، فسَرَت تِلك الكَهربَاء بالخَطَأ فِي جَسدِه فنَام نَومَة عَميقَة، مُلبِّيا أمرَ رَبِّه، مُودِّعًا الدُّنيَا ومَا فِيها، فاهتزَّ بَيْت الجَابريَّة وقُلوب مُحبِّيه حُزنًا لِفرَاقِه، وسَرَى ذَلِك الحُزن أيضًا إلى البَرقيَّة لفرَاق لَمَسَات يَدِه الحَنُونة، ونَبَرَات صَوتِه المَعهُودة مَع كُلِّ صَبَاح.. فكُلَّما وَلجَتُ ذَلِك البُرج يَومًا تَرسَّم وَجُهُه البَاسِم أمَام نَاظِري، وسَمعتُ كَلِمَاتِه الرَّقِيقَة العَذْبَة تَتردَّد فِي جَنَباتِه، وتَذكَّرتُ تِلكَ الوُجُوه المُتعطِّشَة إلى قَلَمِه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.