السبت، 16 يونيو 2018

الفَلْح

الفلح.. لفظة بلهجتنا الدارجة، نعني بها نوى أو بذرة التمر أو الرُّطب، وقد يكُون تسميتها بـ"الفلح" لكون الإنسان يفلحها بعدما يستلذ بطعم لحم الرطبة أو التمرة السكري، ولفظ الفلحة يتداوله الناس على نطاق واسع في حياتنا اليومية؛ فهي مُرتبطة مع كل وجبة أو جلسة أو دعوة؛ فالعُماني مُنذ القدم كان -ولا يزال- مُرتبطا بالتمر، أينما حل وارتحل، فلا تخلو ولا تحلو جلسة على مُستوى الأسرة، أو الأصدقاء، إلا بفردات من التمر، مع مذقة من اللبن، ورشفة من فنجان قهوة عدينية.
تِلك القطعة الصغيرة الصلبة، المستخرجة من وسط التمرة، المحاطة بغشاء خفيف جدا وشفاف، وذات الشكل المستطيل، واللون البني الداكن، والمدببة من الطرفين، ومحدبة الظهر، ومشقوقة أو محزوزة البطن في شكل أخدود ضيق ذي فلقتين، يتوسَّطه خيط رقيق، تحمل في مُكوناتها معجزات إلهية، تستحقُّ التفكر والتأمل، قبل التخلص منها؛ فتقسيماتها الجميلة البسيطة قد ذكرها القرآن الكريم في عدة آيات، كالقطمير، والفتيل، والنقير.
العُمانيون لا يُحبِّذون زراعة الفلح لاستزراع النخل، وذلك على عكس الأشجار والنباتات الأخرى؛ فهم مُنذ القدم يعتمدون على فسائل الصرم، التي تقتلع من أحضان النخل السامقة في عنان السماء؛ فهي أكثر ضمانا وجودة؛ كونها تحمل كافة صفات الأم من حيث نوعية الصنف وجودة الثمر.
لهذا؛ فإذا ما طلعت فسيلة نخل من فلحة أطلقوا عليها نبتة أو قش أو نشو؛ كونها مجهُولة الصنف والنوع، وقد يضاف إليها اسم المكان أو صاحبه، فيقولون: قش كذا، أو نشو كذا.
ولكِن ماذا كان يصنع الأقدمون بالفلح أو النوى؟ وهل كانوا يتخلصون منه كما نفعل نحن في هذا الزمان؟ وما أهميته الاقتصادية والغذائية في عصرنا هذا؟ هذا ما سوف أركز عليه في هذه السطور المُتواضعة.
الكثيرُ مِنَّا في هذا العصر ينظر إلى الفلح أو نوى التمر نظرة دونية؛ لهذا لا يعبأ الكثير منا من رميه بعد التمتع والانتهاء من أكل الرطبة أو التمرة، وللعلم ومن خلال تجربة شخصية تقدر وزن الفلحة أو النواة في المُتوسط ما يقارب من 15% من وزن الرطبة أو التمرة أو أكثر، مع اختلاف طفيف من نوع إلى آخر من أصناف التمور، ودرجة جودة وحجم كل ثمرة.
كما تقدِّر الإحصاءات أن إنتاج السلطنة من التمور يزيد على 316 ألف طن سنويًّا، ويقدر استهلاك الفرد العُماني من التمور بما يقارب 60 كيلوجراما في العام. إذن، نحن أمام كمية كبيرة من الفلح أو النوى، تقدر بما يقارب 48 ألف طن سنويًّا، هي اليوم مُهدرة دُون أي عائد غذائي أو اقتصادي يذكر.
يذكُر معالي الشيخ أحمد بن سويدان البلوشي، في مُقابلة له مع موسى الفرعي وسالم العمري، على قناة الوصال، في شهر رمضان الفائت، حول ذكرياته إبان مشاركته في أحد المخيمات السلطانية عن المفاجأة التي وُضِعوا أمامها عندما قُدِّمت لهم قهوة، وطُلِب منهم معرفة نوع القهوة تلك؛ فاحتار الجميع في معرفتها، للذة طعمها، لتكون المفاجأة أن تلك القهوة هي من الفلح أو نوى التمر، بعد تحميسها وطحنها، واستخدامها كبودرة لصناعة القهوة، الخالية من الكافيين، ولذلك دلالة كافية على مدى الاهتمام بهذا المنتج.
كَمَا تذكُر كُتب التاريخ أنَّ أحد الصالحين العُمانيين، كان في رحلة سير مع جماعة له؛ فوصل بهم المجلس والمقام أن يستريحوا لتناول التمر والقهوة تحت ظل شجرة في بطن أحد الأودية، فكان كل من في المجلس يأكل التمرة، ويلفظ الفلح أو النوى ويدفعها أو يرميها يُمنة ويسرة على جانبيه، إلا ذلك الرجل الصالح؛ فكان يجمع الفلح في يده؛ فاستغرب الجمع من تصرفه، فسألوه عمَّا يفعله؟ فرد عليهم: أخشى أن ينبت من هذا الفلح صرما في بطن هذا الوادي، فيكبُر ويسد مجرى الماء، فيرجع السيل إلى بيوت الناس.
قديما، كانت كل قشور الفاكهة وبقايا الطعام لها قيمة، لأنها نعمة، فالفلح مثلا -بعد طحنه- كانت له استخدامات علاجية وغذائية عديدة في الطب الشعبي العُماني القديم، وهذا ما تؤكد عليه الكثير من الدراسات والأبحاث الحديثة اليوم، حول أهمية المُكونات العضوية والمعدنية لنوى التمر، وفائدته الصحية والغذائية؛ حيث أصبحت مُكوناته تدخل في الكثير من الصناعات الدوائية، وفي بعض مستحضرات التجميل، والمواد المستخدمة في المُحافظة على البشرة.
وقديمًا أيضًا، كان المزارعون هنا في عُمان يحرصون على إطعام ماشيتهم بعوادم التمر، وتسمَّى عندهم بـ"النفيعة"، بما فيها الفلح أو نوى التمر؛ فكثيرٌ منه كان يتم مقايضته بالوزن مع مربي الأبقار ببعض المُنتجات الزراعية والحيوانية أو بمُقابل من المال؛ فكان يخرس الفلح ويطبخ ويقدم للأبقار؛ بهدف تسمينها وزيادة إدرار حليبها، وكان له أثر وفاعلية كبيرة، تظهر بجلاء في طعم منتوجاتها، وكانت وجبة طعام الفلح المخلوط بغلاصم الأسماك وبعض قشار الفاكهة لا تُقدَّم إلا في وعاء جميل يتم نحته من جذع النخل، يسمى "المطعم"، وفي عملية نحته جماليات فنية لا تخلو من إبداع، حتى وإن قُدِّم فيه طعام للحيوان.
يَبْقَى السؤال الآن مطروحا: هل نحن سائرون على ذلك النهج، الذي كانت تقدر فيه مثل هذه النعمة، وتُستثمر مثل هذه الكميات الهائلة المهدرة من نوى التمر، كقيمة غذائية مضافة، وذات عائد اقتصادي مُستغل؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.