مع انطلاقة فعاليات مهرجان مسقط لهذا العام 2018م،
والذي يحمل صبغة مُختلفة ومتنوعة من مكنونات تراثنا الثقافي، لم يغفل المهرجان أن
يكُون للكتاب مكانة خاصة ضمن أجندته المليئة بالأنشطة والفعاليات، فكان لمُؤسسة
بيت الغشام للصحافة والنشر والإعلان السَّبق والريادة -كعادتها- في تنظيم العديد
من البرامج الثقافية ضمن جُهُودها التسويقية لإصداراتها المتنوعة، وأثناء تجوالي
في أروقة معرضها للكتاب، في ركن الكتاب بساحة المهرجان بمتنزه العامرات، توقفتُ
أمام مجمُوعة قصصية لصديقنا العزيز سعود البلوشي، فاقتنيتها بحب وسعادة، فقضيت
ساعات طويلة أتأمَّلها؛ فقررتُ حينها أنْ أذهب إلى المكان الذي كان يومًا -ولا
يزال- يُشكل نقطة معزَّة وانطلاقة لهذا الكاتب، لكي أبدأ قراءة هذه المجمُوعة، المُفعمة
بالحب والجمال، والإخلاص للزمان والمكان، وهي أيضًا فُرصة لتلمُّس بعض أحداث
وحكايات هذه المجمُوعة في البيئة التي احتضنتها.
فكان الساحل والبحر هو الخيار الأوحد، وبالتحديد
على ضفاف خور الساحل الجميل، وتحت ظلال تلك الجنادل السمراء؛ حيث يقبع على أعلى قمَّتها
أحد المعالم التاريخية لولاية قُريات، والتي تعد بجمالها الأخاذ ملهمة للكتاب
والشعراء ولأهل الفن بتجلياته المُختلفة، فذات صباح ارتقيتُ "الصيرة"، رغم
وعورة الوُصُول إليها؛ فنظرتُ من أعلاها إلى الأفق الممتد نحو زُرقة البحر، لأشاهد
المراكب المبحرة، وأسمع أصوات البحر وكائناته، وأتمعَّن في أسراره وحكاياته وقصصه
التي لا تنتهي مع البحارة.
واعتليتُ حصاة برامة، ونظرتُ من أعلاها إلى الجهة
الأخرى فشاهدتُ من بعد العالات، فتذكرت كثبانها الرملية التي سويت بالأرض، فذهبتْ
بي الذاكرة إلى تلك الغملة الخضراء من حضيب وعيدان أشجار الغاف والرثل والشيم،
وتأملتُ الخور ومُكوناته وكائناته، وشاهدتُ قطعان الهوش والغزلان وهي تسرَح في تلك
الأمكنة بحُرية وأمان، واستمعتُ إلى ترانيم وتعويب تلك الراعية، وهي تجُوب العروق
والكتل، لكي تعود بوقرة الحطب، وشاهدتُ الكثيرَ من الأحداث والحكايات، وحاورتُ
الكثيرَ من الشخصيات على الساحل وفي سوق الظلام؛ وذلك في صُورة خيالية على شكل شريطٍ
سينمائيٍّ سريعٍ ومُثير، تمَّت صياغته وتصويره بعناية فائقة، وفق أدوات وتكنيكات
فنية راقية.
حاولتُ تأمُّل وتأويل وتحليل مجمُوعة تلك القصص
التي ضمَّتها دفتا هذا الكتاب الذي أحمله معي لأيام؛ فوجدتُ فيها جمالَ اللغة وسحرَ
الخيال؛ فهي تنسابُ بسهولةٍ ويُسر وتركيز، وتمَّ سبكها بخيال خصب وبلغة شاعرية،
تحملُ في مضامينها -واقعيًّا وإيحائيًّا ورمزيًّا- قيمَ الجمال، مع حضور مكثف
للزمان والمكان والذكريات.
فكان للبحر سطوته الجمالية على الكثير من الأحداث؛
فالذي يقرأ هذه المجمُوعة القصصية سيتعرَّف على مدى تأثير البحر وتجلياته في كثير
من النصوص، وسيستذكَّر القارئ الكثير من التفاصيل للعديد من الأمكنة والمسميات
والمفردات التراثية، وسيسرح في الكثير من الأسرار العميقة، التي تخيلها الكاتب أو
سردها بواقعية، ضمن سبائكه الأدبية بصُورة فنية جاذبة، والمتقنة فنيًّا ولغويًّا
إلى حدٍّ كبير من المهارة الكتابية في مجال القص، غلب على بعضها منهجية سردية
قريبة جدا للأسلوب الروائي، وفي تسلسُل ووضوح وبلغة سهلة، وخالية في كثير منها من
التعقيد البنائي للسرد والمفردات، وهي بحق معطرة بروح الزمان والمكان وعبق التراث،
ولها نكهة محلية تجاوزت في بعض سطورها وقع خيالها السردي، وتحمل في تجلياتها
الكثير من مشاعر الفرح والألم والخوف والحزن، وكذلك أحاسيس من المحبة والأمل.
المجمُوعة حملت عُنوان "أصوات البحر"،
وهذا العُنوان مقتبسٌ من قصة ضمن المجمُوعة تحمل نفس هذا العُنوان، وتقع المجمُوعة
في 142 صفحة، مُقسَّمة إلى 14 قصة، تراوحتْ بين القصيرة وأخرى في شكل مقاطع قصيرة
جدا، حملت عناوين جميلة، تم اختيارها بذكاء، مع بدايات مُمتعة تم توظيفها لخدمة الصورة
الجمالية لكلِّ نص، وهي: من حكايات البحر، دوائر الحلم، يوم في حياة موظف، تعيب،
أحوال جنوب المعمورة، المستشفى، أصوات البحر، اجتماع، مساء البطل الأخير، سراج سوق
الظلام، لوعة وقصص أخرى، حسينة، الإجازة ومراكب مبحرة.
كُتِبت تلك النصوص القصصية خلال الفترة من 1989م
وحتى عام 1998م، نُشِر بعضها، وبعضها يُنشر لأول مرة ضمن محتويات هذه المجمُوعة؛ الأمر
الذي يجعلنا أن نُوقِن بأنَّ للكاتب نصوصا أخرى، لا تزال في طي الأدراج في انتظار
النشر؛ فالذي أعرفه عن الكاتب أنه صاحب هِمة ونشاط في التفكير والكتابة والإبداع،
وإن شغلته دهاليز الحياة، وهو أيضًا من الناس الذين يعملون في صمت وبترقب وانتظار،
وصاحب تفكير عميق مدروس، قبل أن يقدم إلى فضاءات النشر.
الكثير من هذه النصوص السَّردية تمت كتابتها في
قُريات، وأخرى في مسقط، وواحدة في عمّان بالأردن الشقيق؛ حيث عمد الكاتب إلى أن
يختم كل قصة بتوقيع زمني ومكاني، يُحدِّد من خلاله السنة والمكان، ولعله يقصد في
ذلك مكان وفترة كتابتها، إلا أنَّ المجمُوعة لم تتقيَّد في تتابُعها -حسب التسلسل
الزمني أو المكاني- فهي تشكيلة متنوعة مكانيًّا وزمنيًّا.
تميَّز غلاف المجمُوعة بالبساطة، وهو أيضًا يُشكل
في صُورة تكاملية لدلالات عُنوان المجمُوعة، الموسومة بـ"أصوات البحر"؛ فبرج
الصيرة الذي يبدُو شامخا على قِمة تلك الجنادل الصخرية في وسط البحر، بألوانها
البنية الداكنة، مع محيط من اللون الأزرق، في ربط بصري بين لون السماء والماء،
والموحِي لأحاسيس الخلود ومشاعر الهدوء والصفاء، مع لمسات دافئة من اللون الأبيض
توحِي بالوضوح وسطوع الأمل، مع ضبابية في ألوان الرمال تشبه السراب، تختلطُ في
رمزيتها دلالات وهج الحياة، وما يعتريها من مصاعب وألم وقلق وحزن.
عُنوان المجمُوعة "أصوات البحر"، يحمل
ثيمة أساسية لتفاصيل ومفاصل السرد الأدبي لهذه المجمُوعة؛ بما يحمله من دلالات
عميقة، تجدها واضحة في مُجريات الأحداث في كل قصة.. "هدير أمواج البحر
وأصواته الأخرى القادمة من بعيد تتسرَّب خِلسة إلى مهاجعنا ليلا، وتتحوَّل إلى
أحلام تمتزجُ فيها مشاعر متناقضة من البهجة والألم، والفرح والحزن، والقلق والخوف
والتوجُّس؛ فمشهد ارتطام أمواج البحر وتكسرها على صخور الصيرة، وتطاير زبد الماء
إلى الصخور القريبة من البرج، مشهد رغم الغضب الذي يحملُه والعنف الذي ينجم عنه،
إلا أنه يُشعل فينا فضاءات وأخيلة عذبة ومؤلمة معا تبحر بنا بعيدا..
بعيدا..." (ص:8).
تتجلَّى بكثافة في هذه المجمُوعة أسماء الأمكنة
والأشياء المحسوسة، مع دمج بعض الألفاظ القديمة في لهجتنا الدارجة ضمن السياق
العام للأحداث، وهي سِمة إبداعية شائقة، كُتبت بلغةٍ سهلةٍ بجُرأة وصدق، وبنقد غير
مباشر، أعطتْ للسرد جاذبية خاصة؛ لأنها تؤصل قيمة المكان والحنين إلى التراث
الثقافي والطبيعي بتجلياته المشرقة، وفي الوقت ذاته تفجِّر مشاعر التذكر والحب
لتلك الأمكنة، وضرُورة الاهتمام ببعض القيم، رغم قسوة سير الأحداث لبعض القصص.
كَمَا للبحر وأصواته -كما قُلت سابقًا- هيمنة
وتأثير قوي في سرد العديد من قصص المجمُوعة؛ فهُناك علاقة شاعرية وإنسانية
ووجدانية راقية تقدِّمها شخصيات القصص عن البحر، تندمجُ فيها ذكريات الماضي
المؤلمة والمفرحة مع سير الأحداث لكل قصة: "وقفتُ أمام البحر أرقب الرفرفة
البطيئة لشعر الليل الفاحم على صفحة الماء وهي تتلاشى، وبين الفينة والأخرى أنتظر
وجه الشمس المجلي كوجه عروس يتكشف صافيا يزيح عنه رداء الماء البرتقالي الشفاف،
وعلى مرمى البصر أرى قوارب الصيادين، والسفن المهاجرة البعيدة نقطا صغيرة سوداء
على مستقيم الأفق الممتد.." (ص:80).
استخدَم الكاتبُ تقنيات مُتعددة؛ ففي بعض قصص المجمُوعة
يتقمص صوت الكاتب دور الراوي لشخصيتها الرئيسية، وتأخذ في كثير من سردها شكل صُورة
فوتوغرافية ووجدانية لذكريات أو خواطر شخصية أو حُوارًا داخليًّا؛ حيث تأخذك القصة
في عوالم وأحداث متتابعة ذات طابع اجتماعي لا يخلو من نقد، وبدون مبالغة في سرد
الأحداث، كما هو عليه قصة مراكب مبحرة: "لم يكن المشهد على درجة كبيرة من
الأهمية عندما صعدت التل الذي يشرف على الحارة من الجهتين الغربية والشمالية، كل
شيء كان رتيبا وهادئا..." (ص:127)؛ فمن خلال وقوف شخصية القصة الرئيسية على
قمة التل، وإطلالته على معالم الحارة، تجده ينتقل في السرد من حدث إلى آخر بهدوء،
وبطريقة سلسلة، ينقل فيها القارئ إلى مشاهد اجتماعية مُختلفة من حياة القرية أو
الحارة القديمة، تمَّت كتابتها بلمسةٍ فنية، وعُرضت بتنسيق متقن وتسلسل جاذب
لأحداثها؛ الأمر الذي يجعل القارئ مُتمسِّكا بالمتابعة وشد انتباهه ليعرف نهاية
القصة.
كذلك هي أيضًا قصة "يوم في حياة موظف"..
وغيرها: "في كل صباح تمتد يدي آليا إلى المنبه، فأسكته وأقعد متربعا فوق
سريري البالي، أبحلق في جدران الغُرفة العارية، دُون أن أراها، ثم أنهض وأتوجه
لمُمارسة بقية عاداتي الصباحية التي تهيئني للذهاب إلى العمل.." (ص:23).
هُناك أيضًا في بعض القصص يتقمَّص الكاتب فيها دور
الراوي كمقدمة، ثم ينتقل في سياق النص نفسه بطريقة سلسة إلى استخدام تقنية الحُوار
بين شخصيات القصة، بصُورة إبداعية متقنة، وبلغة واضحة ومتسلسلة قريبة إلى الدراما
المسرحية كتوظيف أدبي، تتفاعل فيه وقائع وأحداث القصة بطريقة فنية شائقة، دُون الإخلال
ببناء وتقنيات كتابة القصة وعناصرها الرئيسة، كما هو عليه نص "حسينة" مثلا.
استطاع الكاتب أن يُوظِّف المونولوج الغنائي
توظيفا متقنا في سرده الأدبي، كما نشاهده في قصة "حسينة"؛ حيث كان لفن
التعويب حدث مؤثر للتعبير عمَّا يختلج "شيخة" من مشاعر نفسية، على شكل حُوار
داخلي ووجداني، وفن التعويب من الفُنُون العُمانية القديمة، الذي عادة ما يُصَاحِب
أعمال جمع الحطب في الصحراء، تؤدِّيه النساء للتسلية وكسر وحشة المكان؛ فتوظيف مثل
هذه الفُنُون في مجال السرد الأدبي -كالقصة والرواية- يعتبر قيمةً مضافةً جديدةً
لترابط وتسلسل أحداث القصة.
هَذِه المجمُوعة القصصية هي إضافة جديدة لعالم
القصة القصيرة وتقنياتها في عُمان؛ فهي كعمل أدبي تحملُ لوحة متنوعة واضحة
المعالم، لها دلالات عميقة في معانيها وتوجهاتها الإنسانية والفنية، تستحق القراءة
والتأمل، مُتمنِّيا لأخينا العزيز سعود البلوشي كلَّ التوفيق في حياته العملية
والإبداعية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.