الوَطَني.. هَكذَا عُرِف مُنذ التِحَاقِه بقِطَاع التَّعلِيم كعَامِل بَسِيط فِي مَدرَسَة رَاشِد بن الوَلِيد فِي قُريَّات، تِلكَ المَدرَسَة الأولَى التِي نُقِلنَا إليْهَا بَعْد مَدرَسَة الخِيَام المَنصُوبَة فِي رَاحِضِي السَّاحل فِي مَطلَع سَبعينيَّات القَرن المُنصَرِم.. مَا زَالَت ذِكرَاه عَالِقة فِي ذَاكِرتي ووجدَانِي حتَّى هَذِه اللَّحظَة؛ لَقَد رَسمتْ تِلكَ الشَّخصيَّة المُتواضِعَة والهَادِئة مَلامِح رَاقِيَة لِمَا يُسمَّى اليَوم بـ«الوَلَاء الوَظِيفِي».. فالشُّعُور الإيجَابِي للمُوظَّف تِجَاه المُؤسَّسة التِي يَعَمل فِيهَا، والتِزَامِه بقِيَمِها، وسَعْيه الدَّؤوب لتَحقِيق رِسَالتِهَا وأَهدَافِها، مَهْمَا كَان مَوقِعُه ووَظِيفتُه هُو بمَثَابة وَلَاء وَظِيفِي، وإِذَا مَا تَحقَّق ذَلِك الشُّعور لَدَى الجَمِيع، سَتكُون النَّتيجَة حَتمًا مُشرِقة فِي تميُّز الإنتَاج وَجودَة المُخرَجَات.
كَانَت المَدرَسَة بالنِّسبَة لَه هِي بَيتُه الثَّاني، يَبدَأ صَبَاحَه فِيهَا مُنذ الفَجْر، ويُنهِي نَهَاره فِيهَا أيضًا فِي سَاعَات مُتأخِّرة مِن المَسَاء، لَا يَكلُّ ولا يَملُّ مِن العَمَل، لا يُشعِرك بوجُودِه، تَجده مُندَمِجًا فِي عَمَله دَومًا، مَهمَا كَانَت الظُّرُوف.. يَستقبلنَا كَأطفَال برُوْح الأَب، ويُعَامِلنا كطُلاب برُوْح المُعلِّم حتَّى وإنْ لَم تَكُن مِهنتُه الرَّئيسَة، يُهيِّئ لَنَا الفصُول نظَافَة وتَرتِيبًا مُنذ انبلاجِ ضِيَاء الفَجر؛ تَمهِيدا لاستِقبَال أَفوَاج الصِّغار والكِبَار القَادِمة مِن مُختَلف القُرَى مَشيًا عَلى الأقدَام، والمُتعطِّشة لنَهْل العِلم بَعد حِرمَان طَويل.. يَقِف مَع الطُّلاب مُتسمِّرًا كَأنَّه جُندي فِي المَيدَان، يَملأ وَجهَه الفَرح والبِشْر عِندَمَا يهزُّ طُلاب المَدرسَة الأَرض، وهُم يُردِّدون كَلمَات الصَّباح بحُبِّ الوَطَن والسُّلطان، تَجِد عُيونَه مُشرَئبَّة نَحو سَارِيةِ العَلَم، فِيمَا مَشاعِرُه تَلهَج بالشُّكر والدُّعَاء لنِعمَة العَهْد الجَدِيد.
يَطُوف عَلينَا مَعَ بِدَاية الحِصَّة الأولَى لتَوزِيع أَصَابِع الطَّبَاشِير المُلوَّنة؛ لِكَي يَرسِم بِهَا الطُّلاب مَلَامِح مُستقبلَهم وأَحلَام وَطَنهِم، كُنتُ أتأمَّل طَرِيقة تَوزِيعِه للطَّبَاشير وِفقَ العَدَد المُحدَّد بِلا زِيَادَة أو نُقصَان، وكَأنَّه يَعُدها عَلى آلَة حَاسِبة، كَان حَرِيصًا عَلى عَدَم الإهدَار فِي تَوزِيعِها عَلى الرَّغْم مِن شَقَاوة بَعضِ الطُّلاب فِي طَلَب المَزِيد، كَان يُردِّد دَومًا هِي مُخصَّصة للحِصَّة والتَّعلِيم ولَيْس للَّعِب.. نَخرُج فِي فُسحَة المَدرسَة وحُلُوقُنا يَابِسة مِن قَسَاوة لَهِيب الغَربي؛ حَيثُ لا مَرَاوحَ ولا تَبرِيد فِي الفُصُول كَمَا هُو عَليهِ اليَوم، فنَجدُه واقفًا أمَام خَرس المَدرسَة فِي ظلِّ غَافَة وَارِفَة تَتوسَّط فِنَاء مَدرستِنا القَدِيمَة؛ فهُو لَتوِّه قَد مَلأ الخَرس العَمِيق بالمَاء العَذْب الزُّلال، يَبتَسِم وهُو يَرَانا في طَابُور مُنظَّم، لمَتْح المَاء بكُوب مَعدَنيِّ مِن بَطن الخَرس لنَشرَب ونَرتَوي، ونَكسَر الظَّمأ كَما كَسرنَا الجَهْل فِي حِصَص الدِّراسَة.
ظَلَّ الوَطنيُّ وَفيًّا لمَدرسَته، لا يُفَارقهَا إلَّا فِي المَسَاء، لَم نَسمَع مِنهُ يَومًا تَذمُّرا أو تَعبًا أو شَكوى، ظلَّ فَخُورًا سَعيدًا بالانتِمَاء إلى تِلك المَدرَسَة حتَّى آخِر يَوم مِن عُمرِه، الجَمِيع كَان يُجلُّه ويَحتَرمُه مِن أعلَى قِيَادَة فِي المَدرسَة وحتَّى أَصغَر طَالِب فِي عُمرِه، يُعامِل الجَمِيع بحُبٍّ قلَّ نَظِيرُه اليَوم، كَان مُؤدَّبًا ونَاصِحًا إِذا مَا شَاهَد مِنَّا أي تَقصِير، كَان همُّه تَهيئَة كَافَّة الظُّرُوف لِكَي يَنعَم الجَمِيع ببِيئةِ جَاذِبة لتَأدِيَة مَهَامه ووَاجِبه، ولِهَذا لَقَّبه زُمَلاء عَملِه بالوَطَني؛ لأنَّ الوَفاء والإخلَاص فِي تَأدِية عَملِه مِن شِيمِه ومَنبَع أخلاقِه، وظلَّ لَقبُه هَذا «الوَطَني» لَصِيقًا باسمِه حتَّى بَعد وَفَاتِه، بَل إلى اليَوْم.
كَانَت المَدرَسَة بالنِّسبَة لَه هِي بَيتُه الثَّاني، يَبدَأ صَبَاحَه فِيهَا مُنذ الفَجْر، ويُنهِي نَهَاره فِيهَا أيضًا فِي سَاعَات مُتأخِّرة مِن المَسَاء، لَا يَكلُّ ولا يَملُّ مِن العَمَل، لا يُشعِرك بوجُودِه، تَجده مُندَمِجًا فِي عَمَله دَومًا، مَهمَا كَانَت الظُّرُوف.. يَستقبلنَا كَأطفَال برُوْح الأَب، ويُعَامِلنا كطُلاب برُوْح المُعلِّم حتَّى وإنْ لَم تَكُن مِهنتُه الرَّئيسَة، يُهيِّئ لَنَا الفصُول نظَافَة وتَرتِيبًا مُنذ انبلاجِ ضِيَاء الفَجر؛ تَمهِيدا لاستِقبَال أَفوَاج الصِّغار والكِبَار القَادِمة مِن مُختَلف القُرَى مَشيًا عَلى الأقدَام، والمُتعطِّشة لنَهْل العِلم بَعد حِرمَان طَويل.. يَقِف مَع الطُّلاب مُتسمِّرًا كَأنَّه جُندي فِي المَيدَان، يَملأ وَجهَه الفَرح والبِشْر عِندَمَا يهزُّ طُلاب المَدرسَة الأَرض، وهُم يُردِّدون كَلمَات الصَّباح بحُبِّ الوَطَن والسُّلطان، تَجِد عُيونَه مُشرَئبَّة نَحو سَارِيةِ العَلَم، فِيمَا مَشاعِرُه تَلهَج بالشُّكر والدُّعَاء لنِعمَة العَهْد الجَدِيد.
يَطُوف عَلينَا مَعَ بِدَاية الحِصَّة الأولَى لتَوزِيع أَصَابِع الطَّبَاشِير المُلوَّنة؛ لِكَي يَرسِم بِهَا الطُّلاب مَلَامِح مُستقبلَهم وأَحلَام وَطَنهِم، كُنتُ أتأمَّل طَرِيقة تَوزِيعِه للطَّبَاشير وِفقَ العَدَد المُحدَّد بِلا زِيَادَة أو نُقصَان، وكَأنَّه يَعُدها عَلى آلَة حَاسِبة، كَان حَرِيصًا عَلى عَدَم الإهدَار فِي تَوزِيعِها عَلى الرَّغْم مِن شَقَاوة بَعضِ الطُّلاب فِي طَلَب المَزِيد، كَان يُردِّد دَومًا هِي مُخصَّصة للحِصَّة والتَّعلِيم ولَيْس للَّعِب.. نَخرُج فِي فُسحَة المَدرسَة وحُلُوقُنا يَابِسة مِن قَسَاوة لَهِيب الغَربي؛ حَيثُ لا مَرَاوحَ ولا تَبرِيد فِي الفُصُول كَمَا هُو عَليهِ اليَوم، فنَجدُه واقفًا أمَام خَرس المَدرسَة فِي ظلِّ غَافَة وَارِفَة تَتوسَّط فِنَاء مَدرستِنا القَدِيمَة؛ فهُو لَتوِّه قَد مَلأ الخَرس العَمِيق بالمَاء العَذْب الزُّلال، يَبتَسِم وهُو يَرَانا في طَابُور مُنظَّم، لمَتْح المَاء بكُوب مَعدَنيِّ مِن بَطن الخَرس لنَشرَب ونَرتَوي، ونَكسَر الظَّمأ كَما كَسرنَا الجَهْل فِي حِصَص الدِّراسَة.
ظَلَّ الوَطنيُّ وَفيًّا لمَدرسَته، لا يُفَارقهَا إلَّا فِي المَسَاء، لَم نَسمَع مِنهُ يَومًا تَذمُّرا أو تَعبًا أو شَكوى، ظلَّ فَخُورًا سَعيدًا بالانتِمَاء إلى تِلك المَدرَسَة حتَّى آخِر يَوم مِن عُمرِه، الجَمِيع كَان يُجلُّه ويَحتَرمُه مِن أعلَى قِيَادَة فِي المَدرسَة وحتَّى أَصغَر طَالِب فِي عُمرِه، يُعامِل الجَمِيع بحُبٍّ قلَّ نَظِيرُه اليَوم، كَان مُؤدَّبًا ونَاصِحًا إِذا مَا شَاهَد مِنَّا أي تَقصِير، كَان همُّه تَهيئَة كَافَّة الظُّرُوف لِكَي يَنعَم الجَمِيع ببِيئةِ جَاذِبة لتَأدِيَة مَهَامه ووَاجِبه، ولِهَذا لَقَّبه زُمَلاء عَملِه بالوَطَني؛ لأنَّ الوَفاء والإخلَاص فِي تَأدِية عَملِه مِن شِيمِه ومَنبَع أخلاقِه، وظلَّ لَقبُه هَذا «الوَطَني» لَصِيقًا باسمِه حتَّى بَعد وَفَاتِه، بَل إلى اليَوْم.
أحمَد بَنْ سليمَان البلُوشي (الوَطَني) |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.