السبت، 13 أبريل 2019

السُّونجِي.. ذَاكِرة كِفَاح وعَمَل

قَبْل وُصُول وَسَائِل النَّقل الحَدِيثَة، كَانَت الدَّوَاب هِي وَسَائل النَّقل المُتَاحَة فِي ذَلِك الوَقت، ويَأتِي عَلى رَأسِها الجِمَال والحَمِير.. كَانَت هُنَاك قَوَافِل وقِطَارَات مِن نَجَائِب الإِبِل والزَّوَامِل تَعبُر شَوَاهِق الجِبَال، وتَجُوب الصَّحَاري والفَيَافي والأَودِيَة، مُحمذَلة بالبُسُور والتُّمُور والأسمَاك المَشويَّة أو المُدخَّنة وجَوَاني النُّورة والمَلح... وغَيْرهَا مِن الرِّفاع.. كَانَت الحَمِير هِي أيضًا وَسِيلَة لنَقْل البَضَائِع عَلى المُستَوى الدَّاخِلي، خَاصَّة فِي نَقل الأسمَاك مِن سَاحِل البَحْر إلى سُوق الأسمَاك بسُوق قُريَّات القَدِيم.. اشتَهَر مَجمُوعَة مِن العتَّالين فِي هَذِه المِهنَة، وأخلَصُوا لَها بمَهَارة وتميُّز وبمُثَابَرة وصَبْر، عَلى الرَّغْم مِن مَشاقِّها وصُعُوبتِها، وهُنَا نتذكَّر خميّس البُوصَافي المَعرُوف لقبًا بـ"السُّونجي"؛ فهُو مِن أَنشَط العتَّالِين حَرَكة فِي السُّوق، إضَافة إلى زُمَلاء مِهنَة مَعه.. كَان "السُّونجي" مُولَعًا بتَربِية الحَمِير، ويهتمُّ بِهَا كَثيرًا تَربيَة وتَغذِيَة وتَزيينًا، مَع ضِيَاء الفَجْر تَجِده عَلى سَاحِل البَحر مَع حِمَاره، يُنَاجِي ويُغنِّي للبَحر فِي انتِظَار قَوَارب الصَّيد، لا تُفَارقه الابتِسَامة ومَشَاعر القَنَاعة والرِّضَا، حَامدًا ربَّه دَومًا عَلى نِعمَة الصِّحَة والرِّزق الوَفِير.. كَان لَه طَرِيقة فِي نَقْل الأسمَاك؛ فَإذَا كَانَت صَغِيرَة وَضَعَها في ثَوجٍ خُوصيٍّ بتَرتِيب مُنظَّم، لَا يَخلُو مِن فَن وجَمَال، وإِذَا مَا كَانَت تِلكَ الأسمَاك كَبيرَة فِي الحَجم ثَبتَّها بَيْن جَنبي الحِمَار بمرَار مِن اللِّيف، مَع تَثبِيتِه فِي غرضَة الحِمَار، بطَرِيقَة التفِافَيَّة عَلى بَطْن الحِمَار، وتَضمَن عَدَم تَسَاقُط هَذِه الأسمَاك وَهِي مُتدلِّيَة نَحوَ الأَرْض، وكَأنَّها تُحدِّثه عَن مَسَارِها فِي المُحِيط وعَلاقتِها بالصَّيَاد، يَتوسَّط السُّونجي هَذِه الحُمُولة، رَاكِبًا أو يَكُون مَاشِيًا بجَانِب الحِمَار فِي اتِّجَاه السُّوق، مُردِّدا كَلمَات مُبهِجَة ومُسلِّية لَه وللحِمَار، يُنزِل حُمُولتَه تِلك فِي سُوق الأسمَاك، ثُمَّ يَقفِل رَاجِعًا إلى سَاحِل البَحر ليُعَاود نَقل رِفَاع جَدِيدَة، وهَكذَا يَستمرُّ حتَّى حُلُول المَسَاء.. فِي المَسَاء يَكُون عَلى مَوعِد مَع الرَّزحَة والزفِّين، فأينَما سَمِع صَلِيج الطَّبل تَبعَه كهاوٍ وعَاشِق للفنون، فكَانَت الرَّزحَة فِي ذَلِك الزَّمن فِي تَواصُل مُستمر فِي أَماكِنهَا المَعهُودة، كالحِصْن وغَافة الخَرُوس وسِدرَة المَيدَان وسِدرَة الغزَال، يُزَافِن أقرَانه كشعبَان ووَلد بردَان بالسُّيوف والتُّروس، لَه مِن الحَرَكَات وكأنَّه رِيَاضَي مُتمرِّس أو فَارِس مِغوَار فِي مَعرَكة أو فنَّان يَهوَى ويطرَب لنَغمَات طَبْل الكَاسِر والرَّحمَاني، يَقفزُ فِي الهَواء يهزُّ سيفَه وكأنَّه طَائِر يهوَى التَّحلِيق فِي الفَضَاء.. يَعُود السُّونجي إلى بيتِهِ في حَلكَة اللَّيل؛ فيَهرَع إلى حِمَاره ويَجُود عَليه الحلْس ويُزيِّن رَقبته بخطَام الجُوخ؛ لينطَلِق بِه إلى مَقطَع الطِّين في الرَّاحضِي أو الغَافِية، أو إلى مَحجَر جَبل السَّعتَري أو قشَاروَه، يَظلُّ السُّونجي يَنقِل الطِّين أو حَصَى البِنَاء طَوَال اللَّيل، مُسَامِرًا ضَوء القَمَر ولمَعَان النُّجوم، ومَا إنْ يشقَّ الفَجرُ نَورَه، تَجِد السُّونجي عَلى السَّاحِل فِي انتظار بَدَانة وهوَاري الصَّيْد مِن جَدِيد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.